علال الفاسي
انتبه المسلمون اليوم على قنابر المستعمرين تدوي في أراضيهم، وأزيز المعامل الأجنبية تتجاوب في أرجاء بلادهم، فاندهشوا كيف تطور العالم الغربي هذا التطور وكيف أصبحت وسائل المسيحيين تطغى على الوسائل التي ورثها المسلمون. وقد تساءلوا عن الأسباب التي جعلتهم يرقون إلى هذه المكانة التي حكمتهم في مصير الشرق والغرب، بينما دأب المسلمون على حالة الخاضع الذي لا يتحرك ليتحرر، حتى يقع في قبضة مستعمر جديد، أو أسلوب من الاستعمار جديد.
و طبقا للعادة البشرية، فقد حاولوا أن يردوا أسباب الفشل والتأخر إلى نفوسهم أو عقائدهم، ولكن الحقيقة غير ذلك، فالغرب الأوربي لم يترق بصحة العقيدة ولا بقوة الخلق، بقدر ما ترقى بتطور الآلة والقدرة على الإنتاج، والمسلمون لم يتأخروا إلا لأنهم جمدوا على حالة من العيش، وأسلوب في العمل، لم يعد صالحا لحاجات البشرية ومستجدات العصر، وطبعي أن يؤدي هذا الاندهاش والشعور بالنقص إلى البحث عن الوسائل التي تصلح الأحوال وتؤدي للتطور المنشود.
والتفت المسلمون فإذا الغرب القوي الجبار منقسم على نفسه، بين نظام يقوم على المال، ونظام يقوم على العمل، واحد يمجد المالكين ويعتبرهم المثل الأعلى للنشاط والمقدرة على بناء الشخصية، والآخر يمجد العاملين وحدهم، بما أنهم الذين يضحون بكل شيء في سبيل الإنتاج وخلق المصنوع، ونظر، فإذا الأولون يبالغون في تقديس المال وعبادة الملكية والإشادة بالثروة بينما يدوسون بأقدامهم الطبقة الكادحة التي تظل نهارها وليلها عاملة ناصبة في سبيل الخلق والإبداع، ويبخلون عليها بالأقل الحيوي، ويعتبرونها نوعا من الرقيق الجديد إذا اعترفوا له بحق ما فإما ليكتسبوا منه أكثر، وإذا أرضوه في بعض الأشياء، فما ذلك إلا ليخضعوه بأقرب الطرق إلى ما يريدون، أما الآخرون فإنهم ينصفون العامل وإن كانوا يستعبدونه للدولة ويفقدونه الشخصية التي لا قيمة للفرد دونها.
لقد حار المسلمون بين الشرق والغرب، بين الشيوعية والرأسمالية، بين دعاة هذه وأنصار تلك، حتى كادوا يفكرون أنه لا سبيل للخلاص إلا باختيار إحدى السبيلين، ونسوا أن لهم من تعاليم الإسلام وأبوابه، ما يفتح لهم وللإنسانية جمعاء آفاقا بعيدة تنجيهم من الحيرة ، وتأخذ بهم إلى الخلاص.
فالإسلام رفع قيمة الفرد، وجعله غاية الجماعة، وفرض علينا التضامن في سبيل عمارة الأرض وإصلاح
أحوالها لخير الكل، وأعلمنا أن الله خلق ما في الأرض لنا جميعا، فعلينا أن نبذل ما نستطيعه من جهد لاستخراجه والاستفادة منه، دون أن يطغي أحدنا على الآخر. أباح الإسلام الملكية، ولكنه لم يعطها القداسة التي أعطتها لها الثروة الفرنسية، لأنه اعتبرها عاملا من عوامل الاستقرار ووسيلة من وسائل الحث على العمل، وأعطى العمل قيمته الكبرى إذ جعله فضيلة إنسانية وخاصة بشرية، وفرض على الجميع الشغل في سبيل القوت وفي سبيل العائلة، وأعطانا أسسا من العدالة الاجتماعية، تقوم على تقسيم الثورة بقدر الحاجة أولا، ثم بقدر المجهود ثانيا - فلا يبخس أحد نتيجة عمله، ولا يحرم أحد مما يقوم به أوده.
و جعل المال وسيلة لا غاية، فمظاهر الثروة كلها إنما هي أدوات يتوصل بها إلى الحياة وإلى مساعدة الجمعية المسلمة على النمو والازدهار، ولذلك فلا يصح الاتجار في المال، ولا قرضه بالفائدة، ولا يسوغ ادخاره إلا إذا أدى الزكاة، لأن في كنزه عدم استعمال له وذلك ما يضر بالحالة الاقتصادية، وهكذا حفظ الإسلام التوازن بين الذين تسمح لهم ظروفهم وجهودهم بالإثراء من الطريق المعقول المشروع، وبين الذين يتقدمون للعمل، حتى يتم التقارب بين الطبقات، وتزول الفوارق الاجتماعية التي لا يرى لها الإسلام مبررا إلا إذا كانت قائمة على أساس المجهود الأكبر والعلم الأقوى، فلو أن المسلمين استطاعوا أن يرجعوا إلى أنفسهم ويتربصوا في تعاليم دينهم لأمكنهم أن يجدوا لأنفسهم النظام الصالح الذي يضمن لهم السعادة والعدل والإيمان.
ويتساءل المسلمون اليوم: أيمكننا أن نتعامل بالربا؟ ويجيبون بأن نصوص القرآن تحرم ذلك، ولكن عوامل الوقت تدعو إليه، ويتبجح أقوام بأن العصر لم يعد صالحا لتطبيق هذه التعاليم الإسلامية، لأن قواعد الاقتصاد العصري تفرض محرمات لم يعد ممكنا تلافيها، وينغمرون في الرأسمالية المحرمة، حتى إذا وقعوا في حمأتها عادوا ينشدون الخلاص، فلا يجدون مخرجا غير التطرف نحو الشيوعية التي تعوض رأسمالية الجماعة برأسمالية الدولة، ويحاول آخرون أن يبرروا باسم الدين ما كان محرما، متأولين الآيات ومستنزلين من التنزيل ما يطمئن إليه أنصار الماليين أو أنصار الكادحين، وينسى الجميع أنه لا يمكن أن يؤخذ نظام من الأنظمة أجزاء، بل إما أن يؤخذ كله أو يترك كله، ذلك الشأن في الرأسمالية وفي الشيوعية وذلك الشأن في الإسلام.
إن النظام الذي يفرضه الاستعمار علينا اليوم نظام رأسمالي محرم بجميع أشكاله، فكيف يمكن أن نحاول تبرير بعض أجزاء منه، كالربا أو الضمان أو المكس أو غير ذلك، مما يتنافى مع أبسط تعاليم الإسلام.
والنظام الذي يطلب منا أن نكافح من أجله هو عكس ذلك ولكنه ليس أقل منافاة للإسلام منه، إنه يحرم الفرد من حريته ويأخذ به للإيمان بمادية لا روح فيها، أما النظام الإسلامي فهو وسط بين الطرفين، يقوم على العدل، أي المساواة في الحقوق وفي الواجبات، في إتاحة الشغل وفي الجزاء عليه.
لو أن المسلمين لم يقفوا في القرن السادس عند ما وقفوا فيه، ولو أنهم اكتشفوا البخار كما اكتشفه الأوربيون، واستعملوا الآلة في نفس الوقت، لكان للنظريات الاقتصادية عندهم شأن آخر يتفق مع ما أعطوه من تجربة التوفيق بين الدين وبين حاجات الإنسان، ثم لتطوروا بعد ذلك بتطور الآلة، ولسايروا ركب الحضارة العصري، من البخار إلى الكهرباء فعالم الذرة. ولكن سوء الحظ جعل قسما من هذه الحضارة يتطور في إطار بعيد عنهم، وغريب عن نظرياتهم، ولذلك فقد أدى به الأمر إلى الثورة على الدين، لأن رجاله في الغرب كان يقاومون المعرفة ويستنكرون المنكبين عليها، أما الآن وقد استيقظ المسلمون فواجبهم أن يبدأوا من حيث وقفوا، واجبهم أن يقتبسوا آخر ما وصل إليه الغرب من الصناعات ومن العلوم الضرورية لها، ثم يعرضوا ذلك على قوالب الاستنتاج التي خلفها لنا الأسلاف، والتي تقوم قبل كل شيء على الإيمان بالعقل، واستخلاص أحسن التجارب، وإذن لعرفوا في مقدمة الأمور أن الاقتصاد من حيث هو ليس علما ذا قواعد ثابتة لا تتخلف، وإنما هو مجموعة من الأنظمة التي تبتكرها الجماعات البشرية لتسير على منوالها زمنا ما، حتى إذا خلقت ابتكرت غيرها رغبة في الوصول إلى أساليب الكسب، وتنظيم قواعد المعاملة، ولذلك تجد الاقتصاد السياسي، عند الديمقراطيين غيره عند الفاشيين، وهو عند الشيوعيين مخالف لهما معا، فعلينا أن لا نحصر أنفسنا بين مضيقين، بل يجب أن نتجه إلى الفكر الحر والتجربة الواسعة، لنجد منهما مرة أخرى تعاليم الإسلام التي رفعت من شأننا في العصور الأولى، والتي هي وحدها القادرة على أن ترفع من شأننا في هذا العصر وفي كل عصر.
دعوة الحق - العدد 2
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.