تقول الوزارة إن هذا المشروع يمثل إصلاحاً عميقاً في منظومة التعليم بالمغرب. وأبرز ما يُثار حول هذه "المدارس الرائدة" هو مفهوم TARL (Teaching at the Right Level)، الذي يعني "التدريس بالمستوى المناسب". الفكرة تبدو واعدة، لكنها تثير الكثير من النقاشات.
نناقش الآن تقريراً أصدره مركز أبحاث "جي-بال"، المعروف بوزنه العلمي واعتماده على البيانات الدقيقة لتحليل السياسات الحكومية. التقرير يتناول تجربة "المدارس الرائدة" بالمغرب، ونتائجه مثيرة للاهتمام، وربما صادمة في بعض الجوانب. هذه التجربة تؤثر على حوالي 4.6 مليون طفل مغربي في مرحلة التعليم الابتدائي، إلى جانب أسرهم.
النقطة الأساسية
الإصلاح يركز على بناء المهارات الأساسية للطلاب منذ الصغر، وهو ما أشار إليه العالم الاقتصادي الشهير هيكمان في دراسته حول العوائد الاقتصادية للتعليم المبكر. وفقاً لنظريته، العائد على الاستثمار في تعليم الأطفال يكون أكبر كلما بدأنا في سن مبكرة. على سبيل المثال، إذا استثمرت دولاراً واحداً في تعليم طفل عمره بين 0 و3 سنوات، فإن العائد قد يصل إلى 7 دولارات عندما يكبر ويصبح فرداً منتجاً. أما إذا استثمرت نفس المبلغ في شخص بالغ، فإن العائد يكون أقل نسبياً، حوالي 3 دولارات فقط.
لماذا هذا الفارق؟
السبب بسيط ولكنه عميق: القدرات الإدراكية والمعرفية تُبنى بشكل أسرع وأكثر كفاءة في سنوات الطفولة المبكرة. عندما ينضج الإنسان، تصبح عملية التعلم أكثر تعقيداً وأعلى تكلفة، سواء من حيث الجهد أو الموارد المالية. لهذا السبب، التركيز على التعليم في السنوات الأولى من حياة الطفل يُعتبر استثماراً ذكياً ومربحاً على المدى الطويل.
لكن السؤال الأهم الذي يطرحه الكثيرون هو: كيف يمكن ترجمة هذه المفاهيم إلى واقع ملموس داخل المدارس المغربية؟ وهل ستنجح هذه "المدارس الرائدة" في تحقيق أهدافها؟
الجواب على هذا السؤال يكمن في الفلسفة العميقة التي تستند عليها فكرة "المدارس الرائدة"، والتي ترتبط مباشرة بطريقة عمل الدماغ البشري في الطفولة. لفهم هذا الموضوع، دعنا نركز على التشابكات العصبية في الدماغ، وكيف تتغير مع مرور الزمن.
التشابكات العصبية: أساس التعلم
عند ولادة الطفل، يكون دماغه مليئاً بالخلايا العصبية، ولكن التشابكات بين هذه الخلايا تكون بسيطة. ما بين الولادة وعمر السنتين، يحدث انفجار في التشابكات العصبية، حيث تتضاعف بشكل كبير نتيجة للبيئة المحيطة والتحفيز الخارجي. خلال هذه الفترة، يُعتبر الدماغ في أقصى درجات "مرونته"، مما يعني أن التعلم في هذا العمر يكون أكثر كفاءة وسهولة.
ولكن مع مرور الوقت، إذا لم تُستخدم هذه التشابكات، يبدأ الدماغ في التخلص منها في عملية تُسمى التقليم العصبي. هذه العملية تساعد الدماغ على الاحتفاظ فقط بالتشابكات التي تُستخدم بشكل متكرر. وبالتالي:
- إذا تعرض الطفل لتحفيزات غنية بالتعلم والتفاعل، فإن التشابكات العصبية تستمر في النشاط، مما يجعل الدماغ أكثر استعداداً لتلقي المعرفة.
- أما إذا افتقر الطفل إلى التعليم المبكر والتفاعل، فإن الدماغ يقلل من التشابكات غير المستخدمة، مما يجعل التعلم في المستقبل أصعب وأكثر تكلفة.
التعليم المبكر: استثمار في المستقبل
الدول المتقدمة أدركت أهمية هذه المرحلة المبكرة. على سبيل المثال، في فرنسا عام 1980، كان 100% من الأطفال الذين يبلغون 4 سنوات مسجلين في التعليم الأولي (رياض الأطفال). في المغرب، بحلول عام 2024، لا يزال الرقم حوالي 78% فقط. هذا يعني أن المغرب متأخر بحوالي أربعة عقود عن الدول التي استثمرت بشكل كامل في التعليم الأولي.
توجه المغرب نحو التعليم الأولي
في السنوات الأخيرة، بدأ المغرب إدراك أهمية هذا النوع من الاستثمار، وظهر ذلك في عدة خطوات:
- تغيير اسم الوزارة ليصبح: وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، مما يعكس التركيز على التعليم في المراحل الأولى من حياة الطفل.
- المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي بدأت توجه استثماراتها نحو الإنسان بدلاً من البنية التحتية فقط.
- برامج مثل "المدارس الرائدة"، التي تهدف إلى توفير تجربة تعليمية متميزة للأطفال.
التحدي المستقبلي
لكي تحقق هذه الجهود أهدافها، يحتاج المغرب إلى تعميم التعليم الأولي ليشمل جميع الأطفال، والتركيز على تقديم محتوى تعليمي محفز منذ الصغر. التعليم في هذه المرحلة لا يُعتبر فقط حقاً أساسياً، بل هو مفتاح لتحسين الإنتاجية والاقتصاد على المدى الطويل.
الاستثمار في التعليم الأولي ليس مجرد خطوة تعليمية، بل هو استراتيجية اقتصادية واجتماعية فعّالة. بناء جيل متعلم وقادر على المنافسة يبدأ من رياض الأطفال، حيث يتشكل دماغ الطفل بطريقة تجعله قادراً على التعلم مدى الحياة.
الجواب على السؤال عن قدرات الأطفال وكيفية اكتسابها ليس شيئاً ثابتاً يمكن العثور عليه في دفتر واحد، بل هو نتيجة لتراكم مجموعة من الدراسات العلمية التي تركز على التطور العصبي للأطفال وكيفية اكتسابهم للمهارات عبر الزمن.
القدرات الفطرية
منذ لحظة الولادة، يمتلك الطفل قدرات فطرية تساعده على التفاعل مع محيطه. مثلًا، الرضيع عند وضعه على بطنه يتعلم كيف يزيح الغطاء عن وجهه أو يميز وجوه والديه عن وجوه الآخرين. هذه المهارات تُعتبر أساسية لتطوير قدرات أكبر مع مرور الوقت.
الفترة بين صفر وثلاث سنوات
الفترة ما بين صفر وثلاث سنوات هي الفترة الحاسمة في تطور الدماغ، حيث ينمو 80% من دماغ الطفل خلال هذه المرحلة. خلال هذه السنوات، يكون التحفيز العصبي مهمًا جدًا، سواء من خلال اللعب التفاعلي أو التفاعل مع البيئة المحيطة. في هذه الفترة، يتطور الدماغ بسرعة ويبدأ في تشكيل الشبكات العصبية التي ستكون أساسًا للقدرات المعرفية المستقبلية.
الفترة بين ثلاث إلى خمس سنوات
من ثلاث إلى خمس سنوات، يدخل الطفل في مرحلة التعليم الأولي، وتصبح قدراته أكثر تطورًا. هذه المرحلة تركز على الوظائف التنفيذية، مثل التخطيط، التركيز، الانتباه، تذكر الأشياء، و تنظيم المشاعر. هذه الوظائف هي التي تمكن الإنسان من التعامل مع المهام المعقدة في المستقبل، ولذا فإن التعليم الأولي يصبح استثمارًا مهمًا جدًا في حياة الطفل.
القدرات الرياضية والعددية
الدراسات أظهرت أن الأطفال بين ثلاث وأربع سنوات يمكنهم تعلم المفاهيم الرياضية الأساسية مثل العد حتى الرقم 4، وهناك من يمكنه العد حتى الرقم 10. لكن من المهم أن نفهم أن الطفل لا يستطيع تجسيد الأرقام في الواقع إلا عندما يمر بتجربة عملية بها هذه الأرقام. على سبيل المثال، الطفل قد يستطيع أن يحفظ الأرقام، لكنه لا يفهم الفجوات بين الأرقام مثلًا بين 10 و 20، على الرغم من أن الفجوة بينهما متساوية مثل الفجوة بين 80 و 90.
المرحلة بين خمس وست سنوات
في هذه المرحلة، يبدأ الطفل في تجسيد الأرقام ويبدأ في فهم الفروقات بين الأرقام بشكل أكبر. كما أنه يصبح قادرًا على فهم العلاقات بين الأرقام ويبدأ في بناء القدرات المعرفية التي تساعده في المستقبل على التعامل مع مفاهيم رياضية أكبر وأكثر تعقيدًا.
المنهاج الوزاري
هذه الدراسات الدقيقة حول قدرات الأطفال في مراحل معينة من أعمارهم تشكل المنهاج الدراسي الذي تضعه وزارة التعليم. المنهاج ليس مجرد وثيقة تعليمية بل هو أساس علمي يعتمد على هذه الدراسات لضمان أن يكون التعليم الأولي مؤثرًا في تطوير القدرات الأساسية للأطفال بما يتناسب مع أعمارهم. هذه الوثيقة المنهاجية تهدف إلى تحديد القدرات المعرفية التي يجب أن يمتلكها الأطفال في كل مرحلة عمرية، بحيث يستطيع الطفل في السن المناسبة اكتساب مهارات معينة مثل العد، فهم اللغة، القراءة، والكتابة.
التعليم المبكر كاستثمار في المستقبل
إذا كان الطفل يكتسب هذه القدرات الأساسية بشكل جيد في مرحلة الطفولة المبكرة، فإن ذلك سيكون بمثابة استثمار في مستقبله ويجعل منه شخصًا منتجًا و مؤثرًا في المجتمع. وهذا هو الهدف الذي تسعى إليه المدارس الرائدة والتي تهدف إلى تطوير القدرات التنفيذية والمعرفية للأطفال في سن مبكرة.
القدرات التي يمتلكها الطفل تتطور بشكل تدريجي ومعقد، لكن التعليم الأولي هو أساس لبناء تلك القدرات. الوزارة تركز على تعزيز هذه المرحلة بما يتوافق مع الأبحاث العلمية المتعلقة بتطور دماغ الطفل.
المنهج الدراسي في 2021 يعكس توجهات جديدة تهدف إلى تطوير قدرات الأطفال بشكل تدريجي وفقًا لدراسات علمية تركز على كيفية اكتساب المهارات المعرفية والحركية عند الأطفال. إلا أن التطبيق الفعلي لهذه المناهج في مراكز تكوين الأساتذة لا يكون دائمًا كما ينبغي، وهذا يسبب فجوة بين التصور النظري للمنهج و التطبيق العملي في المدارس.
تحديات المنهج الدراسي:
تسلسل القدرات عبر المراحل الدراسية: كما ذكرت، المنهج يحدد المهارات المطلوبة لكل عام دراسي، مثل:
- في السنوات الأولى، من المفترض أن يكون الطفل قادرًا على فهم نصوص قصيرة (40-50 كلمة) وينتج نصًا شفهيًا من 20 كلمة.
- مع التقدم، في الصف السادس، يُتوقع من الطفل أن يفهم نصًا طوله 400 كلمة ويستطيع أن يكتب 60 كلمة.
تزايد صعوبة المهام مع تقدم العمر: مع مرور الأعوام، تصبح المهام أكثر تعقيدًا، كما يجب على التلميذ أن يحلل النصوص و يكتب نصوصًا أكبر بشكل فعال. ولكن بالرغم من تحديد هذه الأهداف، نتائج هذه المناهج على أرض الواقع ضعيفة في كثير من الأحيان.
التطبيق الفعلي في المدارس: المشكلة الكبرى تكمن في أن أساتذة التعليم الأساسي غالبًا ما يفتقرون إلى التدريب المناسب لفهم كيفية تحفيز الأطفال في مراحلهم التعليمية المبكرة. وعادةً ما يكون التركيز على أساليب التدريس بدلًا من فهم البنية العصبية للأطفال و كيفية تعلمهم. وبالتالي، رغم وجود مجهودات كبيرة في تطوير المناهج، إلا أن التطبيق العملي يكون ضعيفًا.
الدراسات العلمية وإشكال التطبيق: الدراسات التي أُجريت من قبل المجلس الأعلى للتربية والتكوين في 2019 أظهرت أن 70% من التلاميذ في التعليم الابتدائي لا يُحسنون الاستجابة للمقرر الدراسي، وهذا يؤكد أن المنهج لا يحقق النتائج المرجوة. أيضًا، في 2020، بعد سلسلة من الإضرابات وزيادة التحديات، تدهورت النتائج بشكل أكبر.
الارتباك في الانتقال بين السنوات الدراسية: المشكلة الكبرى هي أن الانتقال بين الصفوف لا يتم بسلاسة. نجد أطفالًا في الصف الرابع ليس لديهم المعرفة المطلوبة التي يجب أن يكونوا قد اكتسبوها في الصف الثالث، وهذا يؤدي إلى تراكم الفجوات المعرفية مع مرور الوقت. في كثير من الأحيان، النجاح الدراسي في مثل هذه الحالات يعتمد على الحصول على درجات عالية دون فهم حقيقي للمواد الدراسية.
التعليم الاعدادي: الفجوات المعرفية تصبح أكثر وضوحًا عندما يصل الطلاب إلى المرحلة الإعدادية. الهدر المدرسي في هذه المرحلة كبير جدًا، حيث 300 ألف طالب يفشلون في اجتياز الانتقال من التعليم الابتدائي إلى الإعدادي أو يعانون من تدني مستوياتهم التعليمية.
التعليم الرائد كحل:
الوزارة حاولت معالجة هذه الفجوات عبر المدارس الرائدة التي تستخدم طرق تدريس جديدة. في الأشهر الأولى، تركز هذه المدارس على طرق تعليمية مبتكرة تهدف إلى تحسين مستوى الفهم والإنتاجية للطلاب. لكن المشكلة تبقى في أساليب التدريس التقليدية في كثير من المدارس.
التحديات الكبرى:
- عدم توافر التدريبات الكافية للأساتذة على الأساليب الحديثة المرتبطة بفهم قدرات الأطفال العصبية.
- التمويل الكافي والتوزيع العادل للموارد بين المدارس.
- الضغط الاجتماعي مثل الإضرابات والمشاكل المرتبطة بنظام التعليم العمومي.
تفسير فكرة "المدارس الرائدة"
"المدارس الرائدة" تعتمد على فلسفة التعليم المبكر، والتي تهدف إلى استثمار قدرات الطفل خلال سنواته الأولى، حيث يكون الدماغ في أوج تطوره العصبي. الأبحاث تُظهر أن التعليم المبكر يمكن أن يؤدي إلى تحسينات كبيرة في الإنتاجية المستقبلية، لكن هذا يتطلب استراتيجيات دقيقة وموارد كافية.
من بين المفاهيم الأساسية لهذه المدارس هي TARL، وهو اختصار لـ Teaching at the Right Level (التعليم بالمستوى المناسب). الفكرة هنا هي تصميم مناهج تعليمية تتوافق مع القدرات الحالية للأطفال بدلاً من اتباع نهج موحد قد لا يناسب الجميع. المشكلة التي تواجه هذا الأسلوب، كما هو الحال مع العديد من السياسات السابقة، هي التنفيذ على أرض الواقع، خصوصًا إذا كان المعلمون غير مدربين بشكل كافٍ لفهم هذه الفلسفة وتطبيقها بفعالية.
نقد الواقع التعليمي الحالي
التحدي الأكبر في النظام التعليمي المغربي هو ضعف الأساسيات التي تُبنى عليها قدرات الأطفال. وفقًا لدراسة أجراها المجلس الأعلى للتربية والتكوين في عام 2019، فإن حوالي 70% من تلاميذ الابتدائي لا يتقنون المناهج المقررة. في اللغة العربية، فقط 42% لديهم مستوى مقبول. وعند تطبيق معايير المدارس الرائدة، من المتوقع أن يكون هناك المزيد من التحديات، خصوصًا إذا لم يتم معالجة المشاكل البنيوية الموجودة.
هل يمكن للمدارس الرائدة حل الأزمة؟
على الرغم من الجهود المبذولة، فإن التحول إلى نموذج المدارس الرائدة يتطلب استثمارات ضخمة في تكوين المعلمين، وتوفير الموارد اللازمة، ومتابعة دقيقة لتطبيق المناهج الجديدة. إذا لم تُحل هذه المشاكل، فقد تواجه التجربة مصيرًا مشابهًا للسياسات التعليمية السابقة، مما يؤدي إلى تفاقم الأزمة بدلًا من حلها.
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.