لم يكن صباحا هذا الذي ذهبوا إليه. قطفوا لحنا جريحا وماتوا. نسجوا طريقا إلى جبل الشيخ، كما لو كانوا ينسجون حبالا إلى النصر، لكن الأجراس المعلقة في خاصرة خانتهم بخمولها، بينما كانت شجاعتهم المذهلة تتعرض للقصف بمقنبلات أمريكية (إف5) وفرنسية (الميراج).
تلك قصة جنود مغاربة شجعان قطعوا كيلومترات طويلة من أجل المشاركة في معارك تحرير الجولان (أكتوبر 1973) من الاحتلال الإسرائيلي، في تلك المرتفعات المكسوة بالتراب والحجارة. كانوا يتقدمون كما لو كانوا غير قابلين للموت، عرايا من «صباح الغد»، مخفورين بالغيوم الخريفية الحزينة، يدافعون عن رائحة أهلهم في سوريا وفلسطين. هذا ما أكده أمامه قائدهم الأعلى الملك الحسن الثاني حين خاطبهم، قبل أيام بشارع محمد الخامس بالرباط، قائلا: «هؤلاء الجنود سيحاربون في سبيل بلد مقدس، وهو أولى القبلتين وثالث الحرمين، وفي سبيل الوطن لأنكم سوف تحاربون، لأن كل وطن عربي هو وطن كل مواطن عربي». وتابع قوله متوجها إلى الجنود: «سوف تجعلوني رافع الرأس مشرفا فخورا بسيرتكم واستشهادكم وشجاعتكم».

الاشتباك العسكري

وصلت التجريدة المغربية يوم 9 يونيو 1973 إلى مدينة اللاذقية السورية، وظلت مرابطة هناك قبل أن تتوجه لاحقا إلى هضبة «الجولان». حيث «خصص السوريون للمغاربة استقبالا حارا، لأنهم جاؤوا لتحرير أراض سورية».
وحينما نشب القتال بين الإسرائيليين والجيوش العربية، كانت القوات المغربية مرابطة في «الجولان»، بقيادة الجنرال عبد السلام الصفريوي، إذ اشتبك المغاربة مع قوات الاحتلال، ودخلوا في معارك مدفعية عنيفة، وتمكنوا من تحقيق تقدم سريع وإحراز انتصارات أثارت دهشة الجميع. حيث شكلوا على سفح وجنبات مرتفع “هرمون” بجبل الشيخ سدا منيعا يحول دون تقدم القوات الإسرائيلية إلى دمشق.
في تلك الواقعة، كما يرويها مشاركون في تلك المعارك، كانت الفصيلة المغربية أمام فيلق من مدرعات ودبابات جيش الاحتلال، فأعطى الجنرال الصفريوي تعليماته لمجموعة من جنوده كي يتقدموا راجلين ليواجهوا فيلق العدو بأسلحة لا تتعدى مدافع «البازوكا»، فكان أن انخرط الجنود المغاربة راجلين في معركة مع الجيش الإسرائيلي المجهز بأسلحة ثقيلة، وتمكنوا من تحطيم دبابة إسرائيلية، وحققوا انتصارات باهرة على جيش العدو، ولولا أن بوغثوا بخيانة مسؤولين عسكريين سوريين لكانت الجولان، ومعها الأراضي الفلسطينية، محررة بالكامل.
لقد كان من المفروض أن يُحمى ذلك النصر من قبل طائرات الميغ السورية السوفياتية الصنع، لكن الذي وقع هو أن الطائرات الوحيدة التي حلقت بعد تقدم المغاربة هي طائرات العدو من نوع «ميراج» الفرنسية الصنع وال «إف 5» الأمريكية الصنع، فكان أن سقط شهداء منهم بالعشرات. واستعاد العدو «جبل الشيخ» وأجزاء من القنيطرة والجولان، بعد أيام ضارية من القتال. فقد حاصرت قوات الاحتلال الإسرائيلي المجهزة بالدبابات الفيلق المغربي من كل جانب بعد وصوله، وطلبت من المحاصرين عبر مكبرات الصوت الاختيار بين رمي السلاح أو الموت. بيد أن التهديد لم ينطل عليهم، مصرين على الاحتفاظ بأسلحتهم، وعدم التخلي عنها، حتى وإن كلفهم ذلك حياتهم، ذلك أن «الامتثال لأوامر الإسرائيليين كان يشكل طعنا في شرفهم العسكري». فاقتيدوا إلى منطقة مجهولة بين هضاب «الجولان» الشاسعة.

شهادات من الميدان

يروي «أبو رياض»، وهو جندي أردني شارك في حرب الجولان حينها، قائلا: «لقد كنا نتقدم بسرعة، لم تستطع النيران الإسرائيلية إيقافنا، حتى إننا في فترة ما لم نعد نرى جنودا ولا آليات إسرائيلية، لقد كان كل المشاركين في المعركة متآلفين ومتقدين، كانوا يقاتلون بكل ما تعلموا وأشبعوا من عقيدة عربية ضد المحتل الصهيوني، لم نكن نريد أن تتكرر مآساة فلسطين».
وشارك على الجبهة السورية قوات مغربية عرفت بـ»لواء الدرع» وقوات أردنية وسعودية وعراقية إضافة للقوات السورية.
ووصلت القوات السورية إلى عمق هضبة الجولان، وإلى سهل الحولة وبحيرة طبريا، ولأسباب غير معروفة حتى الآن جاءت الأوامر للقوات المتقدمة بالتراجع، بحسب «أبو رياض»، الذي استطرد قائلا: «كنا نتقدم بقوة عندما رأينا الدبابات السورية تعود أدراجها بأوامر من القادة الضباط الذين كانوا حينها في قلب المعركة، لم نفهم ما يجري ولم يأتنا حينها قرار بالتراجع إلا أننا رأينا القوات السورية تتراجع».
وكشف أبو رياض في حديثه مصير القوات المغربية حيث قال: «لقد زُج بالقوات المغربية في المقدمة ولم يتسن لها رؤية تراجع القوات السورية، كما أنه لم يتم إبلاغهم بأمر الانسحاب، فتابعوا تقدمهم، فيما انسحبت القوات السورية، وهنا وقعوا في الفخ»، وبعدها أعلن الإعلام السوري أن المقاتلين المغاربة أبطال ليتداركوا الأزمة المحتمل وقوعها بين البلدين.
وتعرف القوات المغربية التي شاركت في الحرب باسم «التجريدة المغربية»، وكانت تمثل لواء الدرع الأكثر قوة وتميزا في الممكلة المغربية، حيث كان يرابط على خط الدفاع الثاني، ونتيجة لصفقات دولية كشف ظهره ووقع في ثغرة حربية، فقتل حينها نحو 170 جنديا بحسب الرويات التاريخية.
وتابع أبو رياض قائلا: «لقد كنا نتوقف ونسأل الدبابات السورية عن سبب التراجع، بينما تبدو الأرض لنا بالكامل فارغة من القوات والآليات الإسرائيلية، فكانت الإجابة أتتنا أوامر بالانسحاب».
وأضاف: «قررت ورفاقي البقاء، لقد كنا في العشرينات من عمرنا وكنا مفعمين بالحيوية والإيمان العربي، لكننا وجدنا أنفسنا وحدنا فتراجعنا.. لقد باع الأسد الأب الجولان»، داعيا أن يكون الله في عون السوريين اليوم، فالأب باع الأرض والابن سيبيع الشعب.
وكان الجنود المغاربة المعروفون حينها بقوة جاهزيتهم قد وصلوا إلى قمة جبل الشيخ الاستراتيجية، حين حلقت الطائرات الإسرائيلية نوع «ميراج» الفرنسية الصنع و»الإف 5» الأمريكية الصنع وقامت بقصفهم، دون أن يكونوا محميين من الطيران السوري أو القوات السورية.
من جهته، يرى محمد الغباشي، الخبير العسكرى المصري ونائب رئيس حزب «حماة الوطن»، أن حرب أكتوبر «هي أحد مظاهر التكامل والتوافق العربي، وهو ما تجسد من خلال مشاركة عدة دول عربية فى القتال»، مضيفا أن المغرب قام بإرسال تجريدة قدر عددها بما بين 6 ألف إلى 11 ألف جندي، أبلت البلاء الحسن في جبهة الجولان السوري، وحققت به انتصارا باهرا.
ويشير الغباشي إلى أن إحدى ساحات دمشق سميت باسم «التجريدة المغربية» تقديرا لدور مقاتليها الأشاوس، الذين استشهد من جنودها 170 شهيدا.
ويضيف الغباشي، وهو لواء متقاعد، «على الجبهة المصرية شارك المغرب بقوة بلغ عدد جنودها 5500 جندي إلى جانب القوات المصرية في سيناء وغرب القناة»، واصفا هذه المشاركة بـ «الفاعلة» حيث ساهمت في تحقيق نصر أكتوبر وفي تحطيم خط برليف، أسطورة جيش إسرائيل. وخلص إلى أن هذا الدور للقوات المغربية ظل محل تقدير من القوات المسلحة المصرية.
وبرأيه، فإن المشاركة المغربية في حرب أكتوبر تؤكد أن التضامن والتوافق العربي وتوحيد الرؤى والجهود يحقق النصر. من جهته يقول الباحث نبيل نجم الدين، الخبير في العلاقات الدولية” إن نصر أكتوبر لم يكن صدفة، وإنما جاء ثمرة لتخطيط وتنسيق وتنظيم واصطفاف عربى»، ليوضح ان إرسال المغرب للواء المشاة الذي عرف ب «التجريدة المغربية»، للقتال برفقة الجيش السوري على جبهة الجولان، «كان تلاحما مغربيا صادقا مع أشقائه العرب في معركة الكرامة في السادس من أكتوبر.»
من جانبه ،يرى السفير هاني خلاف، مساعد وزير الخارجية المصرى الأسبق، أن دور المغرب فى حرب أكتوبر لم يتوقف عند مشاركته بدعم مصر وسوريا بالسلاح والمقاتلين، وإنما امتد لأدوار لاحقة أتاحت التمهيد لأجواء السلام بين مصر والفلسطينيين، مشيرا إلى استضافة المغرب لعدد من اللقاءات التى دعمت مساعي مصر للسلام بين عامى 1977 و1979، كما استضافت المملكة المغربية مباحثات أخرى بين القيادات الفلسطينية ومسؤولين أمريكيين وفرنسيين وإسرائيليين”.
ويتفق مع هذه الرؤية الباحث محمود زايد، أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة الأزهر الذى يرى «أن القرار المغربي بالمشاركة في حرب اكتوبر لم يكن من قبيل رد الفعل العفوي، بل كان ناتجا عن عدة لقاءات ثنائية بين مصر والمغرب جرت فيها مباحثات هامة».
وقال المساعد الأول التاوناتي امنزو حول المشاركة المغربية في حرب الجولان: «استجابة لنداء الراحل الحسن الثاني، فقد بادرت بالمشاركة في التجريدة المغربية الى الجولان، حيث بدأ التوافد على قاعدة رباط الخير (هرمومو) لتجميع اللواء بقيادة اللواء أحمد الصفريوي ونائبه العقيد البرنيشي والعقيد علام.
كنت حينها ممرضا عسكريا بالفرقة الخامسة، قضينا ثلاثة أشهر من التداريب العسكرية قبل التوجه الى ميدان الحرب، وعلى مدى 4 أيام تجمعت التجريدة بمدينة وجدة حيث استقلنا القطار متوجهين الى الجزائر العاصمة، قضينا هناك يوما وعدنا الى ميناء وهران، ومن هناك استقلنا سفن حربية تابعة للاتحاد السوفياتي، قضينا في هذه الرحلة البحرية 7 أيام، وفي عرض الأبيض المتوسط قبالة سواحل جزيرة قبرص توصلنا بإنذار يفيد أن الجيش الاسرائلي سيقصفنا بالطائرات الحربية.
هذا التهديد خلق حالة استنفار في صفوف الجنود المغاربة، بعدها حلقت طائرات قبرصية في عرض سواحلها ومن ثمة وصلنا الى الساحل السوري وبميناء طرطوس تم إنزال التجريدة العسكرية والعتاد الحربي.
قضينا ليلة هناك، وفي الصباح استقلنا حافلات سورية حيث مررنا بحلب وحمص والحسكة ثم دمشق، حيث أقمنا بضواحي العاصمة، وأنجزنا هناك تداريب ميدانية لمدة شهر، منها كيفية مواجهة الغازات السامة والنار الحارقة من خلال ألبسة واقية.
وقد تم تقسيم خطوط المواجهة، فتم تخصيص خط جبل الشيخ بالجولان للمغاربة لدرايتهم وخبرتهم في الحرب البرية. وكان الاتفاق الأولي هو ان يبدأ الهجوم على الجيش الاسرائيلي في الواحدة ليلا، إلا أن ذلك الاتفاق تم تأجيله إلى غاية الواحدة بعد زوال يوم 6 أكتوبر 1973 حيث كان شهر رمضان، حينها شرعت الطائرات المصرية تقصف العدو الصهيوني في الجبهة السورية، وعلى العكس من ذلك شرعت الطائرات السورية في قصف العدو بالجبهة المصرية وفق اتفاق مسبق بين الطرفين.
وبعد اشتعال الحرب وتحقيق الجيش المغربي والسوري لانتصارات ميدانية، التحقت فيالق صغرى كويتية وسعودية وقطرية، غير أنها ظلت في الاحتياط، ثم تقدمت القوات العراقية، وكانت أكثر عددا وعدة، إلا انها ظلت على الحدود في حالة استنفار قصوى.
في هذه الحرب التي كنت أتابعها بالمذياع انطلاقا من مركز الاسعاف التحت أرضي، حررت التجريدة المغربية في حرب انتحارية نصف مدينة القنيطرة وجبل الشيخ بهضبة الجولان، حيث تشابكت القوات البرية المغربية والسورية مباشرة بشوارع القنيطرة وجبل الشيخ بالجيش الصهيوني وألحقت به هزيمة نكراء أسقطت فيها المدافع العربية عشرات الطائرات الصهيونية بالميدان، إلا أن ثمة احساس بالخيانة من قبل سلاح الجو السوري الذي توقف عن الضربات الجوية لتعزيز القوات البرية المتشابكة مع المدرعات الصهيونية، استغل سلاح الجو الصهيوني هذا الفراغ وهذه الخيانة التي قام بها شقيق الكولونيل السوري حلاوة، قائد لواء المدرعات، حيث كان لاجئا سياسيا باسرائيل في الوقت نفسه تلقت الكيان الصهيوني مساعدات عسكرية من الأسطول السادس الأمريكي، فقامت حوالي 90 طائرة بتوجيه ضربات جوية للقوات المغربية والسورية أسفرت عن سقوط عدد من القتلى والجرحى، حيث أصبت في اليوم الثامن من الحرب بجروح نتيجة شظايا قنابل انفجرت بجانبي حينما كنت أقدم اسعافات للجنود المغرابة في خط المواجهة. حيث ردت القوات الصهيونية عبر هجوم جوي كاسح وهجوم ميداني لقوات «غولاني» العالية التدريب، فاستعادت جبل الشيخ وأجزاء مهمة من هضبة الجولان وتقريبا كل مدينة القنيطرة السورية، والسبب هو تراجع الطيران السوري عن حماية المنجزات المتحققة على الأرض من قبل القوات المدرعة المغربية والسورية».
كانت التجريدة المغربية تضم أفضل لواء مدرعات يتوفر عليه المغرب حينها، الذي كان متواجدا بقصر السوق (مدينة الرشيدية حاليا، ولا يزال بهذه المدينة إلى اليوم واحد من أرفع وأقوى وأحدث أولوية المدرعات المغربية، إضافة إلى تلك الموازية قيمة المتواجدة بأقاليمنا الجنوبية الصحراوية).
وكان ضباط وجنود ذلك اللواء المغربي من المدرعات، من خريجي مدرسة «الدار البيضاء» بالكلية العسكرية بمكناس، التي تعتبر عمليا تكرارا لكلية سان سير الفرنسية الشهيرة على مستوى منهجية التكوين الرفيع والصارم، مع الإختلاف في الإمكانيات المادية طبعا، لكن منهجية التدريس مشابهة.

عودة الكتيبة المغربية

عادت التجريدة المغربية إلى المغرب يوم 5 يوليوز 1974، وقامت باستعراض عسكري بحضور الملك الراحل الحسن الثاني. وقبل ذلك صدر في دمشق مرسوم رئاسي يمنح لقب بطل الجمهورية العربية السورية إلى كل من الجنرال الصفريوي والكولونيل عبد القادر العلام، الذي توفي في حرب الجولان إثر سقوط قذيفة محرقة على سيارة كانت يستقلها للعبور من ثكنة عسكرية إلى أخرى بمنطقة «الجولان». وقد خاطب الملك الراحل وفدا يمثل العائدين قائلا: «إنكم ولله الحمد أعليتم رايتنا وأعليتم شأننا وكلمتنا وأرجعتم للشجاعة المغربية وللبسالة المغربية ما كان معروفا عنها»، مضيفا «والمعطوبين منكم والجرحى منكم يكفيهم أن يمروا أمام إخوانهم سواء في وطنهم الصغير أو في وطنهم الكبير وهم حاملون لجرحهم ليكون لهم ذلك العطب وذلك الجرح أكبر تشريف وأكبر تكريم».