في أصول الحرفة
تعتبر حرفة الزليج المغربي (أو الزليج الفاسي) مهنة دقيقة ومعقدة، بحيث تتطلب مهارات خاصة ودقيقة، وهي أيضا من الحرف الفنية العريقة والتي تشكل حجر الزاوية في المعمار المغربي. وقد اختص المغرب الأقصى تاريخيا وبلاد الأندلس بصناعة الزليج والإبداع فيه، وهو ما يظهر في المساجد والمدارس والقصور والرياضات وغيرها من المنشآت المعمارية في العدوتين (المغرب الأقصى والأندلس)، حيث يعتبر المغرب وإسبانيا من المناطق التي تعرف انتشارا مهما لهذا النوع من الفن داخل المنشئات العمرانية التاريخية. وبعد سقوط الأندلس اختص الصانع المغربي إلى اليوم، وخاصة في مدينة فاس، بهذه الصناعة وورث أسرارها، ومازال الصناع المغاربة يتوارثون أبا عن جد أسرار هذا الفن الرفيع إلى يومنا هذا. وقد أهل ذلك الصانع المغربي أن يصبح اليوم الوحيد القادر في العالم على إبداع وصناعة الزليج، كما كان ذلك يفعل منذ قرون، وهذا ما يفسر الانتشار الواسع لهذا الفن في مختلف مناحي حياة المغاربة، ويفسر استعانة عدد كبير من الدول والمؤسسات الثقافية، وكذا الشركات وحتى الأشخاص في مختلف أنحاء العالم بالصناع المغاربة، سواء لترميم آثار ومنشآت عمرانية كانت مزينة بالزليج المغربي، أو من أجل بناء وتزيين قصور ومنشآت على الطراز المغربي. ف”الزليج المغربي حاليا يعتبر ميراثا حضاريا رسبت فيه عبقريات وتجارب قديمة. ويكاد يكون الوحيد من بين أنواع الزخرفة الأخرى عند الأمم التي قاومت كل تحديات العصر. والغريب أيضا أن الصانع المغربي الآن يستطيع أن يقدم أدق أنواع الزليج التي زخرفت بها قصور بني مرين ومدارسهم في فاس رغم أن هاته الأنواع قد انقرضت وبطل العمل بها منذ قرون.. الشيء الذي لا يتأتى في الفنون الأخرى”[1].
وقد ارتبط نشوء الزليج المغربي وتطوره وازدهاره بحركية التبادل الثقافي بين الأندلس والمغرب الأقصى. وقد انتعشت صناعة وحرفة الزليج الفاسي في عهد الدولة المرينية بالخصوص، خصوصا بمدينة فاس، حيث تعتبر المدارس المرينية نموذجا بارزا على التطور الذي عرفته هذه الحرفة في عهد هذه الدولة، حيث شهدت الحرفة إدخال واستعمال الألوان بشكل مكثف[2].
خصوصيات الزليج المغربي
إذا كانت الفسيفساء الرومانية (أخذوها بدورهم عن الشرق) عبارة عن حجارة صغيرة ودقيقة وقطع من الزجاج الملون، وكذا قطع من الخزف الملون، وتوظف أساسا من أجل من أجل صنع وتشكيل صور للإنسان والحيوان والأشجار والأزهار وغيرها من مظاهر الحياة الددنية والإجتماعية، فإن الزليج المغربي يتم توظيفه أساسا من أجل التجميل والزخرفة، كما أن الأجزاء التي يتركب منها الزليج المغربي عبارة عن أشكال هندسية متعددة ومتشابكة، ويتكون من مجموعها شكل ملون جذاب يسمى اصطلاحا باسم خاص. كما أن الزليج المغربي يختلف عن القاشاني الفارسي (نسبة إلى مدينة قاشان الفارسية) في كون هذا الأخير يصنع من الخزف على شكل مربعات ومستطيلات، وقبل طبخها في الأفران تلون بالأوان البراقة وتكتب عليها الكتابات المطلوبة بتعاريج وزخاريف بديعة. وبعد طبخها تلمع بمواد خاصة قبل أن تأخذ مكانها من السقوف والجدران. فالقاشاني يقوم على أساس الكتابة المزخرفة والحروف الجميلة في إطار جميل جذاب. أما الكتابة بالزليج المغربي فلا تستعمل فيه طريقة القاشاني، وإنما يستعمل بطريقة مختلفة، بحيث تؤخذ المربعات بعد إخراجها من الفرن، وينقش عليها الكتابة المطلوبة[3]. فالزليج المغربي يختلف بشكل كبير عن الفسيفساء الرومانية والقاشاني الفارسي، سواء من حيث طريقة الصناعة أو الغرض منه، وذلك عكس ما اعتادت على ترديده عدد من الكتابات ،وخاصة المشرقية منها، التي تسميه أو تربطه بالفسيفساء.
سيرورة صناعة الزليج المغربي
يعتمد الزليج المغربي أو الزليج الفاسي على مواد بسيطة وآليات ووسائل تقليدية، وخاصة الطين، واللوح الخشبي، وفرن خاص، ومكونات معدنية، وملونات معدنية، وكذا مطرقات خشبية خاصة، وقبل ذلك على مهارات الصانع الفاسي الذي توراث تقاليد ومهارات عريقة في هذا الميدان. وتمر عملية إنتاج الزليج بمراحل أساسية، وهي كالآتي:
– إنتاج مربعات الزليج:
يعتبر الطين المادة الأساسية المستعملة في صناعة الزليج المغربي. ففي بداية سيرورة صناعة الزليج يتم غطس الطين الخام (خليط من الحجر الطيني الأزرق والأصفر) مفتتا في صهريج ماء دائري الشكل (الزوبة) حتى يتحلل، ويستمر هذا التخمير يومين إلى ثلاثة أيام. وبعد ذلك تتم عملية المجانسة عجنا ودلكا باليد مع التنقية من الشوائب. وبعد التجفيف في الظل يحصل الصانع على عجين من طين قابل للقولبة[4].
ومن أجل صناعة المربعات من الطين، يقوم المْعْلم بملء قالبه المربع بالطين ويعرضه للشمس حتى يصبح متماسكا دون أن يجف، قبل أن يحيله على المْعْلم الضرُاب الذي يعمل على ضبط أبعاده (الطول والعرض والسمك) مستعملا مطرقة مسطحة ومشرط خاص، وبعده توضع المربعات تحت أشعة الشمس لتجف وتيبس. وبعد ذلك تأتي عملية الحرق داخل فرن محكم الإقفال (الفْرِينة) في حرارة تصل غلى 950 درجة مئوية، ويوقد الفرن (الفْرِينة) عادة باستعمال مادة الفيتور (مخلفات الزيتون) ونشارة الخشب. وتدوم عملية الحرق/الطهي إلى مدة قد تصل أربعة وعشرون ساعة. وفي اليوم الموالي، وبعد برود الفرن، تستخرج المربعات (أو الحْرْشْ) وهي معدة للطلاء بالألوان وإعطائها نوع من اللمعان. ويتم تحضير الطلاء اعتمادا على مسحوق الألوان مع خلطه بمعدني القصدير والرصاص وذلك حسب طلب الزبون والألوان التي يفضلها، ويطلق الصناع على ألوان الزليج تسميات خاصة مثل: البرايا، والخابوري، والفاروزي، والزنجاري… وبعد تذويب هذا الخليط بالنار يحصل المْعْلم على سائل الصباغة. ومن أجل تثبيت الطلاء وضمان لمعانه يُلجأ مرة أخرى لعملية الحرق في نفس الظروف السابقة[5]، ليصيح زليجا، وهي العملية التي تحتاج إلى حرفية عالية من أجل الحصول على الألوان المطلوبة، حيث يتم ترتيب الزليج بشكل عمودي داخل الفْرِينة حتى يكون فيه اللون المفتوح هو الأقرب إلى النار، وفي الغالب يكون اللون الأبيض ثم تليه بقية الألوان حسب درجتها من الفاتح إلى الغامق، ويتم وضعها بين طبقتين من “المزهري” وهو نوع من الزليج غير الملون والأكثر سمكا وذلك من أجل حمايته من الحرق بسبب التعرض المباشر للنار من الأسفل و لحمايته من الأوساخ من فوق.
وعادة ما تتم هذه المرحلة في فصل الصيف لكي يستفيد الصانع من سخونة الطقس، ليتم تخزين أكبر عدد من المربعات خلال هذا الموسم قصد الاشتغال بها خلال فصل الشتاء، كما أن الصانع ينتج بالأساس لفائدة المْعْلمين الملكفين بوضع الزليج، والذين تكون طلبياتهم مرتفعة بين شهري مارس ويوليوز، وهي الفترة التي تشتغل فيها الورشات الحرفية لوضع الزليج داخل البنايات[6].
– تشكيل المربعات في أشكال هندسية صغيرة:
تنحت المربعات من الطين المجفف يدويا من طرف المْعْلم النْقٌاشْ أو الزْلايْجِي بواسطة مطرقة مخصصة لذلك الغرض تسمى “المنقاش” لتُجزأ هذه المربعات إلى قطع صغيرة تسمى “الفرم”، هذه القطع هي التي تكون بعد تأليفها نسقا خاصا. وتتم هذه العملية عادة داخل ورشات أصغر من الورشات الأولى. وتتم عملية تشكيل النموذج من لدن المعلم الخطاط الذي يضع الشكل الهندسي للرسم على الورق ثم يسلمها للمعلم النقاش قصد تقطيعه. وتتطلب عملية الإنجاز مراحل عدة وهي[7]:
مرحلة التحليل؛ حيث تحدد الأشكال وتُعد مقاييس التناسب المنحوتة.
مرحلة رسم المربعات بواسطة المسطرة أو اعتمادا على القطعة الرئيسية التي يراد نسخها، وتسمى الرشم.
مرحلة القطع في حد ذاتها التي تشتمل على قطع أولي تقريبي ثم قطع نهائي دقيق.
مرحلة نقش الزخرفة.
وعموما فإن عملية النقش تتطلب تقنيات خاصة لا يعرفها إلا المتمرس عليها، فطرق التقطيع والنقش هما قطبا الرحى في صناعة الزليج المغربي.
– الوضع النهائي لقطع الزليج (التْفْراش):
تعد مرحلة ” التفراش” أهم مرحلة في سيرورة إنتاج الزليج. ويقوم خلالها المعلم بتصميم الرسومات على الأرض بناء على رغبات الزبناء ومقاسات الجدران، وذلك لوضع الأجزاء المنقوشة “الفرم” على الأرض بشكل مقلوب. و تكون القطعة الرئيسية (مقياس التناسب) هي التي توضع أولا، وتأتي بعدها القطع الخارجية المحيطية، وشيئا فشيئا تتسع الدائرة إلى أن يأخذ الزخرف المعين شكله النهائي. ويتطلب مربع واحد من الزليج ما بين 6000 إلى 8000 قطعة صغيرة. وعند انتهاء العمل على الأرض، يتم ملئ الشكل النهائي بمادة الجبس الممزوج بالماء لتتماسك القطع فيما بينها، وذلك قبل صب مادة الإسمنت والرمل الدقيق عليه، وذلك بعد وضع إطار عند نهائية التجميع، كل ذلك من أجل ضمان تماسكه والتحامه[8].
وفي المرحلة الأخير تلصق أو تركب اللوحات على الجدار حسب تسلسل تجاورها المرتب مسبقا. ومن أجل ذلك يوضع بين اللوحة والجدار خليط من الماء والإسمنت لضمان الالتحام النهائي للوحات بالجدار، بعد أن يترك فراغ بين قوائم الزليج والحائط، حتى يتسنى للصانع المعلم صب مادة الإسمنت المسلح بينها وبيد الجدار[9].
بعض أشكال الزليج المغربي
وتعد مقاييس التناسب في مجال فن الزليج المغربي بالمئات، قد تفوق 400 شكل، ويمكن تصنيفها حسب مجموعات صغرى وهي:
الأشكال البسيطة: يتم الحصول على الرسم بواسطة قطعة واحدة منسوخة متنوعة حسب لون القطعة.
الأشكال المعقدة: حيث يوظف عدد كبير من القطع.
كما يمكن تصنيف مجموعتين كبيرتين من الأشكال إلى “عْمَل عادي” و”عْمَل بالقطيب”.
ومن أمثلة العْمَل العادي:
العنكبوتي: توحي التسمية ببيت العنكبوت وشكله، وذلك لسببين؛ أولهما أن شكل الرسم يذكر ببيت العنكبوت، وثانيهما أن تركيب مقياس التناسب يتم ابتداء من الوسط نحو المحيط الخارجي.
السطاشري: وهو كذلك صنعة دائرية لكن مركزها مكون من نجمة متفرعة إلى 16 وردة.
ومن نماذج “العْمَل بالقطيب”، هي صنايع أو شبكة أشكال تحيط بجميع المقاييس المكونة، وهذه البنيات ذات المهارة الفائقة، يمكن أن تُكَون مستوى واحدا غلى خمس مستويات من التعقيد والتشابك[10].
المراجع
[1] الزليج والفسيفساء والقاشاني، مجلة دعوة الحق، العددان 131 و132: https://bit.ly/3Cy4Ugb .
[2] راجع موقع غرفة الصناعة التقليدية لجهة فاس مكناس: https://bit.ly/3M9Rg7h .
[3] الزليج والفسيفساء والقاشاني، مجلة دعوة الحق، العددان 131 و132: https://bit.ly/3Cy4Ugb .
[4] الشفشاوني محمد عزيز، معلمة المغرب، ج 14، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا، 2001، ص 4700.
[5] الشفشاوني محمد عزيز، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 4700.
[6] راجع موقع غرفة الصناعة التقليدية لجهة فاس مكناس: https://bit.ly/3M9Rg7h
[7] الشفشاوني محمد عزيز، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 4700.
[8] راجع موقع غرفة الصناعة التقليدية لجهة فاس مكناس: https://bit.ly/3M9Rg7h
[9] الشفشاوني محمد عزيز، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 4700.
[10] الشفشاوني محمد عزيز، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 4700.
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.