أزمة الكركرات ـ مفتاح لفهم التنافس المغربي الجزائري في إفريقيا؟
مشهد من الجدار الأمني المغربي الذي يحمي 80% من أراضي الصحراء المغربية
صباح يوم الجمعة (13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020) أقدمت القوات المسلحة الملكية المغربية على طرد مجموعة من نشطاء جبهة بوليساريو رفقة أربع عربات مسلحة، بعدما قطعوا الطريق في “معبر” الكركراتحسب التعبير المغربي، وهو الممر البري الوحيد الذي يربط المغرب بموريتانيا وإفريقيا جنوب الصحراء. ويتعلق الأمر بمنطقة عازلة منزوعة السلاح يعبرها المدنيون وتمر عبرها البضائع والسلع. تدخل الجيش المغربي جاء بعد ثلاثة أسابيع من قطع طريق تعتبره جبهة البوليساريو، “ثغرة” غير شرعية تنتهك اتفاقا لوقف إطلاق النار أُبرم بين الطرفين عام 1991 بإشراف الأمم المتحدة. وبعد تعثر مساعي المنتظم الدولي لتنظيم الاستفتاء اقترح المغرب مشروع “حكم ذاتي موسع” رفضته البوليساريو بشدة.
المغرب من جهته، أكد أن تحركه تم بحضور قوات “المينورسو” الأممية وكان تدخلا “غير هجومي” وتفادى أي “احتكاك بالمدنيين” ولم يسفر عن أي ضحايا، مبررا الخطوة بالوضعية المزرية لحوالي مئتي شاحنة مغربية، وجَّه أصحابها نداء استغاثة إلى كلّ من المغرب وموريتانيا، كانوا عالقين بسبب منع البوليساريو لهم من العبور. أما البوليساريو والجزائر فاعتبرتا تدخل الجيش المغربي عملا عدوانيا ضد مدنيين عزل. وباستثناء بعض الصحف والمواقع، لم يعر الإعلام الألماني أهمية كبيرة لقضية لا زالت تصنف ضمن النزاعات المنسية. معظم ما كتب في ألمانيا اكتفى بإعادة التذكير بتاريخ منطقة الصحراء الغربية وبأن النزاع حول الكركرات، ربما يشكل نقطة تحول في نزاع، غالبا ما يتم إغفال رهاناته الإقليمية والجيوـ سياسية.
تأجيج التنافس الاقتصادي على الأسواق الإفريقية
وضعت جائحة كورونا رهان العلاقات السياسية والاقتصادية للدول المغاربية مع إفريقيا في مقدمة اهتمامات دول المنطقة. فصعوبة الوصول للأسواق الأوروبية بسبب الجائحة إضافة إلى الإحباط بشأن آمال بلورة سوق مغاربية مشتركة، زاد من جاذبية الأسواق الإفريقية الواعدة. أزمة الكركرات تعكس في الواقع الأهمية الجيوـ استراتيجية لإفريقيا بالنسبة للبلدان المغاربية. والواقع أنه من بين البلدان المغاربية فإن المغرب يملك الرؤية السياسية والاقتصادية الأكثر نضجا تجاه إفريقيا بالمقارنة مع جارته الشرقية الجزائر، التي لا تريد أن تترك له المجال لوحده. ففي أغسطس/ آب 2018، أنشأت الجزائر طريقا صحراويا حدوديا بين تندوف (الجزائر) مع موريتانيا، كمعبر لتصدير لمنتجاتها إلى موريتانيا ومنها إلى غرب إفريقيا. وهي طريق برية طويلة بتضاريس طبيعية وعرة تُصعب من عملية تنقل القوافل التجارية بين البلدين. كما أن معالم جزء من الطريق تختفي معالمها عند هبوب الزوابع الرملية، سيما في ظل وجود مسافة طويلة لم يجرِ تعبيدها من قبل، وتقدر بـ800 كيلومتر وسط الصحراء دون بنية تحتية أو مرافق لاستراحة السائقين. المغرب رأى في الخطوة محاولة لمنافسة معبر الكركرات ومنتجاته في الأسواق الإفريقية، وذلك في سياق توجه استدراكي بعدما أهملت الديبلوماسية الجزائرية القارة الإفريقية لعقود، ذلك أن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة لم يزر أي بلد إفريقي طوال المدة التي قضاها في السلطة.
وفي مقال تحليلي معزز بالبيانات والأرقام تحت عنوان “سباق مغاربي على أفريقيا جنوب الصحراء” كتبت إيزابيله فيرينفيلس من مؤسسة “العلوم والسياسة” في برلين (أكتوبر/ تشرين الأول 2020) أن المغرب سبق بأشواط الجزائر وتونس في التوجه إلى إفريقيا. وأوضحت فيرينفيلس أن الاهتمام المغربي بالقارة السمراء بدأ في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، غير أن ابنه محمد السادس “جعل من السياسة الإفريقية أولوية قصوى، دعمها بدبلوماسية الزيارات المكثفة والمشاريع الاستراتيجية (..) إنه نهج لقوة ناعمة تجمع بين مكونات سياسية واقتصادية تنموية ودينية، جعلته يحقق نجاحًا كبيرًا في السنوات الأخيرة”. يذكر أن المغرب عاد في يناير/ كانون الثاني 2017، إلى الاتحاد الإفريقي بعدما غاب عنه طوال 33 عامًا. إذ غادرت الرباط التنظيم القاري عام 1984 احتجاجًا على قبول عضوية جبهة البوليساريو.
تدخل الجيش المغربي دفع الجبهة لإعلان حرب مفتوحة ضد الوجود المغربي في المنطقة، مُصدرة بيانات حربية يومية حول “هجمات” ضد “جدار الأمن” المغربي. غير أن الإعلام المغربي يعتبر بيانات البوليساريو مجرد دعاية إعلامية تقوم على فبركة فيديوهات لمعارك من مناطق نزاعات أخرى كاليمن وغيرها، رغم أن الأمم المتحدة أكدت تبادل إطلاق النار بين الجانبين. وإذا كان من الصعب التأكد مما يجري، من مصادر مستقلة، على طول الجدار الذي يبلغ طوله 2700 كيلومترا، فقد تأكد من عدة مصادر، منها فريق لوكالة فرانس بريس، أن عبور الشاحنات والأشخاص عبر الكركرات إلى موريتانيا يتم الآن بشكل عادي. فقد انتهى المغرب من تعبيد الطريق في المنطقة العازلة التي باتت عمليا تحت سيطرة الجيش المغربي وتم “تأمينها” بجدار يمتد إلى الحدود الموريتانية.
شل حركة النقل في منطقة الكركرات، تسعى من خلاله جبهة البوليساريو للضغط على الأمم المتحدة للتعجيل بتنظيم الاستفتاء، كسبيل وحيد، في نظرها، لإنهاء الصراع. لكن هذه الخطوة يمكن فهمها أيضا في سياق التنافس بين القوتين الإقليميتين المغرب والجزائر في إفريقيا. فالجزائر لم تعد تنظر بعين الرضا للدور المتنامي لما يسمى بـ”القوة المغربية الناعمة” في إفريقيا. وبهذا الصدد وصفت إيزابيله فيرينفيلس “النجاحات المغربية في إفريقيا خلال العقد الماضي” بأنها “صادمة للجزائر، خصوصا وأن الأخيرة مرت بمسار معاكس. ففي العقود الأولى بعد استقلالها (1962)، كانت الجزائر تتمتع بمكانة كبيرة في أجزاء واسعة في إفريقيا جنوب الصحراء، اكتسبتها من الدعم العسكري واللوجستي والمالي للحركات المناهضة للاستعمار”. غير أن الخبيرة استطردت موضحة أن الجزائر “لم تبلور بعد استراتيجية إفريقية مستدامة تشبه الاستراتيجية المغربية. كما أن احتمالات حدوث ذلك ليست جيدة خاصة وأن صناع القرار في الجزائر مشغولين بتحديات كبيرة على المستوى الداخلي”.
الكركرات ـ معبر بات يختزل رهانات الصراع
وصف موقع “تاغسشاو.دي.إي” التابع للقناة التلفزيونية الألمانية الأولى يوم (18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020) معبر الكركرات بأنه طريق “لا يتجاوز طوله ثلاث كيلومترات، عبر أراضٍ صحراوية قاحلة، واحدة من الممرات القليلة التي تربط شمال المغرب بموريتانيا وجنوب الصحراء. وفي هذا المكان بالضبط قطع صحراويون (من سكان الصحراء الغربية) الطريق وشلوا حركة المرور عبر الحدود. ولم يعد العبور ممكنا بالنسبة للشاحنات، التي كانت تنقل البضائع من المغرب إلى موريتانيا وبلدان أخرى جنوبا مثل السنغال أو بضائع أخرى من غرب إفريقيا إلى أوروبا”. ويسيطر المغرب عمليا على ثمانين بالمئة من مساحة منطقة الصحراء الغربية ويقترح منحها حكما ذاتيا كإقليم تحت سيادته، في حين تطالب جبهة بوليساريو والجزائر بالاستقلال عبر تنظيم استفتاء لتقرير المصير تشرف عليه الأمم المتحدة، ورد في اتفاق العام 1991.
أما مجلس الأمن الدولي، وإن كان يُذَكِر بمبدأ تقرير المصير في تقاريره السنوية، إلا أنه لم يعد يذكر بالاسم تنظيم الاستفتاء، الذي يعتبره المغرب متجاوزا، بعدما فشلت الأطراف، تحت إشراف الأمم المتحدة، في التوافق حول الكتلة الناخبة التي يحق لها المشاركة فيه. وفي آخر قرار صدر في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 2020، دعا المجلس الى استئناف المفاوضات “بدون شروط مسبقة وبحسن نية (…) من أجل التوصل إلى حل سياسي عادل دائم يحظى بالقبول المتبادل، يمكن من تقرير مصير شعب الصحراء الغربية”.
بين “استكمال الوحدة الترابية” و”تقرير المصير”
مساحة منطقة الصحراء الغربية تصل إلى 266.000 كيلومترا مربعا، وهي محصنة بين المحيط الأطلسي وموريتانيا، والجزائر. مستعمرة سابقة يقول المغرب إنها كانت ترتبط بروابط البيعة مع سلاطين المغرب، تم احتلالها في نهاية القرن التاسع عشر من قبل إسبانيا. وبعد “مسيرة خضراء” أطلقها الملك الراحل الحسن الثاني وشارك فيها 350 ألف مغربي في أكبر حشد جماهيري في تاريخ المغرب، اقتحمت “المسيرة” المنطقة وطالبت بعودتها للمملكة استكمالا لـ”وحدته الترابية”، ما دفع إسبانيا إلى الانسحاب في إطار اتفاقية مدريد عام 1975.
بالموازاة مع ذلك تأسست جبهة البوليساريو (1973)، وبعدها “الجمهورية العربية الصحراوية الديموقراطية” (غير معترف بها من قبل الأمم المتحدة)، والتي تسعى لاستقلال المنطقة وفقا لـ”حق الشعوب في تقرير مصيرها”. نشأة الجبهة استفادت بشكل خاص من سياقات الحرب الباردة ومن الدعم السخي العسكري والمالي من قبل ليبيا معمر القذافي وجزائر بومدين.
“ديبلوماسية القنصليات” و”الجمهورية الصحراوية”
بعد 15 دولة إفريقية، إضافة إلى هايتي والإمارات والأردن أعلنت البحرين بدورها عزمها افتتاح قنصلية في مدينة العيون كبرى حواضر الصحراء الغربية، مؤكدة تأييدها للمغرب في سياق التوتر الذي تشهده الكركرات. ويعتبر المغرب الممثليات الدبلوماسية الأجنبية تكريسا لسيادته على “الإقليم”. وفي حوار مع DW (26 مارس 2020) قال أليكس فاينز، مدير برنامج إفريقيا في مركز أبحاث تشاتام هاوس بلندن، بشأن سياسة القنصليات “هذه التطورات السياسية جزء من استراتيجية تنفذها الحكومة المغربية. فهي تسعى لزيادة إضعاف موقف الجزائر والاتحاد الإفريقي اللذين يسعيان لاستقلال الصحراء الغربية (..) هذا يمثل تراجعا إلى الوراء بالنسبة لجبهة البوليساريو”.
وتنتقد الجزائر والبوليساريو ديبلوماسية القنصليات وتعتبرانها منافية للقانون الدولي، غير أن المغرب يرد بدوره معتبرا أن إعلان الجمهورية الصحراوية بشكل أحادي، هو نوع من فرض الأمر الواقع في استباق لنتائج الاستفتاء. “جمهورية الصحراء” حصلت بدورها على اعترافات بعض الدول وإن كان عددها في تراجع، رغم أن الوضعية القانونية النهائية للمنطقة لم يحسم فيها بعد.
مخيمات تندوف (الجزائر) التي تحتضن لاجئين صحراويين
“يأس الشباب الصحراوي” في مخيمات تندوف
يورك شيفر انتقل إلى مخيمات تندوف (الجزائرية) التي تحتضن اللاجئين الصحراويين وأنجز تقريريا ميدانيا نشرته صحيفة “نويتسوريشه تسايتونغ” (NZZ)، الصادرة في زوريخ في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020. وكتب شيفر يقول “يعتمد سكان المخيمات على المساعدات الدولية. هناك قطاع أعمال صغير جدا يتكون بالأساس من محلات البقالة وجزارة تبيع لحم الجمال ومطاعم ومحلات لإصلاح السيارات. وهناك أيضا نظام سيارات أجرة جيد يربط المخيمات ومدينة تندوفالجزائرية، وقبل كورونا كانت هناك خدمة لتوصيل البيتزا. لكنه لا يمكن الحديث عن اقتصاد مكتفٍ ذاتيًا، إذ يتم توفير معظم المواد الغذائية من خلال برنامج الغذاء العالمي، بتمويل من المنظمات غير الحكومية الدولية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة”. ونقل يورك شيفر عن مسؤول العلاقات الدولية في شباب البوليساريو قوله إن “أكبر مشكلة تواجه الشباب في الصحراء هي اليأس” أمام ما يعتبره فشل الأمم المتحدة في إيجاد حل للمشكلة.
وأضاف شيفر أن “تطور النزاع إلى حرب يرتبط إلى حد كبير بموقف الجزائر، أهم داعم للبوليساريو (..) لكن من غير المحتمل أن يكون في مصلحة الجزائر غير المستقرة سياسيًا زيادة زعزعة الاستقرار في المنطقة”. أما صحيفة “يونغرفيلت” الألمانية ذات التوجه اليساري الماركسي فانتقدت في مقال (27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020) “تقاعس الأمم المتحدة” واعتبرت أن قطع طريق الكركرات كان “احتجاجا من الصحراويين على تقاعس، بل وتواطؤ الأمم المتحدة، التي قدم أمينها العام أنطونيو غوتيريس تقريرًا جديدًا عن الوضع في الصحراء الغربية إلى مجلس الأمن في بداية أكتوبر، كما هو الحال في كل عام، دون أدنى آفاق لحل المشكلة (..) مرة أخرى، تم تمديد مهمة بعثة “مينورسو” لمراقبة وقف إطلاق النار ولإعداد استفتاء انتظره الصحراويون دون جدوى”.
موقف برلين ـ دعوة أطراف النزاع لضبط النفس
دعت الحكومة الألمانية أطراف النزاع إلى ضبط النفس وإلى إحياء العملية السياسية برعاية الأمم المتحدة. وأكدت برلين أنها ملتزمة بعودة مبعوث الأمم المتحدة في نزاع الصحراء الغربية إلى منصبه في أقرب وقت. وكان الرئيس الألماني السابق هورست كوهلر شغل هذا المنصب حتى مايو/ أيار 2019. وذكرت متحدثة باسم الحكومة أنه تمكن من “إحراز تقدم إيجابي”.
وترتبط ألمانيا بعلاقات جيدة مع كل من المغرب والجزائر ولها مصلحة في استقرار الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط سواء بسبب تدفق الهجرة غير الشرعية أو مخاطر الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء. وبالتالي فإن اندلاع نزاع مسلح جديد هو آخر ما يمكن أن يسعد أوروبا.
ويذكر أن كلا من المغرب وجبهة البوليساريو عبرا عن أسفهما بعد تخلي الرئيس الألماني السابق عن دوره كوسيط أممي. وأشادت المملكة المغربية بـ”الجهود التي بذلها منذ تعيينه في منصبه”. وذهبت البوليساريو في نفس الاتجاه معبرة عن “حزنها الشديد” وشكرت كولر على “الجهود الديناميكية التي بذلها من أجل إعادة إطلاق مسلسل السلام الأممي”.
كولر استقال رسميا لأسباب صحية كما ذكر بيان للأمم المتحدة. ومنذ ذلك الحين لم يتم تعيين ممثل جديد، رغم تداول أسماء مشرحين للمنصب بين الفينة والأخرى، وهو ما ترى فيه البوليساريو مؤشرا على إهمال المجتمع الدولي لقضية الصحراء.
حسن زنيند
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.