أخر الاخبار

خطاب الملك محمد الخامس في مؤتمر فاس لليونسكو

دعوة الحق

8 العدد

خطاب الملك محمد الخامس في مؤتمر فاس لليونسكو


الحمد لله                                                                               

أيها السادة                                                

إن أنفس ما تنفق فيه الأوقات وتبذل الجهود معرفة تسعد الإنسانية بتعميمها، وثقافة تسمو العقول بتقريب بعيدها و تيسير سبلها، ولهذا نحس بالسعادة تغمرنا ونحن نفتتح مؤتمر اللجان الوطنية العربية التابعة لمنظمة اليونسكو، ونرحب بالمؤتمرين الذين جاءوا من الأقطار الشقيقة للمشاركة في أشغاله، والتعرف على قطر عربي طالما حيل بينهم وبين زيارته، كما نرحب بزملائهم الملاحظين والمدعوين، ونشكرهم جميعا على تلبيتهم دعوة اللجنة الوطنية المغربية.                                                                                     


وعندما ظهرت فكرة هذا المؤتمر بادرت بلادنا إلى إبداء رغبتها في رعايته واحتضانه، واختارت لائتمار أعضائه كبرى حواضرها ذات الصيت الجامعي الذائع، وكان يحدوها في عملها هذا شعورها بأداء واجبها في الميدان الثقافي من جهة، وأملها في إحياء أحد تقاليدها الحسنة القديمة من جهة أخرى، فأنتم تعلمون أن وضعها هيأها منذ أقدم العصور للقيام بدور ممتاز في تفاعلات الحضارات، ووصل الشرق بالغرب بأوثق الصلات، وفسح آفاق النظر عند علمائها، ووهبهم عقلا يفكر للإنسانية لا لطائفة منها دون طائفة.                 

 ولا نغفل في هذا المقام عن إلإشادة بجامعة القرويين التي هي من أقدم الجامعات التي درست فيها العلوم الرياضية والطبيعية بجانب علوم اللغة والدين، كما لا ننسى التنويه بمدينة فاس التي كانت من أغزر ينابيع ثقافة العروبة وحضارتها في جناحها الغربي، وكانت معاهدها ومصانعها مقصدا لطلبة ومتعلمي البلدان الإفريقية والمتوسطية، بما فيهم طلبة أوربا الذين نال بعضهم آنئذ شهرة عالمية.                                         


 ولقد هيمنت علينا هذه الروح -روح التعلق بالعلم والإفادة به- ونحن نضع الخطوط الرئيسية للنهضة المغربية الحديثة فجعلنا الثقافة قاعدة قواعدها، واعتبرناها من حقوق المواطنين الأساسية، وأثناء جهادنا التحريري لم نفرق بين الكفاح السياسي والكفاح الثقافي، بل حاربنا في الميدانين معا، وقد آتت جهودنا - ولله الحمد- بواكيرها، ووضحت معالم الطريق لرعايانا فالتزموها غير زائغين عنها ولا متوانين، وإن لنا لرغبة قوية في أن نقطع بقية الأشواط، مستعينين بكل الكفاءات، متآزرين مع سائر المنظمات التربوية والثقافية والعلمية في العالم، ولاسيما منظمة اليونسكو. 


أيها السادة

إننا لا نجهل ثقل الأعباء التي تضطلع بها منظمة اليونسكو، ولا سعة الميادين التي يتعين عليها أن تعمل فيها، ولكن مهما عظمت التضحيات وغلت الأثمان، فهي هينة زهيدة بالنسبة للمغانم التي تترقب الإنسانية أن تسفر عنها جهودها، ولقد أصبحت الثقافة ضرورية للناس ضرورة الماء والهواء، لا لإنارة أذهانهم ورفع مستواهم فقط، ولكن لتقريبهم من بعضهم، وتوطيد دعائم السلم بينهم أيضا، فكثير من المشاكل والأزمات التي يتخبط فيها العالم إنما أتت من الجهالة، وما تخلف في العقول من ضيق وتولد في النفوس من عصبيات، وسيشهد العالم سلما ثابتا واطمئنانا حقيقيا يوم يتبدل الضيق سعة بالعلم، وينقلب التعصب تسامحا.          


وقد سرنا أنكم جعلتم من جدول أعمالكم دراسة المشروع الكبير الرامي إلى تقدير قيم الشرق والغرب، فإن تقدير الأمم لقيم بعضها ووزنها بموازين العقل يخلق فيها روح الاحترام المتبادل، ويحملها على أن تتقابس من أحسن ما عندها، وذلك كفيل بإخماد جذى المنافرات، وإضعاف أسباب العداوات.             


  إننا نعيش في عالم تقاربت أبعاده بفعل التقدم الحضري وسرعة المواصلات، وتمدين سكانه بمدنية متشابهة هي تراثهم المشترك لاستقائها من سائر المدنيات القديمة، وأصبحت شعوبه بمثابة أفراد الأسرة الواحدة، فما أحراها -والحالة هذه- أن تتعاون تعاونا جديا على نشر الثقافة، وأن تهب لصد عادية الجهل عن مئات الملايين من ضحاياه كما تهب لنجدة بعضها عندما تدهم الكوارث وتهدد المجاعات، وما أحرى العلماء أن يوجهوا العلم وجهة صالحة، فيجعلوا منه وسيلة بناء وتعمير، لا أداة تخريب وتدمير، وأن ينشروا به ألوية المودة والوئام والسلم على أسرتهم الإنسانية الكبرى، لتعيش في سعادة وهناء.                              


إننا ونحن نسرع الخطى في طريق نهضتنا ندرك كل هذه المعاني، ونود مؤازرة اليونسكو في مهماتها التثقيفية والتعميرية والتقريبية، ونبتهج بالدراسات والأبحاث التي تريد القيام بها في المناطق القاحلة، ونعد ذلك من بشائر نجاحها وتوفيقها، فإن تثقيف الشعوب ورفع مستواها المادي كالخطين المتوازيين، كما نبتهج بكل تقارب يحصل بين اللجان الوطنية العربية، ونتمنى أن يسفر عن تأليف رابطة لها، حتى تستطيع أن تقدم لليونسكو إعانة فعالة مجدية، وتوثق عرى الوحدة الثقافية بين الأقطار العربية، وتعبئ الجهود لحل مشاكلها في الميادين التعليمية والتربوية.                                                                           


أيها السادة                                                                                                

إننا نحييكم، ونتمنى لكم التوفيق والنجاح فيما تباشرون من أعمال، وأن تخرجوا منها بنتائج إيجابية، كما نرجو لكم جولة ممتعة في هذه البلاد الجميلة المضيافة، التي يعيش سكانها عيشة رضية متساوين متسامحين، غير متمايزين من أجل اللغة أو اللون أو الدين.

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -