فاس: العاصمة العلمية والروحية
تُعَدّ مدينة فاس من أبرز المعالم الحضارية الإسلامية، بفضل تاريخها العلمي والثقافي العريق. فقد ضمّت مدينة فاس أعرق المؤسسات العلمية في العالم، وهي جامع القرويين، الذي أسسته السيدة فاطمة بنت محمد الفهري عام 245 هـ / 859 م، بعد نحو واحد وخمسين عامًا من تأسيس المدينة. وقد بقي جامع القرويين، إلى جانب الجامعة الملحقة به، مركزًا للفكر والثقافة والدين لما يقارب ألف سنة.
قام السلطان أبو يوسف يعقوب المريني بتوسعة الجامع، فصار يستوعب قرابة 22 ألف مصلٍّ، وزُوّد بـ 17 بابًا منها بابان مخصصان للنساء. ولقد كان الجامع في عصوره الأولى مُضاءً بـ 509 مصابيح مثبتة على قواعد قد يصل وزنها إلى 700 كيلوغرام، ما يعكس عناية فائقة بجمال وأهمية هذا الصرح.
جامعة القرويين وأثرها الحضاري
تُعتبر جامعة القرويين في العصر الحديث ثاني أقدم جامعة ثقافية في العالم بعد جامع الزيتونة في تونس، الذي أُسّس عام 116 هـ / 736 م. وقد تخرّج من جامعة القرويين العديد من علماء الغرب، مثل جربرت دي لوفرينه، الذي أصبح لاحقًا البابا سلفستر الثاني، وتعلّم فيها مفهوم "الصفر العربي" الذي ساهم في تقدم علم الحساب في أوروبا.
ومن العلماء البارزين الذين درسوا في القرويين، موسى بن ميمون، الفيلسوف والطبيب اليهودي القرطبي، الذي كان أحد أعظم الأطباء في عصره. انتقل موسى بن ميمون من الأندلس إلى الشرق، حيث عُيّن طبيبًا لصلاح الدين الأيوبي، ومدرّسًا في القاهرة.
المساجد والمدارس: قلب الحياة العلمية في فاس
إلى جانب جامع القرويين، كانت مدينة فاس تحتضن ما يقارب 785 مسجدًا، وكثيرٌ منها كان يؤدي دور المدارس مثل مساجد البصرة والكوفة، حيث كانت تدرّس العلوم الدينية، وعلوم اللغة، والتاريخ، وغيرها. ومن بين أكبر المدارس في فاس، تبرز مدرسة السلطان أبو عنان المريني، التي أُسّست عام 756 هـ / 1355 م، واحتوت على مسجد متكامل ذو مئذنة فريدة في جمالها وأناقتها.
تميزت فاس كذلك بمدارسها التي أُنشئت حول جامع القرويين وانتشرت في المدينة خلال القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي. واحتوت هذه المدارس على تصاميم زخرفية غنية ومتنوعة، ممّا يجعلها من أبرز المعالم الهندسية في فاس. ومن المدارس الشهيرة، نذكر المدرسة المصباحية التي أسسها أبو الحسن عام 743 هـ / 1343 م، ومدرسة الصفارين التي أُسّست بأمر من أبو يوسف المريني عام 678 هـ / 1280 م، وزُوّدت بمكتبة غنية بالمؤلفات.
النظام التعليمي في فاس
كانت المدارس في فاس تدرّس العلوم الابتدائية مثل القرآن، والكتابة، والقراءة، ومبادئ الحساب، ليواصل الطلبة بعد ذلك دراستهم في جامعة القرويين. استغرقت الدراسة في جامعة القرويين بين خمسة أعوام وخمسة عشر عامًا، حيث كان الطلاب يختارون أساتذتهم حسب تخصصاتهم، ويجلسون في حلقات حول الأستاذ الذي يتكئ على سارية من سواري المسجد.
اهتم السلاطين، مثل أبو الحسن وأبو عنان، بتطوير التعليم وتوفير الرعاية للطلاب والأساتذة، مع إعطاء اهتمام خاص لدراسة القرآن الكريم والحديث وعلوم اللغة.
أعلام العلم في فاس
خرّجت فاس العديد من العلماء البارزين الذين ساهموا في إثراء العلوم الإسلامية، مثل أبي عمران الفاسي، فقيه أهل القيروان، وأبي العباس أحمد بن محمد بن عثمان الشهير بابن البناء، الذي كان من أشهر الرياضيين في عصره. ومن بين هؤلاء العلماء أيضًا، ابن باجة، الذي أبدع في علوم اللغة العربية والطب، وابن خلدون، المؤرخ ومؤسس علم الاجتماع، ولسان الدين بن الخطيب، وابن العربي الحكيم، وابن مرزوق، الذين درسوا في جامعة القرويين وأثروها بعلمهم وفكرهم.
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.