أخر الاخبار

من كتاب: الظاهرة القائدية، القائد العيادي الرحماني نموذجا

 نظرا لنفاذ كتاب "الظاهرة القائدية، القائد العيادي الرحماني نموذجا" للدكتور عمر الإيبوركي، الكاتب الذي ينحدر من الرحامنة المنطقة التي قادها العيادي، من المكتبات، فقد أثرنا أن ننقل لكم بعضا من فقراته المرتبطة بالقائد، مع التصرف فيها بعد استئذان صاحب الكتاب، حتى نشبع شغف القراء.

من كتاب: الظاهرة القائدية، القائد العيادي الرحماني نموذجا


القائد العيادي :الجذور والامتداد

القائد العيادي هو ميلود بن الهاشمي بن أمبارك بن محمد بنزاوية بن أمبارك بن جعفر بن عبد الله بن عبد الرحمان الرحماني ولد حوالي1880م، ينتمي إلى أسرة معروفة بخدماتها المخزنية منذ قرون، مهدت له الطريق نحو القيادة بموجب ظهير حفيظي يوم12 ذو الحجة عام 1326هجرية الموافق خامس يناير 1909م ضمن مجموعة من القواد على الرحامنة. لقد برز مع السلطان مولاي عبد الحفيظ، ولأنه شارك مع قواد الجنوب في التوغل الفرنسي إلى منطقة الرحامنة ومراكش، وساهم في حملة سوس وتزنيت ضد حركة الهيبة، فقد منحه ليوطي وسام الشرف كصديق كبير لفرنسا. تمكن من توسيع نفوذه على حساب منافسيه، واستفاد من سياسة القواد الكبار بحيث ساير كلاوة في سلطتهم وثروتهم وكان حليفا لهم إلى حدود الخمسينيات من القرن العشرين حين رفض أن يدخل في مؤامرة التهامي الكلاوي ضد السلطان محمد الخامس. وبسبب موقفه هذا تعرض إلى الاعتقال والنفي، والإقامة الجبرية، وبعد رجوع الملك من المنفى، عاد القائد العيادي إلى قبيلته التي ترأسها في حفلة تقديم البيعة، لكن التحول الذي عرفه المغرب حتم عليه تقاعدا تاريخيا. ولأن لدورة العمر تأثيرها في المجتمعات الإسلامية، فقد تفرغ إلى التعبد ومجالسة الفقهاء، بعد أن بلغ من الكبر عتيا إلى أن توفي على الساعة العاشرة ليلا يوم الأحد 26 شعبان 1383هجرية الموافق 12يناير 1964م ليوارى جثمانه بمسجده بمدينة ابن جرير.


العيادي والاستعمار

القائد العيادي قايد قبائل الرحامنة (1880-1964)
القايد العيادي، وسكرتيره الخاص السيد وايزمان

لعب الاستعمار دورا فاعلا في حركية المجتمع المغربي، وتفاعل مع المؤسسة القائدية، فلابد من استقراء انعكاسات هذا التفاعل على بنية العالم القروي، لأن بواسطة هذه المؤسسة زرع الاستعمار هياكله، وفكك بعضا من البنية القبلية التقليدية. فكيف كانت علاقة العيادي مع الاستعمار؟ وكيف انعكست هذه العلاقة على المجال القروي للرحامنة؟

لقد سبق الحديث عن علاقة العيادي بالاستعمار منذ اندماجه في سياسة القواد الكبار مع بداية التدخل الفرنسي، ويمكن الوقوف على طبيعة هذه العلاقة من خلال مرحلتين هامتين تواجد فيهما بكل ثقله القبلي وحسه السياسي: مرحلة الدخول الفرنسي إلى مراكش، ودور قواد الحوز في هذه العملية، ثم مرحلة الأزمة السياسية بين السلطان والحركة الوطنية من جهة، والإقامة العامة من جهة أخرى.

كانت العقبة التي واجهت ليوطي في منطقة الحوز هي حركة المقاومة التي قادها الهيبة بنشر فكرة الجهاد ضد "النصارى" و"الكفار" مستغلا تذمر القبائل من سلطة القواد ونهبهم، حيث ألهب حماس القبائل، وزعزع مواقف القواد وسلطتهم، فانتشر صداها ليعم كل قبائل سوس وحاحة والشياضمة وقبائل الحوز. ولمواجهة حركة المقاومة قرر الفرنسيون الاعتماد على قواد الحوز الكبار، وبما أن العيادي كان هو الرجل القوي بالرحامنة التي تشكل مدخلا إلى مراكش، فلا يمكن الاستغناء عنه لمواجهة الهيبة، والدخول إلى عاصمة الجنوب. وقد ذكر أحد الضباط الفرنسيين أن ليوطي اعتمد على قواد المنطقة الجبلية، واستعان أيضا بقائدين عربيين شمال مراكش هما: الحاج العيادي بن الهاشمي قائد الرحامنة، وعيسى بن عمر قائد عبدة.(...)

إن موقف القائد العيادي إلى جانب القواد الكبار عند دخول الفرنسيين، جعله يعزز جانبه، ويجلب الاعتراف الفرنسي بعد أن نوه به الكولونيل مونجان ومنحه « وسام الشجعان » اعترافا له بدوره في الدخول الفرنسي إلى مراكش، وبذلك حافظ على مكانته، ووسع سلطته على حساب باقي قواد الرحامنة الآخرين. عندما حل المقيم العام بمدينة مراكش يوم 11اكتوبر 1912 عقد اجتماعا حضره جميع قواد الحوز وهم : عيسى بن عمرالمدني و التهامي الكلاوي وعبد المالك المتوكي، الكندافي والعيادي الرحماني وعشرة قواد آخرين وغاب القائدان: أنفلوس والجلولي. وقد تبادل الطرفان تصوراتهما حول الأهداف المشتركة سياسيا واقتصاديا؛ فكان التوافق. ولم تقف علاقة العيادي مع الإدارة الاستعمارية عند هذا الحد بل شارك إلى جانب الكولونيل مونجان والتهامي وعبد المالك قواد كلاوة، في حركة لصد هجوم على مدينة دمنات و« تهدئة »القبائل المجاورة. وقد ازداد خبرة لاحتكاكه بالضباط الفرنسيين، وأصبح رجل حرب متمرسا، ومفاوضا ديبلوماسيا ماهرا. كما ساهم في الحركات التي قادها الكولونيل دولاموط والتي أراد ليوطي أن تتم بتدخل القواد كقوى محلية لتفادي أية حركة جهادية ضد النصارى.(...)

كان القائد العيادي حليفا للفرنسيين منذ بداية الحماية، لكنه بقي مخلصا أيضا للمخزن المغربي الذي استمد منه شرعيته، وكانت مشاركته في الحركات إلى جانب الفرنسيين لأنها تتم باسم المخزن. فمنذ أن منحه السلطان مولاي عبد الحفيظ ظهير تعيينه قائدا بقي وفيا له، ولكل السلاطين من بعده، مولاي يوسف، محمد بن يوسف(محمد الخامس) وهذا الوفاء لكل سلطان شرعي هو الذي سيحدث القطيعة النهائية بينه وبين الإدارة الاستعمارية.

عند حديثنا عن البعد السياسي للقائدية، استنتجنا أن تطورها وصل أوجه في العقد الخامس من القرن العشرين مع آخر مراحل الفترة الاستعمارية. فكما استخدمت كمؤسسة من أجل التوغل داخل البنيات المغربية، استخدمت كأداة لوقف التحول نحو تحرر المجتمع من الهيمنة الفرنسية. ولأنها انتعشت مع الاستعمار، فإنها-مجسدة في بعض نماذجها-حاولت عرقلة هذه الحركية، وبالفعل استطاع الكلاوي أن يجمع حوله تأييد القواد والباشاوات الذين سيزعجهم ذهاب الاستعمار، من أجل توقيع الوثيقة التي تدين السلطان الشرعي.غير أن القائد العيادي رفض هذا الموقف، وحاولت الإقامة العامة أن تفصله عن السلطان محمد الخامس، وتقربه من الكلاوي لتكسير الاتجاه الوطني، لأن نفوذهما -العيادي و الكلاوي-  كبير في منطقة تمتد من الحوز إلى الشاوية وتشمل مدينة مراكش التي كانت تلعب دورا سياسيا بارزا في تاريخ المغرب. هذا النفوذ سيساعد الفرنسيين على تحقيق مخططهم الذي رسموه، إلا أن الشقاق بين القائدين  كبير رغم ماضيهما المشترك، وهكذا تمسك التهامي الكلاوي بمؤامرته إلى جانب الفرنسيين واختار القائد العيادي الرحماني الإخلاص  للسلطان الشرعي، فكانت القطيعة النهائية بين الطرفين.

إن فترة الخمسينيات تمثل مرحلة جديدة بالنسبة للعيادي، الذي راجع مواقفه المساندة للحماية الفرنسية، فبعد أن كان حليفا لفرنسا ومعها حلف الكلاوي، تحول إلى خصم عنيد رفض المشاركة في الخطة الاستعمارية التي اقتضت تنصيب سلطان جديد لاشرعية له، وعارض نفي محمد الخامس إلى جانب القائد لحسن اليوسي والبكاي باشا مدينة صفرو، اللذين امتنعا عن توقيع وثيقة تدعو إلى ذلك.

لم يقف العيادي عند هذا المستوى، بل إنه في نفس اليوم الذي تم فيه تنصيب محمد بن عرفة سلطانا، ترأس حركة انضم إليها بعض المقاومين، ودخل مراكش حيث كانت المواجهة مع رجال الكلاوي. هذه الحركة التي شجعت حركات مثيلة في مدن أخرى، وكانت بادرة على فشل المؤامرة الاستعمارية وابتعاد العيادي عن حليفه الكلاوي.

نتيجة لهذا الموقف الوطني، تعرض القائد العيادي للاعتقال من طرف الإقامة العامة، وتم نفيه إلى فرنسا وبعد أشهر عاد إلى المغرب. ولأنه لم يعترف بشرعية "السلطان" الجديد، خضع للإقامة الجبرية بمدينة الدار البيضاء مدة سنتين، وتم تقسيم قبيلة الرحامنة أثناء غيابه إلى ثلاث قيادات جعلت الإقامة العامة على رأسها بعض مساعديه وهم: القائد رحال البهلولي بالرحامنة الشمالية، وخليفته وابن أخيه احمد بن الحسين بالرحامنة الوسطى والغريبة، ثم الخليفة الحسين بن المنصوري بالرحامنة الجنوبية.(...)

خلال سنوات الجفاف والأوبئة هاته، عرفت قبيلة الرحامنة نزوحا مكثفا نحو مدينتي مراكش والدار البيضاء، وذلك إما بسبب العامل الطبيعي أو هربا من الضرائب التي يعجز عن أدائها للقواد، لأن المخزن عندما تقل موارده يثقل كاهل الفئات المستضعفة لحل أزماته المالية. وتكون هذه الهجرة موسمية ومؤقتة أو دائمة وتستقر بعض الأسر التي أصبحت من ساكنة المدن بعد أن غادرت العالم القروي خلال الفترة الاستعمارية. إن الهجرة عزاء أمام الوضعية الاقتصادية المتأزمة للفئات الفقيرة وفرصة أيضا أمام مالكي الماشية الذين يتوجهون نحو القبائل المجاورة خاصة قبيلة الشاوية بحثا عن الماء و المرعى. ونظرا لنفوذ القائد العيادي،فقد كان يتوسط لدى قواد المنطقة الذين يعلنون في الأسواق عن قدوم الرحامنة ويحذرون من منعهم أو صدهم عن المراعي والآبار. كانت للقائد العيادي علاقة جيدة مع ممثلي الإدارة الفرنسية بالمنطقة كرئيس دائرة الرحامنة دولافوس «  DE LAFOSS»،و المراقب المدني بابن جرير بونامي « BONAMY » لأنه من بين القواد الكبار فقد كانت سلطته تتعدى سلطة المراقب المدني. لذلك عندما كانت الإدارة الاستعمارية تقدم المساعدات الغذائية خلال أزمة الأربعينيات من القرن العشرين، وهي السنوات التي عرف المغرب فيها المجاعة والجفاف خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، وهي ما يطلق عليه العامة:عام البون. كان القائد العيادي يسند هذه المهمة لبعض المقربين منه، فكانت فرصة لهم لجمع الثروات و شراء العقارات والأراضي. لقد استغلوا فترة القحط و ندرة المواد الغذائية، ونشاط التهريب لتوزيع المساعدات بالمقابل أو بيعها وهؤلاء هم: «أغنياء عام البون ».(...)

 إن مثل هذه الوقائع تبرز الدور الذي كان القائد المغربي يلعبه بتواطؤ مع ممثلي السلطة الاستعمارية في تهميش، واستغلال العالم القروي، ومنح الفرصة لفئة من أقربائه ومساعديه من أجل تكديس الثروات وتكديح المزارعين الذين تحولوا إلى رباعة وخماسة، وأجراء، وهاجر البعض منهم نحو المدن القريبة.(...)

كانت تلك سيرورة هذا النموذج القائدي الذي يقدم لنا صورة القائد المغربي الذي يعكس نوعا من المفارقة التاريخية، من تأييد السلطان مولاي عبد الحفيظ كرمز لمواجهة الغزو الأجنبي، إلى مساعد لهذا التدخل الأجنبي، وينتهي به المطاف إلى قائد وطني خارج الحلف الاستعماري. وقد اختلفت الروايات بين الثناء الذي جعل من العيادي قائدا كبيرا بشجاعته البطولية وتنظيمه للمجال القبلي داخل الرحامنة، وبنمط عيشه النبيل، وكرمه الزائد، وبين تلك الصورة القاتمة التي طبعها الاستغلال للقبيلة وتكديس ثروة مالية وعقارية هامة. كان رجلا قويا وصديقا وفيا لفرنسا، وقائدا وطنيا لم يندمج في المخطط الاستعماري خلال الخمسينيات من القرن الماضي، وبقي وفيا لملك البلاد الشرعي. تلك هي الصورة التي حفظتها ذاكرة الرجال الذين عايشوه، ودونتها الكتابات الاستعمارية عن القائد العيادي في المجال والزمان.

• الدكتور : عمر الإيبوركي

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -