أخر الاخبار

صلاح الدين الأيوبي ويعقوب المنصور

صلاح الدين الأيوبي ويعقوب المنصور

عبد القادر الصحراوي

لقد مر بنا جميعا في قراءاتنا التاريخية، عن الحروب الصليبية، أو عن عصر صلاح الدين الأيوبي بالذات، أو عن حياة الملك المغربي الموحدي، يعقوب المنصور أن صلاح الدين الأيوبي في غمرة الحروب الصليبية، وعندما كان محاصرا للإفرنج الذين كانوا محاصرين للمسلمين في عكا، فكر في أن يستنجد بالملك المغربي يعقوب المنصور، وأنه بعث إليه بالفعل وفدا يطلب منه أن يمده ببعض قطع أسطوله البحري، فقد كان للمنصور أسطول بحري هائل، على حين كان المسلمون عموما في الشرق يشكون من ضعف قوتهم البحرية، الأمر الذي لم يكونوا يستطيعون معه أن يقفوا في وجه هذا الزحف البحري الهائل، المتوالي على الشرق الإسلامي من فرنسا وإنجلترا وألمانيا وغيرها من الدول الأوربية.

صلاح الدين الأيوبي ويعقوب المنصور

ومر بنا أيضا في قراءاتنا التاريخية أن الملك المغربي يعقوب المنصور، لم يستجب لرغبة صلاح الدين، ولم يبعث إليه أسطولا، ولم يحرك من أجله ولا من أجل المسلمين جميعا في الشرق ساكنا، وذلك لسبب واحد اتفق عليه جميع المؤرخين الذين أوردوا قصة هذا الاستنجاد، ذلك السبب هو أن صلاح الدين لم يخاطب يعقوب المنصور بلقب: أمير المؤمنين.

لم يرد ذكر لقصة هذا الاستنجاد في كتاب المعجب لعبد الواحد المراكشي الذي كان معاصرا لدولة الموحدين، وإنما ورد ذكرها في هامش الطبعة الأخيرة منه، طبعة مصر عام 1949، وقد ورد في هذا الهامش ما نصه:
«قال أهل التاريخ: وفي بعض هذه الحملات أحس صلاح الدين الأيوبي صاحب عرش مصر والشام بحاجته إلى معونة المسلمين في المشرق والمغرب على رد عادية الصليبيين على بلاده، فأرسل الرسل والكتب إلى أمراء المسلمين هنا وهناك، وكان فيمن أرسل إليه صاحب عرش المغرب والأندلس من أمراء الموحدين -يعني يعقوب المنصور- وسماه فيما كتب إليه أمير المسلمين، قالوا: فغضب ملك مراكش إذ لم يسمه  صلاح الدين، أمير المؤمنين، ولم يستجب لندائه».

وجاء بعد عبد الواحد المراكشي مؤرخ مغربي آخر، هو ابن خلدون، الذي أورد القصة وإن كان لم يعللها، فقال في معرض الحديث عن الرسول الذي أرسله صلاح الدين إلى يعقوب المنصور، قال:
«وبعثه إلى المنصور بهدية، ووصل إلى المغرب، ووجد المنصور بالأندلس، فانتظره بفاس إلى حين وصوله، فلقيه وأدى الرسالة، فاعتذر له عن الأسطول»
ثم جاء صاحب الاستقصا، فأورد القصة بتعليلها التاريخي المعروف، فقال:
«ولما وقف عليه المنصور -أي لما وقف المنصور على كتاب صلاح الدين- ورأى تجافيهم فيه عن خطابه بأمير المؤمنين، لم يعجبه ذلك، وأسرها في نفسه، وحمل الرسول على مناهج البر والكرامة، ورده إلى مرسله، ولم يجبه إلى حاجته».

ثم ننتقل من المؤرخين المغاربة إلى غيرهم، فنجد أن المؤرخين الذين أوردوا هذه الحادثة إلا قليلا منهم، أوردوها تقريبا بنفس الأسلوب الذي وردت به في كتب المؤرخين المغاربة، من غير محاولة لتحقيقها، أو للبحث عن أسباب أكثر معقولية، لتقاعس المنصور في موطن لم يكن يظن فيه من مثله أن يقف مثل هذا الموقف السلبي، وفي حرب كهذه، سواء اعتبرناها حربا دينية، كما يوحى بذلك اسمها، وكما عرفت بذلك في التاريخ، أو حربا عدوانية توسعية استعمارية كما قد يبدو لنا بعد حين.

وهذا أبو شامة المقدسي، مثلا، في كتابه (الروضتين في أخبار الدولتين) في الجزء الثاني الذي خصصه للحديث عن حياة صلاح الدين الأيوبي، يقول عند ذكر قصة هذا الاستنجاد ما نصه:
«لم يحصل من جهة سلطان المغرب ما التمس منه من النجدة، وبلغني أنه عز عليهم كونه لم يخاطب بأمير المؤمنين، على جاري عادتهم».

حتى المؤرخون المحدثون، المنهجيون، لم يزيدوا شيئا على ما ورد في الكتب القديمة، فهؤلاء الأساتذة الدكتور فليب حتي، والدكتور إدوارد جرجي، والدكتور جبرائيل جبور، في كتابهم المطول: تاريخ العرب، يقولون في معرض الحديث عن يعقوب المنصور:
«وهو الذي استنفره صلاح الدين، وأرسل إلى بلاطه وفدا يرأسه رسول من أقارب أسامة بن منقذ، ومعه هدايا ثمينة، يستنجده على الفرنج الواصلين إلى الديار المصرية، وساحل الشام، ولما كان صلاح الدين يقر بخلافة العباسيين فرسوله لم يخاطب أبا يوسف -يعقوب المنصور- بأمير المؤمنين، بل دعاه أمير المسلمين، فعز ذلك على أبي يوسف المنصور، ولم يجبه إلى ما طلبه».

على أن هنالك زيادة، نجدها في هذا الكتاب، كما نجدها في غيره، تفيد أن يعقوب المنصور، عاد بعد ذلك فجهز قطعا من الأسطول لإنجاد صلاح الدين، أو لاعتراض طريق الغزاة الأوربيين في البحر الأبيض المتوسط للحيلولة بينهم وبين الوصول إلى مصر أو سورية أو فلسطين. أورد هذه الزيارة ابن خلدون وصاحب الاستقصا بنص واحد، هو قولهما معا بالحرف:
«ويقال إنه جهز له بعد ذلك مائة وثمانين أسطولا، ومنع النصارى من سواحل الشام، والله أعلم».
وجاء الدكتور حتي وزميلاه، فلم يزيدوا على أن حذفوا كلمتي: الله أعلم، وصاغوا هذه الزيادة صياغة أقرب إلى فهم القراء المعاصرين، وذلك حيث يقولون في كتابهم تاريخ العرب:
«ويقال إنه جهز له بعد ذلك أسطولا من مائة وثمانين قطعة، لمنع النصارى من شواطئ الشام».

ومهما يكن، فإنني في حدود قراءاتي التاريخية الخاصة، لم أستطع أن أتأكد من صحة هذه الزيادة، أعني من صحة أن يعقوب المنصور عاد بعد ذلك فجهز أسطولا لإنجاد العرب والمسلمين في الشرق، وكم كان بودي أن أتأكد من صحتها، لأرفع عن ضميري هذا العبء الثقيل الذي أنوء به، حتى لكأنني مسؤول عن موقف المنصور الموحدي، هذا الملك العظيم الذي كنا نريد له أن يتوج عظمته بمحو هذه الوصمة التاريخية، ولكن، ماذا أفعل وأنا محصور بين كتب تاريخية تورد هذه الزيادة بين قوسين، أحدهما: يقال، وثانيهما: والله أعلم، وبين كتب أخرى لا تقول شيئا في الموضوع بالمرة، إما لأنها لم تسمع به، وإما لأنها غير متأكدة من صحته، وإما لأنه لم يقع إطلاقا، وهذا الذي أرجحه أنا شخصيا وإن كانت أدلتي في هذا الترجيح حتى الآن كلها سلبية، أي أنها لا تعدو اعتبار الشك المخيم على عبارة المؤرخين الذين أوردوا هذه الزيادة بالتقليد والمناقلة، واعتبار صمت المؤرخين الآخرين أيضا، وأرجو أن أعثر، أو أن يعثر غيري في المستقبل، على ما ينقص من قيمة هذا الترجيح، أو ينقضه.
أما الذي بين أيدينا حتى الآن، والذي لا سبيل إلى الشك فيه، فهو أن صلاح الدين استنجد بيعقوب المنصور، فلم ينجده، لأنه لم يخاطبه بأمير المؤمنين.

على أن هنالك كاتبا مغربيا آخر، وفق إلى أن يفتح في هذا الباب فتحا جديدا، ذلك هو الأستاذ عبد المجيد بن جلون، في كتابه: (هذه مراكش) فإنه لم يكتف عند ذكر قصة هذا الاستنجاد، بأن يوردها عارية من كل تعليق أو حكم، أو أن يكتفي بالتعليل التاريخي التقليدي المعروف، وإنما وجد لموقف المنصور تعليلا آخر له نصيبه الكبير من الصحة، كما أنه لم يتردد في أن يحكم عليه، في صراحة وشجاعة تحمدان له.
يقول الأستاذ ابن جلون، في كتابه "هذه مراكش":
(ولكن يعقوب المنصور أخطأ خطأ كبيرا حينما أرسل إليه صلاح الدين الأيوبي يطلب مؤازرة أسطوله، وإقفال البحر الأبيض المتوسط في وجه الأساطيل الأوربية، في طريقها إلى بيت المقدس، ويعلل المؤرخون ذلك بأن صلاح الدين لم يخاطبه بلقب أمير المسلمين، ونرى نحن أن لهذا الرفض علاقة ببعض الحروب التي قامت على حدود الموحدين الشرقية، ولو أقدم المنصور على إقفال البحر الأبيض المتوسط، وكان أسطوله من أقوى الأساطيل الإسلامية، لكان من الممكن أن يغير مجرى التاريخ العربي).

هذا ما ورد في كتاب الأستاذ ابن جلون، ولعله يقصد بقوله: لم يخاطبه بأمير المسلمين، لم يخاطبه بأمير المؤمنين، ومهما يكن فهذا تعليل جديد لموقف المنصور، وإن كانت طبيعة كتاب (هذه مراكش) لم تسمح لمؤلفه بشرح فكرته شرحا كافيا أو محاولة التدليل عليها، فقد وضع الكتاب للتعريف بالمغرب كله، ماضيه وحاضره، ومشاكله السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية وغيرها، وذلك ما لا تتأتى معه الإفاضة والتحليل.

الآن وقد أوردنا بعض ما أمكننا الوصول إليه من النصوص التاريخية في الموضوع، نريد أن نعود إلى الوراء قليلا، لنلقي ضوءا أكثر على هذه الحادثة التاريخية، ولنشرح ظروفها وملابساتها، ولنبحث عن بعض تفاصيل هذه السفارة وأسباب إخفاقها، لا لننتحل عذرا للمنصور، فإننا لا نتردد في أن ندينه منذ البداية؛ لقد أخطأ، ولن يمنعنا اعتزازنا بتاريخنا من أن نسجل هذا الخطأ. إن التاريخ غير الملاحم، فنحن لا نقرأه ... لننتشي من عظمة الأجداد، ونلتذ بالإحساس بالفخر بهم، وإنما نقرأه أولا وقبل كل شيء، لنعرفه، لنعرفه على حقيقته ما أمكن، ثم لنستمد العبرة منه، من خطأ إبطاله ومن صوابهم، من إحسانهم إذا أحسنوا، ومن إساءتهم إذا أساءوا، وقد أحسن المنصور في أشياء كثيرة جدا، ولكنه أساء في هذه، ورحم الله الشاعر الذي كان يقول: 
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها     كفى المرء نبلا أن تعد معايبـه

صلاح الدين ويعقوب المنصور-الجزء الثاني
صلاح الدين ويعقوب المنصور-الجزء الثالث


تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -