تعرف الرحلة العبدرية باسم الرحلة المغربية، ولكن هذا الاسم لا يطابق المسمى، فليس فيها من أخبار المغرب، وما كانت عليه حواضره وبواديه، إلا النزر اليسير، نجده في صدرها عندما حدثنا في ذهابه عن بلاد سوس وما حل بها من خطوب مجتاحة.. وبلاد ـ القبلة ـ ويعني بها ما كان شرق سوس، من الجنوب المغربي، في درعة وتافيلالت.. فيقول عنها: "وهي بلاد مات فيها العلم"، ويصف حصونها وأنهارها وعوائد أهلها في الحرب والسلم، ويثني على أخلاقهم.. كما نجده في خاتمتها وقد وصل إلى تلمسان، فاختار الرجوع إلى حاحة عن طريق وجدة وتازة وفاس ومكناسة وآزمور وآسفي.. وكان المنتظر أن يجرد قلمه لوصف هذه الحواضر ولكنه آثر السكوت ومر عليها مر الكرام كما يقولون.. ولم يفته أن يصف خراب وجدة وأطلالها.. كما لم يفته أن ينشد هذه الأبيات وقد أدركه عيد الفطر بمدينة فاس
قالوا نعيد في فاس فطب فرحا
فقلت ما لي بها دار ولا عطن
فاس ومكناسة وطنجة وسلا
عندي كزديك (2) لا أهل ولا وطن
بغداد قفر إذا لم تحولي سكنا
والقفر بغداد إن أهلي بها قطن
رحلة العبدري الحاحي
وإذا تذكرنا أن العبدري خرج من بلاده في ذي القعدة من سنة 688 أي بعد قيام المرينيين بنحو العشرين سنة .. وإذا تكرنا تلك الأهوال والفواجع التي حلت بالبلاد المغربية وهي تعاني حروبها الداخلية والخارجية.. وإذا تذكرنا الصراع بين الموحدين والمرينيين من جهة .. والصراع بين المرينيين وبني عبد الواد وبني الأحمر من جهة أخرى .. وإذا تذكرنا انهيار الإمبراطورية الموحدية وقيام دويلة بني الأحمر في غرناطة .. وبني عبد الواد في تلمسان .. وبني مرين في فاس .. وبني حفص في تونس وبجاية ـ علمنا أي ظروف كانت تحيط بالمغرب وأي عصر كان يعيش فيه صاحب الرحلة.
فالتشاؤم والانقباض وسوء الظن بالحياة والأحياء كانت مسيطرة على صاحبنا إلى أبعد حد حيث يقول: " وقد تعطل في هذا العصر موسم الأفاضل وتبدد في كل قطر نظام الفضائل .. وقد صار الملك الذي هو نظام الأمور وصلاح الخاصة والجمهور في أكثر الأرض منقوص الدعائم، مهدم القوائم، يدعيه كل غوي كالملكيشي وعبد القوي (3) .. أو ليس من الأمر الخارج عن كل قياس أن المسافر عندما يخرج عن أقطار مدينة فاس، لا يزال إلى الإسكندرية في خوض ظلماء وخبط عشواء، لا يأمن على ماله وعلى نفسه، ولا يؤمل راحة في غده، إذا لم يرها في يومه وأمسه".
ولا يسعه إلا أن يستنجد بملك البرين يوسف بن يعقوب المريني ملك المغرب إ ذاك لينشر الأمن، ويرفع الظلم، ويرفع إليه قصيدة ميمية طويلة يضمنها شكواه مما شاهده من تعسف وانتهاك للحرمات وتطاول الأقوياء على الضعفاء.
في تلمسان: " ثم وصلنا مدينة تلمسان فوجدناها بلدا حلت به زمانة الزمان، وأحلت به حوادث الحدثان فلم تبق به علالة، ولا تبض في أرجائه للظمآن بلالة"
ويستمر صاحبنا في هذه السجعات الخاقانية فيصف البلاد عمرانيا وعلميا وصفا لا يخلو من نقد جارح وأسف شديد على انحطاط المستوى العلمي بين طبقة القضاة والمدرسين هناك، ولا يرى من أهل العلم بها إلا الشاعر ابن خميس فيركن إليه ويذاكره في اللغة والأدب والعروض ويسجل بعض شعره في الرحلة مع التعليق عليه.
ويغادر تلمسان بعد أن مكث بها طويلا إلى مليانة ثم الجزائر ثم بجاية التي قول عنها (بقية قواعد الاسلام ومحل جلة من العلماء الأعلام)، والحقيقة أن بجاية كانت مدينة لامعة الشهرة في الشمال الإفريقي وكانت مأوى كثير من عباقرة العلم والأدب، وكتب المعاجم طافحة بأعلامها .. وكتاب الغبريني ـ عنوان الدراية ـ شهير مطبوع .. وكانت تابعة لتونس أيام وحدة الدولة الحفصية ثم انفصلت عنها أيام انقسام الدولة..
ويغتنم العبدري أيام مقامه القصير في بجاية فيأخذ عن شيخها محمد بن صالح الكناني الشاطبي .. ثم يتابع السير إلى قسنطينة فيصف معالمها وآثارها العمرانية وباكر شيخها ابن باديس ويسأله عن قصيدة ابن الفكون اليائية وصاحبها .. ثم يأخذ طريقه إلى عنابة ثم باجة .. وهو لا يفتأ باحثا عن الشيوخ والرواة ليروي حديثا .. أو يستفيد خبرا .. أو يسمع أثرا.
في تونس: " ثم وصلنا إلى مدينة تونس مطمع الآمال ومصب كل برق ومحط الرجال من الغرب والشرق، وملتقى الركاب والفلك، والعبدري معجب بتونس وبجمالها الطبيعي وازدهارها العمراني وتقدمها العلمي .. وكثرة شيوخها وأعلامها، فشمر عن ساعده لاقتناص الشوارد واغتنام الفوائد، ولم يترك شيخا إلا أخذ عنه واستجازه لنفسه ولابنه محمد، ويطول بنا الحديث لو سطرنا قائمة هؤلاء الشيوخ الذين أخذ عنهم العبدري في هابه إلى الديار المقدسة تم في اوبته منها، وكأنه لم يرو ظمأه في المرة الأولى، فأردفها بثانية .. والحق أن تونس كانت إذ ذاك عاصمة الحفصيين، وقد ورثوا مجد الموحدين ولجأ إليهم كثير من أعلام الأندلس وازدهرت الحركة العلمية بسببهم ازدهارا نلمس أثره واضحا في مؤلفات ذلك العصر، وكانت عناية العبدري متجهة إلى مزيد من رواية الحديث والشعر واللغة والفقه والنحو فوجد ضالته هناك.
ومن تونس توجه إلى القيروان وهناك رأى مدينة الدهر بجمالها، وخلف مزيدا من ذكرياتها وآثارها فاتصل بالشيخ عبد الرحمان الدباغ صاحب معالم الإيمان، كما قدمنا في القسم الأول من هذا البحث ومن القيروان، بعث بقصيدة إلى ابنه محمد ينصحه فيها ويتشوق إليه، وتظهر في القصيدة روح العبدري المتصوفة المتزهدة المتبرمة بالحياة والأحياء.
ويودع القيروان ويودع معها لهجته المعتدلة المتزنة، ويصل قابس ـ ذات اخبر الخبيث والمحيا العابس ـ ومنها إلى طرابلس ومسراته وبرقة وقد أطنب في وصف أعرابها وعوائدهم ولغتهم وقاسى الأمرين في اجتياز تلك الصحراء الشاسعة إلى مدينة الإسكندرية.
في الإسكندرية: "مدينة الحصانة والوثاقة، وبد الإشراق اللامع والطلاقة، وطلاوة المنظر وحلاوة المذاقة كل عنها ظفر الزمان ونابه، ومل منها جيش الحدثان وأحزابه".
وكان وصف العبدري للإسكندرية رائعا جامعا، فم يترك شاذة ولا فاذة إلا سجلها وأبدى رأيه فيها بصراحته المعهودة التي تبغ أحيانا حد الانتقادات المرة والسب الصريح الذي تشمئز منه النفس. ولكن العبدري هكذا خلق .. ولا تبدي لخلق الله.
والشيء الذي أثار حفيظته في الإسكندرية هو نظام الجمارك في تفتيش الصادر والوارد واستخلاص الواجبات الجمركية، فقد انفجر هناك البركان ورفع عقيرته بالنهي عن هذا المنكر .. كما انفجر سفه من الرحالة الأندلسي ابن جبير الذي رفع قصيدة في الموضوع لسلطان صلاح الدين الأيوبي..
بعد هذا الانفجار أخذ في ابحث عن الأشياخ والأخذ عنهم فاتصل بالشيخ أبي الحسن بن المنير وغيره، من أشياخ الإسكندرية وملأوا صابه من الروايات والأسانيد والأخبار والأشعار وسطر جميع ذك بقلمه في الرحلة..
في القاهرة: للقاهرة وسكانها صورة قاتمة في ذهن العبدري وقلمه لا نناقشها، لأنها أقرب من المسائل الشعورية التي لا تخضع للمنطق .. ولأنها ثانيا سجلت بأسلوب صبياني سخيف..
ورغم ذلك فقد أقبل العبدري على أشياخها ليستفيد منهم، ولكنه نعى عليهم اشتغالهم بعلم المنطق فقال أولاك "ومن الأمر المنكر عليهم، والنكر المألوف لديهم تدارسهم لعلم الفضول وتشاغلهم بالمعقول عن المنقول".
ومكث العبدري في القاهرة في بيت من بيوت مدارس الطلبة كأنه طالب من الطلاب .. لا عالم من العلماء يستحق الإكرام وحسن الضيافة .. ومزيد الاهتمام.. ولعل في ذلك ما يفسر لنا بعض أسباب ثورته النفسية بالقاهرة..
وأخذ عن أبن دقيق العبد المحدث الشهيد صاحب المدرسة الكاملية.. كما أخذ عن الدمياطي ولقي منهما برا وعطفا واهتماما.. كما أخذ عن غيرهما من أعلام ذلك العصر وحشر مروياته في الحديث والفقه والشعر واللغة كلها في الرحلة..
ثم وصف مصر وصفا جغرافيا وعمرانيا وتاريخيا يدل على اطلاع واسع ودقة في الملاحظة.. وأثنى مرارا على السلاطين الأيوبيين الذين يسميهم، الأتراك.
ويخرج في شوال من سنة 689 من القاهرة صحبة الركب المصري ويقطع صحراء سيناء إلى العقبة، وهناك يسطر معلوماته الجغرافية فينقل عن الجغرافي الأندلسي أبي عبيد البكري بعض المعلومات وينتقدها، وقد قدمنا نموذجا لذلك في القسم الأول.
ومن العقبة يتابع طريقه صحبة الركب فيصف الطريق وصفا جامعا مفيدا يتعرض فيه لضبط الأعلام وتقدير المسافات ووصف البيئة وغيرها.. ويدخل مكة يوم التروية وهناك يطلق لعاطفته الدينية العنان فيسطر قلمه ما شاء من ابتهاج وسرور بالوصول إلى هذا البلد الأمين مهبط الوحي .. وكعبة الدين.. وقبلة المسلمين ويصف المعالم والمآثر والأضرحة والمناسك.. ولا يفوته انتقاد بعض أعمال الجاهلين بإقامة المناسك.. ويتأسف لكثير من مظاهر الفوضى عند زمزم.. والمقام.. والحجر الأسود.. وكان عازما على "المجاورة" بمكة والإقامة بها فاكترى دارا للسكنى وصرف بعض ما كان معه من الأسباب ليتفرغ للعبادة .. ولكن حال دون ذلك نزاع شب بين الركب وأمير مكة، أدى إلى اصطدام وقتال وفوضى.. فخرج العبدري مع الركب يذرف دموع الحسرة وأملى علينا فصلا فقهيا طويل الذيل في الحج والمناسك يدلنا على باعه الطويل في هذا الفن.
ويعرج على المدينة المنورة فيزور قبر المصطفى عليه السلام، ولا يقيم الركب فيها إلا يوما وبعض يوم ولكن رغم ذلك فقد رأى العبدري كثيرا من المعالم والبقاع، ووصف المسجد والروضة الشريفين وتأسف على خلو مدينة الرسول من العلم والعلماء.. وأنشد قصيدة دالية بمدح فيها سيد الكائنات.
وكان رجوعه إلى مصر عن طريق فلسطين فزار حرم الخليل وبيت المقدس مقابر الأنبياء وسطر كل ما يعلمه من تاريخ هذه البلاد.. وما شاهد من آثار الحروب الصليبية هناك، وقد كان وصفه لمشاهدته طريقا مفيدا مركزا حول أهم الأخبار والآثار.. وبالمقارنة التاريخية يظهر أنه استفاد كثيرا من رحلات من قبله ولا سيما ابن جبير.. وبعد زيارة قصيرة لعسقلان وغزة وذكره للعلاج في بيت من بيوت المدرسة الظاهرية عند شيخه شرف الدين الدمياطي.
ومنها يقصد الإسكندرية فيمكث بها سبعة أيام عند شيخه ابن المنير، ومنها يقطع تلك المفازة التي عرفها في صحراء برقة وطرابلس، ولكنه هذه المرة لا يسخط ولا يغضب لأن ثورته النفسية قد انطفأت جمرتها وسكنت حدتها..
وفي تونس تنشرح نفسه من جديد للمدينة التي أحبها وأحبته، فجلس إلى شيوخها من جديد، وجدد العهد بأسانيدهم ومروياتهم.. كما اتصل بشيوخ آخرين عرفهم في أوبته كأبي العباس الغماز الخزرجي البلنسي (4)، وأبي الحسن بن ابراهيم التجاني ، وهو ابن عم التجاني صاحب الرحلة التونسية الشهيرة.. وقد استفاد العبدري من أبي الحسن التجاني كثيرا، وروي عنه بعض قصائد ابن الأبار وحازم القرطاجني، وغيرهما وأثنى على أدبه وعلمه واطلاعه.. كما استفاد من آخرين..
وعلى طريق بجاية وتلمسان ووجدة يرجع إلى وطنه بعدما فارقه نحو السنتين..
ورغم أن أسلوب العبدري يبدو فيه كثير من التكلف والاهتمام بالمحسنات.. فقد استطاع أن يكتب رحلة نفيسة خلدن صاحبها وشرفت عصره(5).. واحتلت مكانتها كتراث مغربي جدير بالدراسة والبحث والنشر.
(1) ـ راجع البحث الأول في العدد الثاني من دعوة الحق لهه السنة
(2) ـ هدمها يعقوب بن عبد الحق المريني سنة 670 هـ
(3) ـ كلاهما من رجال القبائل المتمردة أيام حروب المرينيين مع بني عبد الواد.
(4) ـ انظر ترجمته في عنوان الدراية ص70.
(5) ـ انظر ترجمته في الرحلة التجانية ط تونس، ص11.
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.