دوكاستري…وتاريخ المغرب -2-
دعوة الحق
159 العدد
-1 -
ينتمي ذو كاستري الى أسرة فرنسية عريقة، من تلك الاسر النبيلة ذات التقاليد الاصيلة والمبادئ الخلقية الثابتة، وكان شعار أفرادها "مخلص لملكي وللشرف"، وكاستري اسم حصن من حصون عصور الاقطاعية، قائم في نواحي منبليي.
عرف كثير من أبناء هذه الاسرة في الميادين العسكرية والسياسية، والجدير بالذكر أن أغلب الضباط الذين تولوا قيادة الجيوش الفرنسية، عهد الاغارات الاولى على الاراضي الجزائرية، كانوا يحملون أسماء منسوبة الى حصون أو ضياع اقطاعية، عرف أصحابها منذ القديم بالضغط والاعنات على الطبقة الشعبية، الشيء الذي أدى الى اندلاع الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789.
أن كثر الضباط الذين عاصروا ذو كاستري بالجزائر، تخرجوا من المدرسة العسكرية "سان سير" وكانوا من المتخصصين لتسيير "المكاتب العربية" (Les bureaux arabes) التي شرع في تعميمها بمختلف المناطق الجزائرية حوالي النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، ومن المؤهلين لدراسة البيئة الاجتماعية ومكوناتها، بالاضافة الى القيام بالمهام الاستعمارية "السلمية" وبالتخطيط للغزو الفكري والثقافي والصليبي.
وخلافا لما عرف عن الأفواج الاولى من الضباط الفرنسيين من تنافس، بل من تحاسد وركون، بعض الأحيان، الى الدسائس، قصد الحصول على الجاه والرتب العالية والاموال والاقطاعات على حساب "العرب"، فان الضباط الذين تخرجوا من "سان سير" كانوا، في غالب الاحيان، يتقنون سياسة "الابتسامات" و "الابوية الحاضنة" على الرعايا المسلمين، ويعملون متعاونين في أبحاثهم، متساندين في تحقيق مشاريعهم، مستغلين لصالح بلادهم ما يمتاز به كل منهم من مواهب وتخصصات، وما يصل اليه من نتائج في مختلف المجالات.
لما عين ذو كاستري ضابطا بالجزائر، سنة 1873 م وأسند اليه الاشراف على الاراضي الصحراوية المتاخمة للحدود المغربية، وقيادة كوكبة من الفرسان المسلمين المجندين بالجيش الفرنسي، لم يلبث أن أصبح يشعر بنوع من الخيلاء لما بيده من سلطة واسعة، ويشعر، في نفس الوقت، برغبة وثابة في دراسة بيئة تلك المناطق المترامية الاطراف، واكتساب عطف سكانها، ومعرفة مشاكلهم البشرية، وما يملأ قلوبهم من عواطف وغزائر، وما هم عليه من عادات وتقاليد.
وهكذا بدأ يتعلم العربية ويتصل بالسكان، وحتى بالعمال المغاربة الذين كانوا يأتون من جنوب المغرب بالقيام بأعمال موسمية، فيجالسهم في خيامهم البسيطة ومنتدياتهم الشعبية ويساعدهم، عند الحاجة، بالقوت والمال، منتهزا تلك الفرص ليسألهم عن القبائل التي ينتمون اليها، والتي مروا بها خلال حلهم وترحالهم حتى امتلأ "وطابه" بالمعلومات عن المسالك، وعما يشاهده سالكوها من سهول وجبال ووديان وأنهار، وعما يسمعونه من أخبار وأفكار وآراء الخ...بحيث كان يستفيد من تلك "السمعيات" ليضع خرائط لمناطق مغربية لم يطأها قدماه وتبين، فيما بعد، أنها مطابقة، في خطوطها العريضة، لما يرى في تلك المناطق من معالم ومشاهد.
فانه رسم خرائط مبنية على مشاهداته الخاصة مثل تلك التي تتعلق بالناحية "الفجيجية" (1882) وخرائط مبنية على "السمعيات" مثل تلك خصصها لوادي درعة (1880) والتي استفاد منها كثيرا شارل ذو فوكو (سنة 1883) يوم أقدم على القيام برحلته المشهورة غير المعرب (2).
لا شك أن اهتمامه بوضع خرائط لنواح مغربية كان ناتجا عما كان يدبر اذ ذاك بالعواصم الاروبية وخاصة بفرنسا من "مكر" للمملكة المغربية في شأن الحدود وهو " تدبير" اتخذ عدة أوجه واستغلت وسائل مختلفة من مؤتمرات، وحملات صحفية واستطلاعات جاسوسية الخ...(3)
دفع تحمس "ذو كاستري" للنظريات الفرنسية الى التصريح، سنة 1879، بأن "المغرب جزء ضروري لاكتمال الامبراطورية الفرنسية بالشمال الافريقي"، الا أن تصريحه هذا لم يرض، يومئذ، مسيري السياسة الاستعمارية الفرنسية الذين كانوا يفضلون العمل في طي السرية والكتمان، سيما وأن فرنسا كانت آنذاك تمهد سبيل "الحماية" على تونس، وان " أزمة" المغرب كانت في تلك الفترة الحرجة بيد الملك اليقظ، مولاي الحسن الاول، الذي " لم يال جهدا في تمهيد البلاد، وتطمين العباد وتدارك الحلل... وبعث السفارات للدول العظمى لفصل القضايا...(4).
مكث ذو كاستري، اثر ذلك التصريح في "زاوية الاهمال" ولكن اهتمامه بالمسائل المغربية لم يخمد ولم يفتر، ولذا توجهت اليه، من جديد، أنظار رؤسائه فاختاروه، سنة 1887 ليضع خريطة (5) للمملكة المغربية من شأنها أن تيسر حل مشكلة الحدود، وليذهب بنفسه الى مراكش ليعرضها على الملك مولاي الحسن.
وهكذا تيسر له أثناء عودته من مراكش نحو الدار البيضاء، صحبة قافلة تسير سيرا وئيدا، أن يسجل معالم طريقه في خريطة، يقال، أن الجنود الفرنسية التي نزلت بالشاوية، بعد ذلك بنحو العشرين عاما، قد استفادت منها كثيرا، وهي متوجهة نحو عاصمة الجنوب قصد احتلالها.
تزوج ذو كاستري، سنة 1880، بأرملة الكونت دونبيار، بنت الجنرال لمورسيار ذلك الضابط السامي الذي كان اشتهر في الجزائر بتنظيمه المحكم "لتقنية" الغزوات الوحشية على المداشر والقرى البريئة والذي قال عنه المؤرخ شارل اندري جليان: "ان لمورسيار سيبقى، من بين جميع أكابر ضباط الجيش الافريقي، مضرب الامثال للانسانية في مظاهرها (6) وكان من الممكن له أن يستغل تلك المصاهرة والاقتران ببنت ذلك القائد الذي كان استلم له الامير عبد القادر، ليثبت نفوذه في الاوساط العسكرية بالجزائر، الا أنه لم تمر الا أسابيع قليلة بعد عودته من المغرب، وهو في السابع والثلاثين من عمره، حتى استقال ليقيم في فرنسا، تارة في مسقط رأسه بالانجو Anjou حيث انتخب عضوا في المجلس الاستشاري العام لمقاطعة "مان ولور" وتارة بباريس شارع الباك.
هناك بدأ يسجل مذكراته وانطباعاته عن جنوب عمالة وهران، وهناك ألف كتابه "الاسلام: خواطر وسوانح" الذي تكلمنا عنه في المقال السابق.
أجل فان اهتمامه بمصالح أسرته، ومصالح أبناء مقاطعته لم ينسه ميدان نشاطه القديم، اذ لم يبرح جاعلا منه موضوعا لتفكيره ومخصصا قسطا وافرا من أوقاته ليكاتب بعض من ترك بالجزائر من أصدقاء، ولتأليف مقالات وأبحاث خاصة بالمغرب الاقصى (7) والمشاركة في جلسات الجمعيات المهتمة بالقضايا الشرقية والاستعمارية كجمعية الجغرافية، والجمعية الاسيوية والاتحاد الاستعماري وجمعية المغرب Comité du Maroc الذي كان هو أحد مؤسسيه ومن المواظبين على حضور جلساته، الشيء الذي ادى به الى التفكير في وضع تاريخ عام للمغرب الاقصى، فبدأ اذ ذاك يقدر ما اكتسبه عن هذه المملكة من معلومات أثناء تجولاته بالجزائر والمغرب، ومن خلال مطالعاته لما ترجك الى اللغة الفرنسية من الكتب العربية، واتصالاته برجال، أكثرهم مسلمون، عرفوا بسعة الآفاق وغزارة المعارف، ثم أخذ أثر ذلك، يفكر في كتابة تاريخ المملكة المغربية، وحيث اقتنع أن أغلب الوثائق العربية الاصلية اندثرت أو أصبح من الصعب الحصول عليها، وان كتب التاريخ المغربي، المؤلفة بالعربية لا تخلو من ثغرات ومن شوائب الجهل والنزعات المغرضة، فانه جعل هدفه البحث عن الوثائق الموجودة في المظان الأوربية ليستخلص ما يساعده على إنجاز ما كانت تصبو اليه نفسه، أي تحرير كتاب عن تاريخ المغرب الاقصى، يضم المعلومات الضرورية عن الموارد السياسية ومحاولاته الاقتصادية وأحواله الاجتماعية.
استفتح أبحاثه بالتنقيب عما بالخزانات ودور المحفوظات الفرنسية من رسائل ومواثيق وتقارير ورحلات الخ...وأتاح له قيامه بمهام رسمية انتدب لها، الاطلاع على ما كان بانجلترة وهولندا وبلجيكا والدانمارك واسبانيا والبرتغال من مثل تلك المستندات فجمع منها ما سمح له يأخذه وباستنساخه وتصويره، وطفق ينشرها.
اعرض عن الاعتناء بالوثائق الخاصة بالدول التي قبل الدولة السعدية وذلك نظرا لقلة عددها أو لضالة محتواها، وقرر أن ينشر المصادر المتعلقة بالدولة السعدية والدولة العلوية وأن يرتبها حسب مظان أصولها وحسب تسلسلها الزمني، أن يخصص لكل بلاد أوربية مجموعة من الاجزاء تضم ما وجد بها من "مصادر".
وهكذا أخرج الجزء الاول من "المصادر غير المنشورة" سنة 1905 أي قبيل انعقاد مؤتمر الجزيرة بأشهر.
استهل ذلك الجزء بمقدمة بين فيها ما كان يتوخاه من نشر تلك الوثائق وأوضح الطريقة التي سلكها في عمله، وضمن ذلك الجزء الوثائق التي تخص الدولة السعدية والتي كان وجدها بالخزانات الفرنسية.
استحسن تلك المبادرة المهتمون بالتاريخ المغربي، ونشرت المجلات المتخصصة مقالات للتنويه بمجهود ذي كاستري كذلك، على ما في الجزء المنشور من نقص وقلة الضبط، ولذا أخذ ذو كاستري على نفسه، وهو في متم العقد الخامس من عمره، أن يدرس بمعهد شارط أساليب البحث عن الوثائق وطرق نقدها، ثم استأنف ينجز، بأكثر دقة وأوفر ضبط، تحقيق ما تصل اليه يده من مستندات، وكذا ما يحصل عليه منها بواسطة مساعدين من ذوي الكفاية والولع بالبحث اختارهم هو للعمل بجانبه، أو بواسطة بعض المشرفين على دور المحفوظات من الذين اعتبروا الاسهام في ذلك العمل تشريفا لهم، فتطوعوا لاثراء رصيده التاريخي برضى واخلاص، بحيث لم تأت سنة 1912، وهي السنة التي أبرم فيها عقد "الحماية" حتى كان نشر خمسة أجزاء من "المجموعة" ثلاثة من المحفوظات الفرنسية، واثنين من المحفوظات الهولندية، ولما مات سنة 1927 كان قد نشر خمسة عشر جزءا، وكون طائفة من البحاثة الاكفاء، عرف كيف يحبب اليهم – الاستمرار في انجاز مشروعه سيما وأنه قد توفرت له ولهم، مع مرور السنين، الظروف الملائمة لاقتفاء أثره وتحقيق تلك الفكرة التي ما فتئت تملأ قلبه وتقوي عزمه، وهي أن ييسر الباحثين المشتغلين بتاريخ المغرب الوصول الى تلك المستندات المبعثرة في مختلف المظان الأوربية، والتي من شأنها أن تساعدهم على توسيع نطاق البحث التاريخي، وضبط أسباب بعض ما وقع بالمغرب، منذ عهد الدولة السعدية، من أحداث ومن تطورات في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
لم يكتف ذو كاستري بالبحث عن الوثائق في أوربا بل ما انفك يتمنى من صميم قلبه أن تتاح له فرصة العودة الى المغرب ليرى رأي العين ما بقي به من آثار برتغالية أو اسبانية وليطلع على ما قد تصل اليه يده مما بالخزانات الخاصة من رسائل ديوانية وعقود تجارية أو ظهائر توجيهية الخ..
أسعفه الحظ لتحقيق رغبته اذ لم يكد يجف المداد الذي كتب به عقد الحماية حتى كاتبه الجنرال ليوطي الذي كان صادفه وهو يزور مع زوجته مناطق الجنوب الوهراني، سنة 1907، تلك السنة التي أغار فيها الجيش الفرنسي على مدينة وجدة، كاتبه عندما عين مقيما عاما للمغرب، وطلب منه أن يلتحق به ليعينه بخبرته الواسعة على تأدية مهمته.
شد ذو كاستري الرحلة، وعند وصوله الى طنجة صادف بمرساها المركب الذي كان يقل المقيم العام الجديد، فأبحر معه وهكذا نزل رفقته بالدار البيضاء في 3 ماي 1907، وصاحبه في خفرة كوكبة من الفرسان الى فاس فوصلوا اليها جميعا في الرابع والعشرين من نفس الشهر.
قدمه المقيم الجديد للسلطان المولى عبد الحفيظ فأحسن استقباله ودارت بينهما، خلال هذه الزيارة، محادثة طويلة حول ماضي المغرب وحول مظان الوثائق التاريخية الرسمية.
كانت هذه المقابلة بحضور الصدر محمد المقري، والظاهر أنها هي التي يسرت له، فيما بعد، الاتصال ببعض العلماء المهتمين بالتاريخ وأوحت للمقيم العام تعيينه في 11 يوليوز 1914 مستشارا مكلفا بشؤون التاريخ وبتأسيس مصلحة المحفوظات الا أن اندلاع نيران الحرب الكبرى الاولى ألهاه عن نشاطه السلمي الى ما بعد عودته من ساحات الوغى سنة 1917 وكان بلغ السابعة والستين من عمره، فشرع في تنمية رصيد مصلحة المحفوظات، وأسهم في فتح معهد الدروس العليا وتأسيس الخزانة العامة سنة 1919 أي قبل بناء العمارة الحالية التي لم تفتح أبوابها الا سنة 1924.
وفي 19 شتنبر من سنة 1919 صدر مرسوم وزاري أحدث بمقتضاه في باريس القسم المغربي للتاريخ (Section historique du Maroc à Paris ) تلبية ذو كاستري الذي جعل منه مستودعا للوثائق والمؤلفات الخاصة بالمغرب، وميدانا لنشاطه الدائب في التحقيق والتصنيف، وإعداد الرحلات والبعثات وتنسيق ثمراتها.
مات ذو كاستري سنة 1927 وكان قد نشر خمسة عشر جزءا من مجموعة "المصادر" وعدة دراسات ومقالات بالاضافة الى ما كان يقدمه للمؤتمرات واللقاءات من تقارير ووجادات.
نالت "مجموعته" شهرة جد واسعة محفوفة بالتقدير والاكبار، وتيسر استئنافها بصورة منتظمة، بعد موته، وذلك بفضل ما كان يخصصه المغرب للقسم التاريخي المذكور من اعتمادات، وبفضل من خلفه من رجال كرسوا جهودهم لتأدية المهمة التي أسندت اليهم بنفس الجدية التي اتسم بها هو، وبنفس الاخلاص الذي كان يهيمن على أعماله.
ظهرت الى اليوم من المجموعة "مصادر تاريخ المغرب غير المنشورة" حوالي الثلاثين جزءا، وسنتكلم عنها بتفصيل في المرة المقبلة ان شاء الله.
1- ذو كاستر أو ذو كاستري ؟ اخترت، في القسم الأول من هذا البحث (دعوة الحق مارس 1974) الصبغة الاولى حيث أني كنت سمعتها مرارا من 1
أفواه رجال اعتقد أنهم من "المحققين" ولكني تحققت الآن أن الصيغة الثانية هي الصحيحة لاني رأيت على الأجزاء الاولى من مجموعة "المصادر غير المنشورة" طابعا باللغة العربية بداخله "عبد ربه الباري، هنري ذو كاستري وبدائرته: "ان الحق اذا قام دفع الباطل" وهذا الشعار هو الذي ختم به مكتوبا بالعربية، المقدمة التي وضعه للمجموعة التاريخية.
وبالاضافة الى هذا فان اسم "ذو كاستري" ورد في القاموس المدرسي الفرنسي "لاروس" متبوعا بـTriesلاثبات أن النطق به هو " ذو كاستري.
2- سجل اعتراف ذو فوكو بذلك، في تقرير الجلسات الدراسية التي نظمتها "الجمعية الجغرافية (ص 374)
3- وردت بعض التفاصيل المتعلقة بهذه القضية في الجزء الرابع من كتاب " المغرب وأوربا" للأستاذ مياج. 3
Le Maroc et l’Europe par J.L Miége Paris 1963
4- الانحاف ج 2 ص 5084
5- حاول ذو كاستري، في عهد الحماية، أن يعرف مصير تلك الخريطة ولكنه لم يجد لها أثرا في "المحفوظات" وقال عنها، حسب راوية سينيفال 5
"انها عبارة عن لوحة كبيرة مزخرفة بالألوان زخرفة تتلاءم والذوق الشرقي، مثلت فيها مواقع المدن بصور دقيقة وكتبت أسماؤها بخط عربي جميل". Histoire de l’Algérie contemporaine t 3 p. 316 et 318. 6
7- مثلا : قراصنة سلا (1903) – مولاي اسماعيل وجاك الثاني (1909) الخ
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.