أخر الاخبار

صلاح الدين ويعقوب المنصور-3

صلاح الدين ويعقوب المنصور

  عبد القادر الصحراوي

صلاح الدين ويعقوب المنصور-الجزء الأول
صلاح الدين ويعقوب المنصور-الجزء الثاني

بقي علينا أن نعرف شيئا عن السبب المباشر لهذه الحروب.
وإذا كان ذلك سيضطرنا إلى أن نقف وقفة قصيرة، أو نخطو خطوة أخرى إلى الوراء، فإنه سيساعدنا على تصور القضية التي نحن بصددها تصورا صحيحا، وسيساعدنا أيضا على فهم طبيعة هذه الحروب التي لا نريد أن نسميها صليبية، إلا لأنها عرفت بذلك في التاريخ.

كان العالم الإسلامي في الشرق تتنازعه خلافتان، وصلتا معا إلى الدرك الأسفل من الهوان والضعف، هما الخلافة العباسية في بغداد، والخلافة الفاطمية في القاهرة، ولم يكن قد بقي لهما من الخلافة إلا اسمها وبعض مظاهرها، أما السلطة العملية فقد كانت بيد أمراء من جنسيات مختلفة، توزعوا العالم العربي والإسلامي فيما بينهم. وكانوا هم أيضا في الحقيقة أمراء إقطاع بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة، يستمدون وجودهم الشرعي من اعتراف الخلافة بهم، مقابل حمايتهم لها أو عدم خروجهم عليها على الأقل، ويعتمدون في حماية وجودهم الفعلي على قواهم الحربية، وعلى قدرتهم على المخاتلة والدس والكيد والخيانة.

وفجأة، وفي غمرة هذا الانحلال والضعف والتفرقة، يتسرب إلى الإسلام، ومن بعيد جدا، دم آخر حار جديد لم تفسده المدنية، ولم تعبث به الأهواء والنزوات والأطماع الرخيصة، فتنتعش الدولة الإسلامية، وتفيق من غفوتها الطويلة، لتسترد أراضيها التي كانت اغتصبتها منها في فترات ضعف الدولة البيزنطية، أو الدولة الرومانية الشرقية التي كانت لا تزال موجودة حتى ذلك الحين، تدافع عن عاصمتها القسطنطينية ضد المسلمين، وتغتنم فترات ضعفهم، لتسترد منهم ما أمكنها استرداده مما انتزعوه منها من مستعمراتها في الشرق، وتقاوم من جهة أخرى محاولات الكنيسة الغربية للاستيلاء عليها وإخضاعها لنفوذها.

انحدر إلى الإسلام هذا الدم الحار الجديد من تركستان وهي منطقة في آسيا الوسطى، بين سيبيريا وبحر قزوين، وإيران وافغانستان والهند، وكان قد ظهر فيها زعيم يدعى سلجوق، كان هو رأس قومه المعروفين باسم الغز.

وقد عرف الغز الإسلام لأول مرة غزاة فاتحين، ولكنهم لم يلبثوا أن اعتنقوه في حماسة نادرة المثال، واستمروا مع ذلك في زحفهم يكتسحون الإمارات الصغيرة التي تعترض طريقهم من إسلامية وغيرها، حتى وصلوا إلى بغداد، واتصلوا بالخليفة العباسي، وعرضوا عليه حمايتهم مقابل اعترافه لهم بالسلطنة، وهكذا ظهرت في العالم الإسلامي دولة فتية، وقوية أيضا، هي الدولة السلجوقية، نسبة إلى زعيمها الأول سلجوق الغزي.

وبزعامة الأمراء السلاجقة وتحت قيادتهم استطاع المسلمون أن يستردوا من الدولة البيزنطية الرومانية، أراضيهم التي كانت قد اغتصبتها منهم، وأن يكتسحوا مستعمراتها في آسيا الصغرى، وأن يهددوا عاصمتها القسطنطينية، وهنا لا يجد الإمبراطورالبيزنطي  بدا من أن يلجأ مكرها إلى الكنيسة الغربية يستنجد بها، فيبعث رسله في سنة 1094 إلى البابا اربانوس الثاني، ويجدها هذا فرصة مواتية للتدخل، ولإخضاع الكنيسة الشرقية إلى سلطانه، فيلقى في سنة 1095 خطبته الشهيرة المتقدمة، يستنهض بها باسم الدين، همم الأمم المسيحية الغربية لقطع دابر الكفار والبرابرة!!! وتجد الصرخة آذانا صاغية فتتوالى الحملات على الشرق الإسلامي العربي برا وبحرا من فرنسا واللورين وإيطاليا وصقلية وانجلترا وألمانيا وغيرها، فتسقط تباعا في أيدي الصليبيين سواحل سورية ولبنان وفلسطين وكثير من مدنها الداخلية، ويحتلون بيت المقدس، وتتكون في الشرق إمارات ومستعمرات لاتينية متعددة ويمضي على ابتداء الحملة الصليبية الأولى نحو من اثنين وثلاثين سنة، قبل أن يظهر في شمال سورية أمير سلجوقي وقائد حربي عظيم هو عماد الدين زنكي، الذي استطاع هو وابنه نور الدين محمود من بعده، أن يقفا في وجه الزحف الصليبي، وأن يستردا من الصليبيين بعض المدن السورية.

ويشتد ساعد نور الدين محمود فيطمع في ملك مصر، وعليها اذ ذاك الخليفة العاضد، آخر الخلفاء الفاطميين، وينجح نور الدين في أن يفرض على الخليفة الفاطمي وزيرا سلجوقيا، شابا في الثلاثين من عمره، طموحا في تواضع، يبدو عليه الذكاء، كما يغلب الحياء على مظهره، هذا الشاب المتواضع، أو ذلك الوزير الخطير الطموح، هو الذي سيعرفه التاريخ فيما بعد باسم الناصر لدين الله الأمير يوسف بن أيوب صلاح الدين.

ويموت العاضد آخر الخلفاء الفاطميين بعد سنتين ليخلو الجو لصلاح الدين وحده، وليصبح وحده صاحب الكلمة في مصر، لا يخاف على سلطانه إلا من ولي نعمته نور الدين محمود، وتبدو بوادر من نور الدين تحتم على صلاح الدين الأيوبي أن يفكر جديا في الاحتياط لنفسه ويهديه تفكيره إلى أن عليه أن يفتح بعض البلاد لتكون له معقلا من رئيسه إذا ما حاول المكر به، ويجب أن تكون هذه البلاد المفتوحة، أو هذا المعقل بعيدا جدا، حتى لا تصل إليه يدا نور الدين محمود.

وهكذا فتح صلاح الدين اليمن في جنوب بلاد العرب، وهكذا أيضا أرسل جيشا تحت قيادة ابن أخيه تقي الدين ليفتح له بعض بلاد المغرب.

وهنا يبدأ ما سبق أن ذكرناه من تعليل امتناع يعقوب المنصور عن نجدة صلاح الدين ببعض الخلافات على الحدود.
فنحن نعلم أن الإمبراطورية المغربية على عهد يعقوب المنصور كانت تمتد من البحر المحيط غربا إلى برقة شرقا، أي أن حدودها كانت متاخمة لحدود مصر.

وبالفعل فقد بعث صلاح الدين للمغرب العربي ابن أخيه تقي الدين غازيا، لكن يبدو أن تقي الدين لم يوغل كثيرا في المغرب، وإنما ترك إنجاز هذه المهمة لأحد مواليه وقادته العسكريين شرف الدين قراقوش، الذي وصل في غزوه إلى طرابلس الغرب، ويعرف هذا القائد في التاريخ باسم قراقوش التقوي نسبة إلى تقي الدين بن أخ صلاح الدين الأيوبي، وهو غير بهاء الدين قراقوش وزير صلاح الدين، الذي تعرفه اليوم المسارح المصرية كشخصية هزلية طريفة في سخفها وفي دكتاتوريتها المضحكة.

مهما يكن فقد بدأ الصراع بالفعل بين الدولة الأيوبية والدولة الموحدية، وكلف هذا الصراع الدولة الموحدية غاليا، لأنها لم تكن متفرغة له، بل كانت مشغولة هي أيضا بحروب أخرى صليبية في شمال الأندلس.

وعندما كان يعقوب المنصور على وشك أن يغلب الفونس الثامن ملك قشتالة على طليطلة عاصمة ملكه، ويعيدها إلى الإسلام حملت إليه الأنباء خبر قراقوش وحلفائه من العرب وبني غانية في شرق المغرب.

أما قراقوش فقد عرفنا أمره، وأما حلفاؤه العرب فهم بنو هلال، الذين كان الفاطميون قد رحلوهم إلى الأندلس لأسباب سياسية، وأما بنو غانية فقد كانوا عمالا لدولة المرابطين على جزائر البليار، ميورقة، ومنورقة، ويابسة. وظلوا على ولائهم للمرابطين حتى بعد انقراض دولتهم في المغرب، وقيام دولة الموحدين على أنقاضها، وقد اشتبكوا في معارك دامية مع الموحدين في جزائر البليار نفسها. فلما غلبوا على أمرهم فروا إلى الناحية الشرقية من المغرب العربي، حيث ظلوا يناوئون الموحدين، وحيث تحالفوا من بعد، هم والعرب الهلاليون، وقراقوش التقوي، على حرب يعقوب المنصور والإفساد عليه.

يقول ابن خلدون عند الحديث عن قراقوش التقوي: (وكان من خبره أن صلاح الدين صاحب مصر، بعث تقي الدين ابن أخيه شاه إلى المغرب لافتتاح ما أمكنه من المدن تكون له معقلا يتحصن فيه من مطالبة نور الدين بن زنكي صاحب الشام... إلى أن يقول: فأما قراقوش فلحق ششرية، وخطب فيها لصلاح الدين ولأخيه تقي الدين، وكتب لهما بفتح زويلة (من أعمال ليبيا) ولم يزل يفتح البلاد إلى أن وصل إلى طرابلس... ولما وصل ابن غانية إلى طرابلس، ولقي قراقوش، اتفقا على المظاهرة على الموحدين).

وقد ورد في هامش طبعة مصر الأخيرة لكتاب المعجب، في صفحة 273: (كان العرب يؤازرون بني غانية في هذه المعارك بينهم وبين الموحدين، كما يوازرهم الغز من المماليك المصريين.)

وورد فيه أيضا في صفحة 283: (كان أبو يوسف –يعقوب المنصور- فيما يروي أهل التاريخ، موشكا أن يغلب الادفونش –الفونس الثامن- ملك قشتالة على طليطلة  عاصمة ملكه، ويعيدها إلى الإسلام وإنما حمله على قبول الهدنة، ما بلغه من حركة ابن غانية في إفريقية مع قراقوش الأيوبي.)

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، لم يقف تأثير حركة قراقوش وحلفائه من العرب وبني غانية على حمل يعقوب المنصور على التضحية بانتصاره على الفونس الثامن، وإنما تعداه إلى أكثر من ذلك، فقد لقي يعقوب عنتا كبيرا في حرب قراقوش وحلفائه، وتحمل من أجل القضاء على حركتهم تضحيات كثيرة، فقد هزموه أولا وشردوا جيشه، لكنه أعاد عليهم الكرة ثانية فتمكن من أن يهزمهم ويقضي على حركتهم.

وهنا لم يجد قراقوش ومن معه من الغز، إلا أن يستسلموا ليعقوب المنصور، وأن يستأمنوه، ولما رأى يعقوب ما هم عليه من الشجاعة والنجدة والمقدرة على القتال، فضل أن يعفو عنهم، ويحتفظ بهم إلى جانبه، بل ويستخدمهم في حروبه.

وليس من الصعب علينا أن نتصور أن هؤلاء الموالي بعد أن غلبوا على أمرهم، وبعد أن عوملوا هذه المعاملة الكريمة، سيحاولون بكل الوسائل أن يتنصلوا من جرمهم، وأن يلقوا التبعة كلها على رؤسائهم الذين بعثوهم إلى المغرب، وكلفوهم بإنجاز المهمة التي قدموا غازين من أجلها، وهؤلاء الرؤساء طبعا هم صلاح الدين الأيوبي، وابن أخيه تقي الدين.

لم ينجح إذن مسعى صلاح الدين في المغرب، ولكن المنصور لم يستطع أن ينساها له، بل إن التاريخ ليحدثنا أن المنصور كان يفكر بالفعل، في غزو مصر، وذلك حيث يقول عبد الواحد المراكشي: فبلغني عن غير واحد منهم، أنه –يعقوب المنصور- صرح بالرحلة إلى المشرق، وجعل يذكر البلاد المصرية وما فيها من المناكر والبدع، ويقول: نحن إن شاء الله مطهروها.)

إذن فقد كان التوتر بالغا مداه بين الدولة الأيوبية في مصر وسورية، وبين دولة الموحدين في المغرب، ولعل هذا من أهم الأسباب التي حالت بين المنصور وبين نجدة صلاح الدين حينما استنجد به من بعد، بل إن لدينا من النصوص التاريخية ما يثبت أن صلاح الدين الأيوبي وحاشيته كانوا يتوقعون منذ البداية، أو يخافون على الأقل، أن يخفق في مهمته الرسول الذي بعثوه للاستنجاد بيعقوب المنصور، نظرا لما فعله في أطراف المغرب من قبل مولاهم وقائدهم العسكري قراقوش التقوي، ولعل النص التالي كاف في الدلالة على ذلك، فقد احتفظ لنا شهاب الدين المقدسي في كتابه (الروضتين في أخبار الدولتين) بنصوص تاريخية مهمة في الموضوع، من بينها رسالة بعثها القاضي الفاضل رئيس ديوان صلاح الدين الأيوبي إلى يعقوب المنصور، وذلك عندما طال مقام ابن منقذ بالمغرب، وأصبحت الدولة الأيوبية تخشى أن يكون ذلك بسبب بعض الصعوبات التي لقيها في مهمته، وكان من بين الصعوبات التي افترضها القاضي الفاضل ما سبق من غزو قراقوش التقوي لأطراف المغرب.

بعث القاضي الفاضل هذه الرسالة إلى عبد الرحمن ابن منقذ يلقنه بعض الأجوبة التي قد يكون في حاجة إليها، للرد على اعتراضات يعقوب المنصور أو اعتذاراته، أما النص المقصود بالذات فهو قول القاضي الفاضل في هذه الرسالة: (وان سئل «أي عبد الرحمن بن منقذ» عن المملوكين يوزيا وقراقوش وذكر ما فعلا في أطراف المغرب، بمن معهما من نفايات الرجال، الذين نفتهم مقامات القتال، فيعلمهم أن المملوكين ومن معهما ليسوا من وجوه المماليك والأمراء، ولا من المعدودين في الطواشية والأولياء، وإنما كسدت سوقهما، وتبعتهما ألفاف من أمثالهما. والعادة جارية أن العساكر إذا طالت ذيولها، وكثرت جموعها، خرج منها وانضاف إليها، فلا يظهر مزيدها ولا نقصها. ولا كان هذان المملوكان ممن إذا غاب أحضر، ولا ممن يستطيع نكاية، ولا يأتي بما يوجب شكوى من جناية، ومعاذ الله أن نأمر مفسدا بأن يفسد في الأرض، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت.)

لعل هذا النص صريح فيما ذهبنا إليه من أن الدولة الأيوبية كانت تتوقع أو تخشى منذ البداية ألا يستجيب يعقوب المنصور لاستنجادها به، نظرا للحروب التي كانت بين الدولتين على الحدود الشرقية للامبراطورية المغربية، تلك الحروب التي أرادت الدولة الأيوبية أن تلقي وزرها على قراقوش التقوي، لا باعتباره قائدا عسكريا لها، ولكن باعتباره خارجا على دولته، متصرفا بغير أمرها، ويبدو من أسلوب النص أن ما ورد فيه لا يمكن أن يكون شرحا للحقيقة بقدر ما هو تنصل واعتذار.

ومهما يكن، فإن كل هذا لا يكفي في نظرنا لتبرير موقف المنصور، فقد كانت حاجة العالم العربي الإسلامي إلى التكتل، أما هذه الحرب العدوانية التي شنها عليه الغرب بأجمعه باسم الدين، فأكبر من أن تقف إلى جانبها هذه الاعتبارات الخاصة، أو هذه الخلافات، التي لا يخلو منها عصر من العصور بين كل دولتين أو امبراطوريتين مشتركتي الحدود.

إننا لا نزال عند رأينا الأول في إدانة يعقوب المنصور، ولكن ذلك لا يمنعنا من أن نحاول شرح موقفه ما أمكن، لا لتبريره، ولكن لمجرد الشرح، وسنتحدث في الفصل المقبل إن شاء الله عن حقيقة التعليل التاريخي التقليدي لموقف المنصور، ذلك التعليل الذي يقول: إن يعقوب المنصور لم يستجب لنداء صلاح الدين لأنه لم يخاطبه بأمير المؤمنين.
تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -