أخر الاخبار

مدينة البصرة المغربية

مدينة البصرة المغربية واحدة من أهم المدن خلال الفترة الإدريسية. لكنها اندرست وضاعت معالمها، قبل أن تكتشف من جديد في ثمانينات القرن المنصرم.
في هذا المقال مرايانا تسلط الضوء على قصة ثاني عاصمة للأدارسة


على الطريق الرابطة بين سوق الأربعاء الغرب ومدينة وزان، توجد قرى ومواقع عديدة، تمر بعلامة كتب عليها “جماعة سيدي اعمر الحاضي”، فلا يلفت الأمر انتباهك. مجرد جماعة من بين آلاف الجماعات القروية الممتدة في البلاد…

على بعد حوالي 22 كلم من مدينة سوق الأربعاء الغرب، و40 كلم من شاطئ المحيط، تجد عبارة كتب عليها “دوار جعاونة”. يبدو الأمر عاديا ولا شيء يدعو للاستغراب: مجرد دوار عادي به سور يبدو قديما بعض الشيء وقد شيدت على جانبيه مساكن الناس.

لكن، ما إن تعرف أن نفس الدوار يعرف بـ”جعاونة البصرة”، حتى تبدأ الأسئلة بالتراقص أمامك؛ إذ، ما الذي أتى بالبصرة إلى هنا؟

ذهب المؤرخ والأثري الكولونيالي شارل تيسو في كتابه “أبحاث في الجغرافية المقارنة لموريطانيا الطنجية” إلى اعتبار أن مدينة البصرة حلت مكان المدينة “الرومانية المفقودة تير”، التي جاءت في الدليل الأنطواني؛ بيد أن هذا الرأي لا يجد ما يسنده نصيا أو أثريا.

لطالما اعتدنا أن نسمع بالبصرة، المدينة العراقية الشهيرة. فأي علاقة بينهما؟

يقودك البحث لتكتشف أن هذا الدوار شيد فوق أنقاض مدينة “البصرة المغربية” أو “بصرة الكتان” أو بصرة الذبان”، واحدة من أبرز مدن إمارة الأدارسة، والتي أصبحت العاصمة الثانية لهم، قبل أن تندرس خلال الفترة الأخيرة لنهاية حكم الأدارسة، وتبقى قابعة تحت الأرض قرونا من الزمن، قبل أن يتمكن فريق أثري أمريكي من العثور عليها، ثم تعيش على دوامة الإهمال، من جديد.

في هذا المقال، تسلط مرايانا الضوء على قصة مدينة البصرة المغربية، وعلى ما تعانيه من إهمال وتهميش يجعل جزء من التراث والتاريخ المغربي معرضا للضياع.

مدينة إدريسية حملت اسما عربيا… وأصبحت عاصمة للأدارسة

حضرت مدينة البصرة بشكل كبير في المصادر التاريخية، خاصة الوسيطية، وقد حملت اسم البصرة، كما عرفت بالحمراء، وذلك حسب ما يقول الجغرافيون والمؤرخون، لأن تربة المنطقة كانت أقرب للاحمرار. كما سميت ببصرة الكتان لأن أهلها كانوا ينتجون الكتان والقطن، كما كانوا يستعملونه في مقايضاتهم التجارية عوضا عن المال. عرفت أيضا ببصرة الدبان لأن الذباب كان يوجد بها بكثرة بسبب طبيعة منتوجاتها (قطن، ألبان… الخ).

يقدم الحسن الوزان إشارة مهمة في هذا السياق إلى أهميتها، حيث قال إنه كان من “عادة ملوك فاس أن يذهبوا إليها لقضاء الصيف بسبب برودة المياه والغابات، ولأنها من أحسن أماكن الصيد”، ما يؤشر على أنها كانت مقصدا استجماميا للأمراء الأدارسة.

تجدر الإشارة هنا إلى أن المصادر لم تتطرق لسبب تسميتها بالبصرة، باستثناء الحسن الوزان الذي أشار إلى أن الادارسة سموا المدينة بالبصرة تذكيرا ببصرة العرب.

ذهب المؤرخ والأثري الكولونيالي شارل تيسو في كتابه “أبحاث في الجغرافية المقارنة لموريطانيا الطنجية” إلى اعتبار أن مدينة البصرة حلت مكان المدينة “الرومانية المفقودة تير”، التي جاءت في الدليل الأنطواني؛ بيد أن هذا الرأي لا يجد ما يسنده نصيا أو أثريا.

أكدت المصادر التاريخية أن البصرة لم تكن موقعا تم تطويره أو مدينة سابقة، بل هي مدينة أسست في الفترة الادريسية، وقد اختلفوا حول مشيد البصرة المغربية، إذ رجح بعض الباحثين أنها من بناء القاسم بن ادريس، مستندين في ذلك إلى أن طنجة وكتامة وما والاهما كانت خاضعة له؛ بينما ذهب رأي آخر إلى القول بأن تشييدها تم على يد محمد بن ادريس، مستندين في ذلك على نص للبكري.

لكن العثور على قطع نقدية سُكّت في البصرة وتتضمن اسم ادريس الثاني قد فند هذا الرأي، وأصبح الغالب أن تأسيسها تم على يد ادريس الثاني، ما جعل الباحثين يرجعون تأسيسها إلى بدايات القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي.

اختلفت النصوص التاريخية في وصف المدينة، إذ وصفها بعضهم بأنها كبيرة (البكري والمقدسي)، بينما اعتبرها آخرون مدينة متوسطة (ابن حوقل)؛ وهو تضارب لا يمكن فهم أسبابه، وإن كان الراجح أنه مرتبط بآراء شخصية لمؤلفيها.

بعد وفاة ادريس الثاني سنة 213\828 م، كانت البصرة من نصيب ابنه القاسم، واعتبرت واحدة من أهم المدن الادريسية.

يقدم الحسن الوزان إشارة مهمة في هذا السياق إلى أهميتها، حيث قال إنه كان من “عادة ملوك فاس أن يذهبوا إليها لقضاء الصيف بسبب برودة المياه والغابات، ولأنها من أحسن أماكن الصيد”، ما يؤشر على أنها كانت مقصدا استجماميا للأمراء الأدارسة.

خلال أواخر أيام الأدارسة، وبعدما تمكن موسى ابن أبي العافية من الاستيلاء على فاس، طارد الأدارسة الذين اتخذوا من مدينة البصرة عاصمة لما بقي من فلولهم، قبل أن يفروا منها إلى حجر النسر. كما كانت مرتكزا أساسيا في الصراع الذي دار بين الفاطميين والأمويين في المغرب، وتعرضت للنهب والتخريب مرات عدة،-خاصة من طرف الكتاميين الذين كانوا منقسمي الولاء بين الأمويين والفاطميين،- قبل أن تصبح أطلالا وخرابا في نهاية القرن الخامس الهجري.

أصبحت مدينة البصرة أثرا بعد عين، ثم اختفت تحت الأنقاض. ورغم عدد من المحاولات، فقد فشلت عمليات العثور عليها، إلى بداية الثمانينات عندما حل فريق بحثي أمريكي بالمنطقة، تمكن من الوقوف على بعض أنقاضها؛ ومن ثم، توالت عدد من الفرق البحثية الأمريكية بالخصوص لدراسة الموقع، وتم الكشف عن جزء من سوره والحمامات والأفران.

مدينة عظيمة أم متوسطة؟

اختلفت النصوص التاريخية في وصف المدينة، إذ وصفها بعضهم بأنها كبيرة (البكري والمقدسي)، بينما اعتبرها آخرون مدينة متوسطة (ابن حوقل)؛ وهو تضارب لا يمكن فهم أسبابه، وإن كان الراجح أنه مرتبط بآراء شخصية لمؤلفيها.

بقايا سور البصرة المغربية
جزء من بقايا سور البصرة المغربية

يقود تجميع الإشارات النصية والأثرية إلى الخروج بالوصف التالي للمدينة: أنها امتدت على مساحة 30 هكتارا، يحيط بها سور سميك يصل سمكه إلى 2.10 متر، وتمتد على طوله أبراج بمسافة 22 مترا بين كل برجين.

أما طول السور، فغير محدد، ولم تكشف الأبحاث التي أجريت إلا على جزء ضئيل منه، وإن كانت تقدر بأنه يمتد مسافة 25 كلم، على شكل شبه مستطيل ضلعه الأول 625 متر، والثاني 500 متر تقريبا. يتخلل السور عشرة أبواب، وقد بني بالحجارة والطوب، أو ما يعرف بالدبش.

أشارت المصادر التاريخية إلى جامع المدينة، والمتكون من سبع بلاطات، ما يشير لأهميته. كما كان بها حمامان حددت الأبحاث الأثرية موضعهما، ومقبرتان، واحدة شرق المدينة والأخرى غربها. كما تمكنت الأبحاث الأثرية من الكشف عن عدد من الورشات المعدة لعدد من الصناعات كالكتان وغيرها، غير أن توقف هذه الأبحاث عرقل الكشف عن مزيد من بقايا المدينة.

تراث رهين الضياع

تعتبر مدينة البصرة المغربية فائقة الأهمية من الناحية التاريخية والأثرية. إضافة إلى موقعها السياسي خلال الفترة الإدريسية، فإنها تعبر عن هذه المرحلة التي تدخل ضمن ما يسميه المؤرخون والأثريون بالقرون الغائبة أو المجهولة، إذ تكاد تنعدم الشواهد النصية والأثرية المنتمية لهذه الفترة والتي كان يمكن أن تسهم في فك أسرار المرحلة.

أحد أوراش الحفريات الأثرية وقد غمر بالمياه
أحد الأبراج المتبقية في سور البصرة

كان يفترض إذن، والحالة هذه، أن تحظى البصرة المغربية بعناية خاصة، وأن تخضع لعدد من التنقيبات والحفريات لاستجلاء المرحلة وفك بعض من أسرارها. لكن الأمر كان نقيض ذلك، فبعد أكثر من أربعة عقود من اكتشاف الموقع، لم يتم تسجيله ضمن مواقع التراث الوطني، كما أن الأبحاث الأثرية في الموقع توقفت منذ بداية الألفية.

جزء من السور وقد أوشك على الانهيار بسبب سرقة مواد البناء منه

بحسب ما تداولته عدد من الروايات، فإن الموقع تعرض للتخريب والتهميش، حيث كان السكان يعمدون إلى السور ويأخذون منه ما يشيدون به منازلهم، حتى تآكل جزء كبير منه وضاع جزء آخر، ليضيع معه نموذج أساسي للعمارة الإدريسية. وقد استمر الوضع كذلك سنوات قبل أن تتدخل السلطات المحلية لمنع هذا الأمر. لكن هذا لم يحد من هذه الظاهرة، كما أن عددا من المنازل نبتت على امتداد السور حتى أصبح جزء من مجالها، ما عرضه وعرض الساكنة لخطر كبير.

عاشت مدينة البصرة تحت الأرض قرونا طويلة، وعندما اكتشف جزء منها، كان يمكن أن يحفز الباحثين والسلطات المختصة على الاشتغال عليها لاستجلاء واحدة من أهم الفترات في تاريخ المغرب. لكن، وكقدر تفاصيل كثيرة تتعلق بتاريخنا المجهول، كان للتهميش دور في ضياع جزء من الذاكرة المغربية.

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -