أخر الاخبار

الدبلوماسية المغربية في فجر العصر الحديث

 

عبد الحق بنيس


إنني أود أن أتحدث عن ميلاد الدبلوماسية المغربية يوم أن برز مغربنا للميدان الدولي، يجابه التيارات العالمية الجارفة، ويقف منها موقف الحكيم الذي يلجأ إلى تحكيم القوة في محل القوة، وإلى استعمال اللياقة والظرف حين تدعو الحاجة إلى اللياقة والظرف.

فالرجوع إذن إلى هذا الماضي ليس ضربا من ضروب العبث، وليس من قبيل زخرفة القول أو تزويق الكلام، وإنما هو ضرورة ملحة لفهم أحوالنا الراهنة، وإدراك ظروفنا إدراكا سليما لا لبس فيه ولا غموض. نعم! إننا في حاجة ماسة إلى خلق وعي صحيح، يقوم على احترام تقاليدنا والتغني بمجدنا وحضارتنا.

إذا تكلمنا عن مهارة الدبلوماسية المغربية في فجر العصر الحديث، فإنما لندخل في روع الجميع إننا في الاستقلال عريقون وفي المجد والحضارة أصيلون. وموضوع كهذا يحتاج إلى الكثير من الوقت لمعالجته. ولكن نظرا لضيق المجال، فإنني سوف أحاول أن احصر البحث في أفكار رئيسية ثلاث. فنتعرض بادئ ذي بدء إلى الدول العظمى في العالم أنداك، ثم ندرس وضعية المغرب في الداخل، وأخيرا نتناول بالتحليل الكيفية التي جابه بها المغرب هذه الأوضاع الخارجية أعني كيف صمد لشتى التيارات الجارفة، وكيف استطاع أن يثبت شخصيته الدولية.

وسنخرج في الختام بنتيجة هامة، وهي أن المغرب لم يكن أبدا في معزل عن التيارات العالمية، كما يزعم الكتاب الغربيون، واخص بالذكر منهم الأستاذ هنري طبراس صاحب «كتاب تاريخ المغرب». هذا الأستاذ الذي عقد فصلا من كتابه فيما سماه بعزلة المغرب.

لقد سيطرت على العالم في القرن السادس عشر ثلاث قوى تمثلث في دولتين غربيتين، هما اسبانيا والبرتغال، وفي دولة شرقية هي الإمبراطورية العثمانية الناشئة.

فأما الدولة الاسبانية، فكانت متفرقة الكلمة في عهد الاحتلال العربي للأندلس، ولعل السبب في رأب صدعها وتوحيد كلمتها راجع إلى دفع هذا الخطر العربي الذي جثم على أرضها ما يزيد على سبعة قرون. كانت اسبانيا منقسمة على نفسها يحارب ملوكها بعضهم بعضا، ويتنافس أمراؤها على السيطرة والنفوذ، رائدهم في ذلك الأطماع الشخصية ليس غير. ولكن الكنيسة بما لها من وسائل دينية ناجعة، استطاعت أن تذكي الحماس الديني في النفوس لاسترجاع ما تبقى من أرض اسبانيا في يد العرب. فدب الإيمان القوي في القلوب، وهب الجميع متآلفين متحدين للزحف على غرناطة آخر مملكة عربية في الأندلس. ومما زاد في جمع الكلمة اتحاد فرديناند وابيزابيلا عن طريق الزواج السياسي الذي باركته الكنيسة، بل، وسعت فيه كوسيلة من وسائل تمتين الروابط بين الملوك والأمراء. هكذا سقطت غرناطة مخلف-ة حقدا دفينا في نفوس أبناء اسبانيا، إذ كان وجود العرب على أرضها حافزا لها على الأخذ بأسباب النهضة التي عمت كل ممالك أوروبا الغربية وقتذاك، ظهرت النهضة في شتى مرافق الحياة الاسبانية، ولكنها اكتست حلة بهيجة في العلوم الجغرافية، فبعد أن كانت فكرة كروية الأرض محط جدال ونقاش بين الناس، أصبحت الآن من الأمور المسلم بها تقريبا، وبعد أن كان المحيط الأطلسي مثار مخاوف، ردحا من الزمن مخرت الآن مراكب كولومبس ورفاقه عبابه، فوصلوا على نهايته ضانين أنها جزء من بلاد الهند، ولكنها كانت أمريكا. أمريكا موطن الثروة والذهب، وما هي إلا فترة حتى ملكت اسبانيا المتحدة، معظم أجزاء الدنيا الجديدة، فأصبحت بفضل ذلك إمبراطورية استعمارية شديدة البأس قوية الإمكانيات، فليس من العجيب إذن أن تلتفت إلى المغرب تحاول أن تأخذ بثأرها وتنتقم لنفسها من الاهانة التي ألصقها العرب بجبينها. فكان المغرب والحالة هذه في خط النار الأول من المعركة الانتقام من المسلمين، وكانت شواطئه الشمالية هدفا لهجمات متكررة يشنها الاسبانيون بين الفينة والأخرى. أن هذه الشواطئ هي التي اتخذها فيما قبل موسى بن نصير، وطارق ابن زياد، ويوسف بن تاشفين، والمنصور ألموحدي، وغيرهم من صناديد المغرب، أقول اتخذ هؤلاء من هذه الشواطئ قاعدة إستراتيجية لاحتلال اسبانيا، فلا عجب إذا هفت إليها الآن قلوب القادة الاسبانية تريد بسط سيطرتها عليها.

وأما الدولة العظيمة الثانية فهي البرتغال. البرتغال عاصرت اسبانيا، وأخذت هي بدورها بأسباب الرقي والتقدم، واكتشفت هي الأخرى اكتشافات جغرافية، ولكنها كانت تقول بفكرة الطواف حول إفريقيا للوصول إلى بلاد الهند مركز العقاقير.فاصطدمت في طريقها إلى الهند بالشواطئ المغربية الأطلسية، فاحتلت طنجة والعرائش وأسفي وآزمور، وبنت حصونا منيعة كحصن (فونتي) بالقرب من (أجادير) وبنت مدينة الجديدة، ولا تزال آثار هذه المدينة إلى الآن تشهد بذلك الاحتكاك البرتغالي-المغربي وهكذا كانت المصلحة الاقتصادية تحرك همم البرتغاليين في احتلال شواطئها الغربية.

وأما الدولة العظيمة الثالثة، فهي الإمبراطورية العثمانية الناشئة. هذه الدولة التي قامت على أنقاض الإمبراطورية البزنطية في العصر الوسيط، فورثت أملاكها وأضافت إليها أقاليم العالم العربي من العراق إلى بلاد الجزائر. وكانت هذه الإمبراطورية تدعي أنها تحمي حمى الإسلام، ولذلك تسمى سلاطينها بالخلفاء واصبغوا على أنفسهم حلة دينية قشيبة سهلت لهم فتح أقاليم العالم العربي. وبهذه الحلة نفسها أرادوا دخول المغرب، ولكنهم فشلوا دون مسعاهم كما سيتضح لنا بعد قليل.

                                        

ولنرجع داخل المغرب فنقول بأنه في الوقت الذي تكالبت فيه هذه الدول كلها لاحتلاله كان محكوما من قبل سلالة مستضعفة هي السلالة الوطاسية. ففي عهدها أصاب المغرب عدة نكبات، خروج العرب من الأندلس، ولاحتلال الأسبان لمليلية، ووصول الأتراك إلى بلاد الجزائر واحتلال البرتغاليين لمعظم شواطئنا الغربية. فالوضع الداخلي إذن كان سيئا جدا، لكنه سوف لا يبقى كذلك، بل ستنظم حركة في منطقة السوس بزعامة السعديين، وكان القصد منها تطهير البلاد من كل مظاهر السيطرة الأجنبية مهما كان نوعها. أنها حركة مباركة حمل لوائها السعديون. وإنها مهارتهم ودبلوماسيتهم، فكيف استطاعت هذه الحركة أن تحمي الحدود وتطهر البلاد من كل متعد أثيم ؟.

لقد لجأ ثاني سلاطينهم الملقب بالأعرج إلى منطق القوة حيث أرغم البرتغاليين على إخلاء مراكزهم المحصنة في أسفي وفي عهد خلفه السلطان محمد الشيخ جلا البرتغال عن آزمور وفونتي، ذلك الحصن الذي وصفه المؤرخون الأجانب يكونه امنع من عقاب الجو. وكان لسقوط هذه الحصون المتوالية في يد الجيش المغربي صداه الكبير في داخل البلاد وخارجها. فبالنسبة للداخل تحقق للسعديين ظفر كبير اكسبهم شعبية على حساب الوطاسيين الذين لم يستطيعوا درء الخطر الداهم عن البلاد. وبالنسبة للخارج اخذ الدول العظمى تعتمد على المغرب وتريد جذبه إلى فلكها لحفظ التوازن الدولي. فالإمبراطورية العثمانية فكرت في الاعتماد على المغرب واتخاذه كدعامة هامة في وجه الغزو الأوروبي للمغرب العربي. والأسبان والبرتغال اقتنوا بجدوى التحالف مع المغرب للحيلولة دون تسرب الأتراك إلى المغرب، هذا التسرب الذي لم يكن من شأنه لن يشكل خطرا على المغرب فحسب، وإنما على أوروبا نفسها. فهي لم تنس ذلك التوسع الإسلامي بالأمس على يد العرب الذين اتخذوا من المغرب قاعدة عسكرية لاحتلال الأندلس كما سبق أن ألمعت على ذلك من قبل. وهنا ظهرت الدبلوماسية المغرية ببراعتها وحنكتها، واستطاعت الحركة السعدية، بفضل هذه الدبلوماسية أن تلعب الدور الفعال في حفظ استقلال المغرب من الضياع والزوال.

ولئن فشل السلطان محمد الشيخ في محاربة الأتراك، فإن أحد أولاده الملقب بالغائب حاول أن يحالف البرتغاليين والاسبانيين لتقوية جانبه تجاه الأتراك الطامعين في استعمار البلاد وضمها على أجزاء الإمبراطورية الواسعة، وقد دفع الغالب كثمن لهذا التحالف ميناء باديس بالقرب من مليلية للأسبان، كما تخلى للبرتغاليين عن حصار الجديدة التي كانت قاب قوسين أو أدنى من الوقوع في قبضة المحاصرين المغاربة وهكذا شارك المغرب في أول تحالف دولي، تحدوه في ذلك مصلحته الخاصة.

غير أن سلطان الغالب لم يوفق إلى كسب الرأي العام في المغرب، لأن أخويه المعتصم والمنصور قاما ينددان بسياسة التحالف مع أعداء الإسلام صندا على أهل الإسلام. وجاء المتوكل بن الغالب إلى العرش فأمعن في سياسة التحالف مع أوروبا واضطهد الأخوين اضطهادا دفعهما إلى الذهاب إلى القسطنطينية حيث شرحا للسلطان العثماني ما يتمخض عنه الموقف في المغرب، وأقنعاه أن بقاءه مكتوف الأيدي حيال هذه الأحداث الخطيرة، سيؤدي حتما إلى ضياع أقاليم إفريقيا الشمالي كلها من يد العثمانيين.

ولم يجد الأخوان المعتصم والمنصور كبير عناء في إقناع السلطان برأيهما. وما هي إلا فترة قليلة حتى وصلت إلى فاس، العاصمة، حملة تركية بقيادة سنان باشا، وذلك لمساعدة الأخوين على دخول العاصمة، وعلى الإطاحة بالمتوكل القائل بجدوى التحالف مع اسبانيا والبرتغال. ولكن المسألة لم تنته بعد، لأن المتوكل يفر إلى طنجة حيث حلفاؤه، والأتراك في المغرب يشكلون خطرا على استقلاله سيادته، وهنا سيظهر البطلان كثيرا من البراعة حين يصرفان بالمال أفراد الحملة التركية، فيرجعون إلى سبيلهم بعد أن بات من الممكن أن يهيئوا الجو للاستعمار العثماني ، وعندما فرغ الإخوان من صرف الحملة التركية وجها كامل عنايتهما للتحالف الأنف الذكر. وفي معركة وادي المخازن الشهيرة، أصيب هذا التحالف بضربة في الصميم، حيث قتل قيها ملك البرتغال سيباسيتان، وسقط فيها حليفه المتوكل صريعا، فانقشعت بذلك السحب المتلبدة، وأصبحت سماء المغرب صافية، وأرضه ظاهرة وحكومته قوية وعظيمة، ليس في عين الشعب فقط، وإنما في عين الدول العظمى أيضا.

وهكذا أخذت الدول العظمى تخطب ود المغرب، وأصبح مركزه الدولي قوي الدعائم، بعد أن كان ريشة في مهب الريح، فهكذا سلطان تركيا يجدد اعترافه بالمنصور السعدي سلطانا على المغرب، وهذه مملكة البرتغال تقضي نحبها أثر المعركة المذكورة، وهذا بلاط المنصور يغص بوفود المهنئين من كل بقاع المعمور لعقد معاهدات الصداقة وحسن الجوار. وكل هذا بفضل اديبلوماسية المغربية التي رأينا أنها ما كادت تظهر في الأفق الدولي، حتى أظهرت مهارة كبيرة في استغلال الظروف، بحيث لم تترك مناسبة ولا فرصة إلا واهتبلتها لإنقاذ المغرب من الورطة التي كاد أن يتردى فيها لولا مهارة هذه الدبلوماسية.  

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -