أخر الاخبار

"سبع رسائل إلى صالح بن طريف".. حين يلف الصمت مرحلة حساسة من تاريخ المغرب

صالح بن طريف


"سبع رسائل إلى صالح بن طريف".. حين يلف الصمت مرحلة حساسة من تاريخ المغرب


بنعيسى يوسفي

ما زال تاريخ “الإمارة البورغواطية” يستأثر باهتمام الكثير من الباحثين والدارسين، سواء من منطلق تسليط المزيد من الأضواء عليه باعتباره مرحلة تاريخية مهمة من تاريخ المغرب الوسيط حافلة بالعديد من الأحداث والوقائع من جهة، وكذلك على الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي كانت سائدة في ذلك الإبان، أو من منطلق إشكالي يتمثل في كون هذه الحقبة التاريخية التي عاشت فيها هذه الدولة كثر حولها القيل والقال واختلط فيها الغث بالسمين، والحابل بالنابل، وأصبحت معها الحقيقة تراوح مكانها.


فعلاوة على أنه لم يصلنا من تلك المرحلة إلا النزر القليل من الكتابات التي أرخت لها، وللأحداث وظروف ولادة “إمارة بورغواطة”، وأسلوب عيش أهلها وتقاليدهم ومعتقداتهم، والنظام الذي كان سائدا عندهم، وحركات تمددها وتقلصها عبر الزمن على اعتبار أنها عمرت أزيد من أربعة قرون، وكذا الحروب التي خاضتها مع جيرانها ومع الإمارات أو الدول التي تشكلت على محيطها، “المرابطون والموحدون” على وجه التحديد، وما إلى ذلك، فإن الأمور تزداد ضبابية وغموضا عندما تغيب النزاهة الفكرية والمصداقية التاريخية والأمانة العلمية، وطغيان الذاتية والمزاجية على كل ما كتب وروي حول هذه المرحلة، حيث التعتيم وتشويه الحقائق أو تزويرها أو تلفيقها هو سيد الموقف، لتبقى العديد من الأسئلة حول تاريخ هذه الإمارة عالقة إلى حين، ومنها بالخصوص السؤال المحير: من كانت له المصلحة في طمس المعالم التاريخية لهذه الدولة، وكل ما وقع في تلك المرحلة، التي يبدو أنها غنية بالأحداث والوقائع، والاحتكاكات والاصطدامات والحروب؟. فمن دون شك كانت هناك مقومات حضارية عرفتها منطقة تامسنا بلاد البورغواطيين، وحينما نقول مقومات حضارية فهذا يعني أن هناك تقدما على مستويات عدة، اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية، وكان هناك فكر ومعمار وتعليم وقس على ذلك.. أين كل هذا؟ ما الذي جعله في طي النسيان؟ هل لم يتسن للبورغواطيين كتابة تاريخهم وتدوين أمجادهم، أم كتب ودون لكن عبثت به أيدي العابثين ممن جاؤوا بعدهم؟


كل هذه الأسئلة وغيرها لا يزال العديد من الباحثين والدارسين يطرحونها إلى حدود اليوم، وهي تحمل دائما راهنية خاصة، وستبقى دائما موضوع نقاش وجدال بينهم حتى تنبلج الحقيقة مع فلق الصبح، وستبقى أيضا بمثابة صداع رأس مزمن عند كل من يحمل ذرة من هم البحث التاريخي الموضوعي، وتأخذه الحمية والحماسة إلى سبر أغوار هذه المرحلة، ومحاولة إعادة كتابة تاريخها جهد المستطاع، وحتى إن لم يفلحوا في ذلك سيكونون على الأقل قد كشفوا خيوط المستور، وأزالوا النقاب عن كل تلك الأباطيل والأكاذيب والافتراءات والسفاسف التي ألصقت بهذه الدولة، وعملت على تقزيم هذه الدولة، التي يشهد من كتب عنها في لحظة صحوة ضمير أنها دولة عملاقة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.


ولعل محاولة شعيب حليفي، من خلال كتابه “سبع رسائل إلى صالح بن طريف” تدخل في هذا السياق وتندرج في هذا الإطار، فإثارته لهذا النقاش حول “الإمارة البورغواطية” وما يحيط بها من جدال دليل على أن المؤلف تخالجه وتساوره أفكار وهواجس وأسئلة كثيرة حول هذه المرحلة، ولا يزال يبحث بين ثنايا المادة التاريخية المتاحة عن الإجابة عن بعضها على الأقل، وكأنه يريد أن يقول لنا جميعا إن الباحث والدارس والمؤرخ ما زال يتحمل القسط الكبير من المسؤولية حول ما آل إليه تاريخ “الإمارة البورغواطية”، ويوثر أن يجعل الجميع أمام المسؤولية التاريخية، نتيجة ضياع الكثير من المعطيات والمعلومات والحقائق التاريخية حول هذه المرحلة.


