الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى الثالثة للمسيرة الخضراء.
الحمد لله و الصلاة و السلام على مولانا رسول الله و آله و صحبه
شعبي العزيز :
قبل أن ابدأ خطابي، أرجو من كل أسرة تنظر إلي، أو تسمع لي، أن تحضر بين يديها كتاب الله. حتى نقدم في آخر كلمتي قسم المسيرة، و هذا القسم حررته بيدي ثم خططته بيدي و سأعطيه للمصالح، حتى تجعله في ورقة بلاستيك، و حتى يعطى لكل كغربي و مغربية، و لو لم يكن من السائرين في المسيرة، لأنه قسم البرور و قسم الظهور.
شعبي العزيز:
يقول الشاعر العربي الكبير (احمد شوقي) رحمه الله:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فان هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
و مما يسر ملوكك، عبر التاريخ، انك تتحلى بالأخلاق الطيبة و بالأخص بأخلاق القرءان لان أخلاق القرءان هي التي تحلى بها النبي صلى الله عليه و سلم حينما قال فيه الله سبحانه و تعالى: ( و انك لعلى خلق عظيم) فكان النبي صلى الله عليه و سلم سموحا حليما كريما ينسى الضغائن و يحسن لمن أساء إليه، و لكن يقال عنه صلى الله عليه و سلم انه لم يكن يعرف الغضب إلا إذا انتهكت حرمات الله.
و أنت شعبي العزيز لا تغضب و لا تثور إلا إذا انتهكت حرمات الله و من حرمات الله حرمة الوطن و قداسة التراب.
و هكذا شعبي العزيز، نراك عبر تاريخك و كأنك تعيش في جو غير الجو العادي اليومي، و كان بالك معلق بكوكب أو بعالم آخر فإذا بالمغتصب أو الغاشم، يعتبر هذا غفلة منك فيريد النيل منك فيجدك صامدا متحملا للمشاق غاضبا الغضبة القرآنية النبوية، ذلك الغضبة التي قلت عنها، إنها غضبة حينما تنتهك حرمات الوطن.
و ما الحدث الذي نحتفل به اليوم إلا نفحة من نفحات أخلاقك تلك التي عطرت بها التاريخ، فحينما اعتقدت و أحسست و فهمت بان حرمة الوطن ستنتهك بكيفية نهائية، و أن مستقبلك سيوضع في دوامة مستمرة، و أن راحتك ستبقى مقلقة بسبب انفصال طرف منك عنك، و بسبب وجود العدو على تخومك، غضبت تلك الغضبة، وأريد أن أقول هنا الغضبة تلك الغضبة المعروفة فيك عبر التاريخ.
و حينما أردنا أن تكون مسيرتك مسيرة سلمية، سلاحك فيها في يد: كتاب الله، و في يد: العلم المغربي، كنا نريدها سلمية منا، و لم نكن لنتوقع إذ ذاك انك ستلاقي رجالا عقلاء. و لكن كنا فرضنا في حساباتنا و تقديراتنا انك ربما ستلاقي من سيطلق عليك الرصاص، و من سيسيل الدماء. و مع ذلك حينما انطلقت أفواجك، و حينما تسارعت إلى خرق الحدود المختلفة أمواجك، كنت تظن انك ستلاقي من سيقتلك و من سيرميك بالرصاص. و لكن الله سبحانه و تعالى سلم، فهدى الجميع إلى سواء السبيل و ركوب طريق المسالمة.
ففي الحقيقة، على شعبين أن يحتفلا بذكرى المسيرة: الشعب المغربي لأنه خلق مسيرته، لأنه فكر في مسيرته، لأنه كان عبقريا إلى حد خلق مسيرته، و أنجزها للنهاية. و الشعب الأسباني لأنه في أول مرة في التاريخ يكون الخيار لابن ادم، بين العناق و بين الخناق، فيختار المعانقة و يترك بندقيته، ففي الحقيقة هذه الميزة و هذا الاحتفال، دليلا على تساكن المغاربة و الأسبان لمدة قرون، فتأثر البعض بالبعض و ليس من الغريب أن يتعانق الأخوان.
شعبي العزيز:
إنني أقرا في صحفك، و فيما تردده من شعارات، أن المسيرة خلقت مغربا جديدا. في الحقيقة المسيرة لم تخلق مغربا جديدا بل كانت بمثابة ذلك الإنسان الذي يبعثه الله إلى المسلمين على راس كل مائة سنة ليجدد لهم أمر دينهم. فالمسيرة لم تخلق منك شعبا جديدا، و لا مغربا جديدا. و إنما جددت لك دينك و وطنيتك. إن المسيرة إن جددت لك وطنيتك و الأخلاق تجعلك – شعبي العزيز – أسيرا لما جددت و لما خلقت، فأنت مطالب أن تبقى طيلة السنين و القرون في مستوى ما خلقته في التاريخ.
نعم، إن عملا كعمل المسيرة، يثير الحماسة و يجند الأشخاص جسما و فكرا. إن عملا كعمل المسيرة هو ملحمة يجعل الصعب سهلا. فهو بالطبع أشوق للنفوس و أسهل للتعاطي، أما العمل اليومي، عمل البناء عمل التنمية، عمل الحكمة و الرصانة، هو عمل ممل ربما و لكن، شعبي العزيز، عليك أن تعلم أن العاقل هو الذي حينما يستيقظ كل صباح يتساءل ماذا سأفعل اليوم,, و حينما يروح يتساءل ماذا فعلت اليوم. فإذا كان كل فرد من أفراد أسرتي الكبيرة يتساءل هذا السؤال و يضع على نفسه هذا السؤال، لي اليقين انه سيجد للحياة اليومية طمعا لذيذا، سيجد في عيشته اليومية مسيرة و ملحمة تتجدد بين الصباح و المساء.
شعبي العزيز :
يمكن الكلام كثيرا و كثيرا عن المسيرة، و عما تذكيه في نفوسنا و مشاعرنا من ذكريات. أظن شخصيا أن أحسن خطاب يمكن أن أوجهه لك هذه السنة هو ما قل و دل. و هو أن نبتدئ في ظل القرءان و ظل قسمنا أمام القرءان و كتاب الله.
شعبي العزيز:
ها هو القسم فأريد تردده معي في كل بيت كما سيردده معي الحاضرون هنا:
اقسم بالله العلي العظيم، أن أبقى وفيا بروح المسرة الخضراء مكافحا عن وحدة وطني، من البوغاز إلى الصحراء. اقسم بالله العلي العظيم أن ألقن هذا القسم أسرتي و عترتي في سري و علانيتي، و الله سبحانه هو الرقيب على طويتي، و صدق نيتي.
شعبي العزيز:
استمدت هذا القسم من أواخر آية سورة المائدة. في ذلك الحوار الرائع القدسي، الذي كان بين الله سبحانه و تعالى و بين روحه و كلمه سيدنا عيسى عليه الصلاة و السلام. و في آخر الحوار يقول سيدا عيسى صلى الله عليه و سلم:
« و كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم و أنت على كل شيء شهيد».
فهذا القسم شعبي العزيز، أقسمت أن ستكون بارا به، كما أقسمت أن تلقنه أسرتك و عترتك لان الأجيال تمر، و البلاد تدوم، الرجال اكلا، لكن على القيم أن تدوم، و على القسم أن يدوم.
فانا رقيب عليك ما دمت فيك,, و لكن عليك شعبي العزيز أن تكون الرقيب الشهيد على نفسك طيلة القرون، لان قضية الصحراء لن تقف عند حدود، فدائما ستبقى محسودا عليها. و الأطماع دائما متوجهة نحوها، و ستكون مكايد ضد الصحراء تتلون، فهي تارة بوليساريو أو ما يدعى البوليساريو، و تارة الشعب الصحراوي، أو ما يدعى نفسه بالعشب الصحراوي.
و في القرن المقبل ستظهر المؤامرة في شكل آخر. فعليك شعبي العزيز أن تبقى دائما على يقظة، دائما مستعدا لخوض المعركة، دائما مستعدا للإظهار على أن مسيرتك الخضراء السلمية، لم تحكم عليك نهائيا بالمسالمة. بل إن قدراتك و مواهبك الحربية و العسكرية موجودة كذلك فيك كامنة فيك، لم تمت، و ستبقى إلى أن يرث الله الأرض و من عليها. لذا شعبي العزيز سوف أقف عند هذا الحد. إن المسيرة اجل من يقال فيها الكثير أو القليل. المهم هو أن تكون جميعا شاعرين بمعناها و مقدرين لوزنها و ضخامتها الروحية و السياسية.
و إننا شعبي العزيز بهذه المناسبة، نرجو الله سبحانه و تعالى الذي هدانا للمسيرة أن يهدينا إلى حفظها. اللهم انك تعلم أننا سرنا إلى المسيرة بنية الجهاد و الاستشهاد، فنصرتنا. اللهم ادم نصرك لنا. اللهم انك تعلم أننا لم ندخل الصحراء فاتحين و لا غاصبين، و لكن دخلناها لصلة الرحم و لإعلاء كلمتك و لإرجاع سنتك ، فاللهم اجعلنا مواطنين للصحراء مقيمين فيها امنين مطمئنين.
اللهم انك تعلم أننا حينما دخلنا تلك التربة الصالحة، لم ندخلها غازين و لا مغتصبين، بل مسترجعين لحق من حقوقك، قائمين بواجب من واجباتك فاجعلنا اللهم قادرين على الاستمرار في القيام بواجباتنا و القيام بحفظ حقوقك، أنت السميع العليم، و انك أنت الذي لا تخيب من سالك، و لا ترد من طلبك. و السلام عليكم و رحمة الله.
دعوة الحق
العددان 194 و195
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.