حياة في رِحاب الثقافة والعلوم
مِن نوابغ مغرب القرن العشرين، وأبرز رجالات الوطنية المغربية الذين ضَربوا بسهمٍ وافِر في مسارها وتطويرها وضخِّ التنوير في إنتاجاتها وإعطائها وَهجاً وتألُّقاً سياسيا وفِكريا داخل المغرب وخارِجَه.
ولد محمد بلحسن الوزاني سنة 1910م بمدينة فاس العالِمة، وبرحاب أعرق جوامِعها؛ القرويين تلقّى تعليمه إلى غاية تخرُّجِهِ سنة 1927 وانتِقاله إلى باريس، حائزا من كلياتها شهادة البكالوريا، ثم الإجازة في العلوم السياسية، فأصبح بذلك أول مغربي يحصل على الإجازة في هذه العلوم، قبل أنْ يعود إلى مدينة فاس سنة 1930، لبْدِء مسارِ النضال الوطني المبكِّر.
تجرَّع الرجل مِن وراء جهاده بالقلم وفي الميدان بالاعتقال والتضييق، مما اضطره للعودة إلى باريس، لخَوضِ نضالٍ علمي وسياسي ضدّ الاستعمار، دشَّنه بكتابِه الأوّل “عاصفة على المغرب”، وبنشاطٍ ملحوظ في جمعية نجم شمال افريقيا، وجمعية طلبة شمال افريقيا المسلمين، فـسياحةٌ ميدانية وفكرية وسياسية إلى مصر، قابَل فيها روّاد الفكر العربي الإصلاحي والليبراليين العرب، والقوميين، واستلهَم من قادة الكفاح العربي والمغارِبي فنون مواجهة الاستعمار.
حياةُ الوزاني كفاحٌ ونضال وتحصيل للعلم وإسهام وافِرٌ في تطوير الذهنية المغربية، مع قُدرة هائلة على الانفتاح الفكري والسياسي على كُبرى نظريات القرن العشرين، وتحوّلات السياسة وأنظمة الحكم، إلى جانِب اهتمامهِ الكبير بالصحافة، الذي سيبرُز مع إصداره وإشرافه على أسبوعية باللغة الفرنسية تحت اسم “عمل الشعب” سنة 1933 إثْرَ عودته للمغرب.
المزج بين النضال السياسي والنضال العلمي
يُعَد الأستاذ بالحسن الوزاني أحد الأعمدة الرئيسية في هرمية ومسار كتلة العمل الوطني، ومفكِّرها السياسي عن جدارة واستحقاق، وأحد المساهمين في صياغة برنامج الإصلاحات، قَبل أنْ ينفصِل عنها مُحتَجّاً على عدم اختياره أمينها العام، مُنصرِفاً إلى تأسيس “حزب الحركة القومية”.
ذاق النفي إلى الصحراء مدةَ تِسعِ سنوات، انفرَد فيها مع كُتبه وقلمه، مُحيطاً بما مضى من قضايا الفكر والثقافة والتاريخ والنظم السياسية، ومُستشرْفا بقلمه واقعَ مغرب ما بعد الاستقلال، وإثْرَ إعادته للبلاد سنة 1946، سيستأنِف النضال السياسي مُؤسِّساً حزب الشورى والاستقلال، وفاتحا به مسار تجربة سياسية متميزة ستبصُم تاريخ العمل الحزبي بالمغرب.
بعد جُهدٍ نضالي تُوِّج بالاستقلال؛ اختيرَ الوزاني وزيرا في الحكومة التي ترأسها الملك محمد الخامس، وتوجَّه إلى القاهرة للحضور في مؤتمر دول عدم الانحياز، وخلال هذه الرحلة وقَّع باسم المغرب “ميثاق الدفاع العربي”. إلا أنه سُرعان ما قدَّم استقالته من الحكومة، ليُختارَ نائبا برلمانيا عن مدينة وزان بعد ذلك. ورغم أنه عارض باسمِه وباسمِ حِزبِه دستور 1962؛ إلا أنّه أشاد بدستور 1970 لأنه جاء بعد فترة الفراغ السياسي الذي ساد البلاد إبَّان حالة الاستثناء.
واصل الرجل جهاده المعرفي والسياسي كاتِباً، ومحلِّلاً الأوضاع السياسية، ومُقدِّما المذكِّرات الاستعجالية والإصلاحية للملك الحسن الثاني، لا سيما بعد أنْ دَخلت البلاد منعطفا خطيراً أثناءَ وبَعدَ انقلابين عسكريين، كانَ الوزاني ضحية انقلاب الصخيرات الذي فَقَد فيه ذِراعه اليـمنى[1]، فتعلَّم الكتابة باليد اليُسرى في تحدٍّ لا يُؤتاه إلا رجل استثنائي، وحَرّر مذكِّراته السياسية وعددا من كتاباته المتميّزة، منها: “مذكرات حياة وجهاد؛ التاريخ السياسي للحركة الوطنية التحريرية”، و”حرب القلم”، و”حقيقة الحكم في الإسلام”، و”حرية الفرد وسلطة الدولة”. أردَفها بكتابات أخرى همَّت قضايا في الفكر السياسي والدولة والقانون والدعوة، منها: “في الدستور والبرلمان”، “الدعوة إلى النهضة والانبعاث”، “وطنيات”..
له أيضاً إصدارات أخرى ضمّنَها أهمّ القضايا التي شَغلت فِكره وباله وتجربته السياسية[2]، وأساساً قضايا القيم الليبرالية والتجربة التاريخية للأمة والاستقلال والديمقراطية، ونظام الحكم ومفهوم الدولة، والحرية، والتعددية السياسية. ويلمس القارئ لبعض تلكم الإنتاجات النوعية، قدرةَ العقل السياسي المغربي على الاستشراف، والتنظير للدولة والسلطة والحكم والنّظم والتدبير السياسي والمدني وموقع الحُرية من كفاح الأمة الـمُستقلة، ومُسابَقة الزمن لترسيخ تقاليد في الفكر السياسي المحلي تستلهم من تطور مناخ الفكر السياسي الأوربي والأمريكي وقْتها.
وبَعد أن أثْرى وأغنى الحياة السياسية والساحة الوطنية والمكتبة العلمية لعقود، وجسّد بحيويته الذهنية في النظر إلى الواقع السياسي واستشراف مآلاته؛ توفي إلى رحمة الله النابغة السياسي والمفكّر الألمعي محمد بلحسن الوزاني سنة 1978 بعد معاناة طويلة مع مرض القلب، ودُفِن بمدينة فاس.
المراجع
[1] الوزّاني عزّ العرب: "الدِّيمقراطية في المغرب العربي": منشورات موسسة محمد بلحسن الوزاني، أعمال ندوة دولية نُظِّمَت بفاس، أيام 9-12 شتنبر 1998، مطبعة النجاح الجديدة – المغرب.
[2] لمعطياتٍ أوفى؛ انظر تَرجمته في "موسوعة الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير بالمغرب"، الجزء الثاني من المجلّد الأول، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، نسخة ورقية.
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.