وإذا كان الكاتب في الحقيقة كمن يدعو بشكل أو بآخر إلى ضرورة تضافر الجهود للعودة إلى هذه المرحلة، وإيلائها ما تستحقه من العناية والبحث والتنقيب والدراسة.. لعلنا نعيد صياغة تاريخ هذه المرحلة صياغة صحيحة خالية من الأغاليط والأكاذيب وما إلى ذلك، فإنه يحسب له هذا الإسهام حول تاريخ هذه الإمارة، وهذا ما يمكن اعتباره شيئا من إخلاء مسؤوليته ولو مؤقتا إزاء هذه المرحلة، ويعطي الانطباع على أن الحديث عنها لن يتوقف كيفما كانت الظروف والأحوال، وحسنا فعل وهو يدنو من هذه المرحلة التاريخية من تاريخ المغرب “المنسي”، هذه المرحلة التي تكاد تصنف في خانة المراحل المسيجة والمستعصية على الدراسة والمكاشفة الحقيقية، مرحلة تحكمها خلفيات إيديولوجية عميقة يختلط فيها السياسي بالديني بالثقافي، لكن من خلال مقاربة الكاتب لتاريخ منطقة بورغواطة بطريقة هادئة وبديعة وبأسلوب أدبي رفيع، واعتمادا على المادة التاريخية المتاحة، استطاع بفطنة القارئ والدارس والباحث الأكاديمي أن يخرج باستنتاجات هي عصارة تحليله واستنطاقه وتأويله لكل النصوص التاريخية التي قرأها، الشيء الذي يجعل تلك الاستنتاجات الرصينة قيمة مضافة تزيد من توضيح الصورة وإزالة اللبس والغشاوة، وبالتالي إيصال خطابه ورسائله إلى القارئ وكل ما يرمي إليه من خلال هذا الكتاب، وهذه مهارة لا يمكن أن يمتلك ناصيتها أيا كان، فهذه آليات للقراءة والبحث تستدعي جهدا فكريا وملكة حدسية متفردة وقدرة كبيرة على عقد المقارنات والموازنات، التي لا تتأتى إلا من خلال تراكم التجربة الكتابية والإبداعية عند المثقف والباحث.


على غير العادة لا يتضمن كتاب “سبع رسائل إلى صالح بن طريف” بين طياته فصولا أو محاور يعالجها الكاتب كل واحدة على حدة كما قد ينصرف إلى أذهان الكثيرين، بل سلك مسلكا آخر مختلفا عما هو سائد ومألوف، حيث استعمل وسيلة مغايرة في ذلك تتجسد في كون محتوى الكتاب كان على شكل رسائل بعثها إلى صالح بن طريف أحد أهم الملوك البورغواطيين، أو إلى روحه، على اعتبار أن الروح البشرية لا تموت كما يموت الجسد، فكل ما كتبه هو مناجاة لروح صالح بن طريف قبل أن تكون شيئا آخر، وإن كانت كل رسالة تحكي قضية أو مسألة محددة تهم بالدرجة الأولى تاريخ “الإمارة البورغواطية” والمحطات الحاسمة التي عاشتها على امتداد أربعة قرون ونيف، وكذا مآلاته ومصيره، وأين انتهى به المقام، وهي على شكل مرثيات حول تاريخ ومجد ولى، إلا أنها في النهاية تشكل وحدة موضوعية ومتن الكتاب الموحد والمتماسك، وهذا أسلوب جديد ابتدعه الأستاذ الباحث ينم عن رغبته في إرساء تقليد جديد في الكتابة التاريخية، يبدو أن الهدف منه من دون شك هو الخروج من الرتابة والملل ومحاولة جذب انتباه المتلقي للاطلاع على فحوى الكتاب بطريقة ذكية وشيقة.


وقبل التطرق إلى هذه الرسائل السبع وما تنطوي عليه من معطيات ومضامين وما تنضح به من جواهر ودرر لا مندوحة من التعريج أولا على المدخل الذي استهل به الكاتب كتابه، والذي يمكن اعتباره بمثابة إحاطة بالظروف السياسية والاجتماعية بالخصوص التي عاشها المغرب القديم، والتي عالجها وقاربها الكاتب بمنطق تسلسلي إلى أن انبعثت من رحم كل تلك الأوضاع والظروف “إمارة بورغواطة”.


وبعدما حسم الكاتب في أصول سكان المغرب واعتبرهم شعبا أصليا وأصيلا ظهر وعاش على هذه الرقعة الجغرافية منذ ظهر الإنسان العاقل على هذه الأرض، مفندا في ذلك كل المزاعم والفرضيات والأساطير التي تريد نسب الإنسان المغربي إلى جهات أو مناطق مختلفة من العالم، انتقل إلى رصد كل التلاقحات الحضارية للمغاربة مع العديد من الشعوب التي كانت تحذوها رغبة اكتشاف هذا البلد، الشيء الذي يدل على أن هذه الأرض منذ الأزمان الغابرة كانت محط اهتمام دائم من قبل الفينيقيين والقرطاجيين والرومان والوندال، وما استدعى ذلك من ثورات وانتفاضات، لينتقل الكاتب إلى مرحلة “الفتح الإسلامي”، الذي غير الكثير من المعطيات على الأرض واعتبر نقطة تحول وعلامة فارقة في المسار التاريخي المغربي، فأولا استطاع هذا الفتح أن يحدث تحولا تاريخيا في تحديد الهوية المغربية ضمن منحى تاريخي جديد، وثانيا استطاع فيه المغاربة أن يصيروا فرسانا وقادة ومبادرين، خاصة حينما ساهموا بشكل كبير في فتح الأندلس.


ثم انتقل إلى ثورة ميسرة المطغري رفقة طريف بن مالك، والتي أعلنت نهاية الحكم الأموي في المغرب، وبداية تأسيس الدولة المغربية من خلال “إمارة بورغواطة” ببلاد تامسنا.

تلخص رسائل شعيب حليفي أربعة قرون من حياة “الإمارة البورغواطية” وكل ما تخللها من أحداث، سواء في عهد طريف بن مالك الأب أو في عهد ابنه صالح أو حتى مع الملوك اللاحقين من بعدهما، وهكذا بعدما استعرض السياق التاريخي الذي عجل بقيام أول إمارة مغربية إسلامية مستقلة بالمغرب بقيادة طريف المصمودي، الذي يمتاز بخصال القائد البارع، ولعل بعض الصفات التي أوردها الكاتب في إحدى رسائله دليل قاطع على ما نقول، وحسبنا أن نذكر واحدة على الأقل، هي أنه يعتبر أول من أعطى الإذن العسكري ببداية فتح الأندلس من جهة، ثم فك الحصار عن طارق بن زياد، الذي حوصر في الأندلس وما إلى ذلك. وبعد ذلك سيرث الحكم ابنه صالح، الذي لا تختلف طبائعه كثيرا عن طبائع أبيه وشيمه وشجاعته، حيث ورث منه الإسلام والتقوى والورع والزهد في الحياة والابتعاد عن كل أشكال الترف والبذخ، والانحياز إلى العفة والتواضع والكفاف في الحياة، وهو المتعلم الفقيه الذي تجشم عناء السفر إلى المشرق لمدة سبع سنوات يطلب العلم ويتفقه في شتى العلوم والمعارف، وسيأخذ على كاهله استكمال المسار الذي سطره والده من قبل على امتداد سبع وأربعين سنة قضاها في سدة الحكم مهاب الجانب، والحفاظ على قوة الإمارة، وجعلها ذات قوة وبأس بعدما تبين أن هناك من كان يتربص بها وبخيراتها الطبيعية وثرواتها المختلفة.


وفي النهاية لم يفت شعيب حليفي تذييل كتابه هذا بملحق لنصوص منتخبة، وهي نصوص تاريخية مقتبسة من كتب ومراجع تاريخية معروفة، استند عليها في كتابة رسائله. وبقدر ما استشهد بها الكاتب لتعضيد وتقوية كلامه، لكن في الوقت نفسه يطرح أكثر من سؤال حول مدى صحة ما ورد فيها، خاصة في غياب نصوص تاريخية أو جغرافية تعود إلى البورغواطيين أنفسهم، التي يرجح الكاتب أنها تعرضت للتلف أو للحرق، وبالتالي انمحى أثرها شأنها في ذلك شأن أي أثر يؤرخ لحياة البورغواطيين، ومن هنا لا مناص من توخي الحيطة والحذر في التعامل مع الكتابات غير البريئة والمجحفة التي تعاطت مع تاريخ البورغواطيين.

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -