أخر الاخبار

عندما استنجد الأمير عبد القادر بسلطان المغرب

شرعت فرنسا في احتلال الجزائر سنة 1830، مستغلة ضعف الحكام الأتراك الموجودين على رأس السلطة في الإيالة الجزائرية، واللذين انحدروا بسرعة أمام الهجوم الفرنسي. فقامت المدن والقبائل الجزائرية بالتصدي للاحتلال الفرنسي. وكانت أبرز مقاومة تلك التي قادها الأمير عبد القادر بن محيي الدين الجزائري في غرب البلاد، الذي استعان في بدايته بدعم سلطان المغرب ، وتلتها مقاومات أخرى في مختلف المناطق.


الأوضاع في الجزائر قبل الاحتلال الفرنسي

كانت الجزائر إيالة تابعة إسميا، للامبراطورية العثمانية وكانت سلطة “الداي” مطلقة، إلا أنه لا يحكم فعليا سوى القسم الشمالي المطل على حوض البحر المتوسط، والذي لا يتعدى سدس البلاد.


واحتفظ الأتراك بطابعهم كأجانب، رغم مرور ثلاثة قرون على استقرارهم بالبلاد الجزائرية وكانوا يفرضون على السكان الخاضعين لحكمهم مختلف أشكال السخرة، ويقومون بتجنيد الشباب منهم في الجيش. وأمام تقلص موارد الجهاد البحري فإن الحكام قد توجهوا للزيادة في الضرائب والجبايات المأخودة من السكان الأصليين.


 وكان الداي وأعوانه الإداريون والعسكريون يستثمرون لصالحهم أخصب الأراضي العمومية الواقعة في منطقة نفوذهم.


وكانت القبائل الجزائرية المقيمة فوق السلاسل الجبلية الشرقية والقبائل الرعوية المتنقلة فوق الهضاب وداخل الصحراء، غير خاضعة للحكم المركزي. وكانت تلك القبائل تعيش في إطار الملكية الجماعية للأرض أو من الرعي.


ونتج عن التراتب الإجتماعي القائم بين الأتراك وباقي شرائح المجتمع الجزائري، أن اندلعت انتفاضات متعددة ضد الحكم المركزي التركي، سواء من طرف القبائل أو من طرف الزوايا المعارضة كالدرقاوية والتيجانية.


المقاومة الجزائرية والأمير عبد القادر

في يونيو 1830، نزلت الجيوش الفرنسية بسيدي فرج بالقرب من مدينة الجزائر. وبفعل تفوقها العسكري استطاعت أن تستولي على العاصمة في ظرف وجيز وأن ترغم الداي على الاستسلام بدون أدنى شرط.


وانطلاقا من المدن الساحلية المحتلة، عملت القوات الفرنسية على التقدم من الشمال نحو الجنوب للسيطرة على مجموع البلاد، إلا أنها اضطرت للدخول في حروب طويلة وعنيفة بفعل المقاومة المسلحة القوية التي واجهتها.


وإذا كان بعض الجزائريين قد ساعدوا الفرنسيين في احتلال الجزائر للتخلص من ظلم الأتراك، فسرعان ما اكتشفوا زيف أحلامهم، لأن الفرنسيين لم يصلوا للجزائر قصد نشر المدنية وتعميم العدل كما أوحوا إلى أتباعهم من المغفلين وأصحاب المصالح، بل إن الاحتلال العسكري الفرنسي أباح كل الوسائل للقضاء على المعارضين والمقاومين من قتل وتعذيب وإبادة، بل وإحراق قرى بأكملها.


وهو ما فعلوه مثلا عام 1832م حيث أحرق الجيش الفرنسي قرية بأكملها واستولى على أراضيها، كما ذكر المؤرخ الجزائري يحي بوعزيز في كتابه ” الموجز في تاريخ الجزائر “، ولهذه الأسباب وأسباب أخرى مثل نزع الملكية من أصحابها وتحويل المساجد إلى كنائس هب الجزائريون للمقاومة، ثم استنجدوا بالعالم الإسلامي ولجأ فريق منهم إلى الاستنجاد بسلطان المغرب.


بيعة أهل تلمسان لسلطان المغرب المولى عبد الرحمان

قبل أن نتحدث عن بيعة أهل تلمسان للسلطان المولى عبد الرحمان بن هشام يجب التذكير بأن هذه المبادرة سبقتها بوادر أخرى في تاريخ المغرب، ونذكر هنا مبايعتهم للسلطان السعدي محمد الشيخ بن محمد القائم، بل إن كثيرا من قبائل غرب الجزائر تشبتوا بسلطان المغرب للفرار من حكم الأتراك، ونذكر هنا استنجاد سكان إقليم وهران ومدينة تلمسان بالسلطان المولى سليمان (1760-1822م)، بل وجهوا وفدا من أعيان قبائلهم ووجهائهم لتقديم البيعة، لكن السلطان المولى سليمان لم يقبل البيعة لأسباب اعتبرها شرعية.


وهذه الأسباب هي التي حاول تبريرها أهل تلمسان في بيعتهم لسلطان المغرب المولى عبد الرحمان بن هشام (1789-1859م)، حيث جاء في نص بيعتهم الطويلة والمؤثرة التي أوردها صاحب كتاب الاستقصا كل الدلائل التي تصح بها بيعتهم، هكذا وجد السلطان المولى عبد الرحمان نفسه ملزما بقبول البيعة رغم علمه المسبق بآثارها على المغرب الذي كان بدوره يضمد جراحه ويلم أطرافه.


لقد تضافرت عدة عوامل لإفشال هذا المشروع بحيث لم تنفع مجهودات سلطان المغرب ولا إمداداته ولا مبعوثيه من العلماء و أهل الصلاح والتصوف لتهدئة الأوضاع في غرب الجزائر، لذالك اضطر إلى إصدار الأمر برجوع الجيش المغربي من تلمسان، وكلف أهلها بالبحث عمن يرتضونه أميرا عليهم، فكان هو الأمير عبد القادر بن محيي الدين الجزائري.


الأمير عبد القادر الجزائري من البيعة إلى الاستسلام

لقد تعددت الأسباب والنتيجة كانت واحدة وهي سحب الإدارة المغربية من تلمسان، وبوحي من السلطان المولى عبد الرحمان عمل الجزائريون على البحث عن أمير لهم فكان هو الأمير عبد القادر.


فمن هو هذا الأمير ؟ وكيف وصل إلى إمارة الجهاد ؟ وكيف انتهت مقاومته ؟


ينتمي الأمير عبد القادر إلى قبيلة هاشم العربية المقيمة قرب مدينة “معسكر”. وكان قد رافق والده في رحلته إلى المشرق، حيث زار الحجاز والعراق ومصر. فأعجب بتنظيمات محمد علي التي تركت في نفسه أثرا عميقا.


صورة الأمير عبد القادر الجزائري

لذلك عاد إلى بلده غريس يحمل أفكار التجديد والتغيير والإصلاح، خصوصا لما أصبحت المقاومة الجزائرية بدون زعيم بعد انسحاب المغاربة من تلمسان، ولما بادر أهل غريس وبني عامر إلى اقتراح بيعة الفقيه الحاج محيي الدين الإدريسي الذي علل رفضه بكبر سنه اقترح رابع أولاده عبد القادر خصوصا وأنه أبدى قوة وشجاعة في حرب وهران عام 1831م.


وهكذا تمت بيعة عبد القادر عام 1832 م كأمير على الجيش وقائد للجهاد، وقد ردد في مجموعة من مراسلاته أنه مجرد قائد تابع لسلطان المغرب، لأن أهل تلمسان لم يقبلوا بيعته إلا بشرط إعلان تبعيته للسلطان المولى عبد الرحمان، وكان رد فعل السلطان هو إمداده بالمال وسلاح والذخيرة، بل دفع مجموعة من المغاربة إلى الالتحاق بالأمير عبد القادر ليكونوا ضمن جيشه.

 

لقد حقق الأمير عبد القادر كثيرا من الانتصارات التي خاضها ضد الفرنسيين معتمدا على أسلوب المباغتة والضرب بقوة ثم التنقل والرحيل، وهذه هي نقطة قوته حسب ما عبر عنه الجنرال الفرنسي بيجو Bugeaud الذي استطاع بخططه العسكرية وبمساعدة مجموعة من القبائل أن يلجئ الأمير عبد القادر إلى التراب المغربي.


لقد استطاع الأمير عبد القادر وضع اللبنات الأولى لتشييد الدولة ومنها ضرب النقود وإنشاء معامل السلاح وترتيب الإدارة في المناطق التابعة لنفوذه، ورغم ذلك فقد خانه الحظ وعاكسته الظروف، وكان من أهمها الفتن الداخلية في الجزائر وميل مجموعة من القبائل للجانب الفرنسي ودخولهم تحت رايتهم.


راية دولة الأمير عبد القادر الجزائري

لذلك التجأ الأمير عبد القادر الجزائري إلى عقد معاهدات مع الفرنسيين من بينها “معاهدة تافنا” سنة 1837م، التي بمقتضاها حصل عبد القادر على ولاية الغرب الجزائري بأكمله، باستثناء المدن الساحلية. ولم تكن المعاهدات التي عقدها الفرنسيون معه سوى خطة استراتيجية للاستيلاء على بقية المناطق الجزائرية، ولما انتهوا من ذلك نقضوا المعاهدات وتوجهوا بجيوشهم إلى مدينة المدية مقر حكومة الأمير عبد القادر فاحتلوها.


استسلام الأمير عبد القادر

سيطر الفرنسيون سيطرة نهائية على مدينة تلمسان بل قرروا مطاردة الأمير عبد القادر الذي ضاقت به أرض الجزائر بما رحبت فدخل إلى أراضي المغرب سنة 1842م، وصار يجول خلال الديار ويجمع الدعم من قبائل الحدود المغربية معتمدا على المساندة العلنية للأمير محمد بن عبد الرحمان، الذي كان متحمسا للجهاد.


لكن الضغوطات الفرنسية شددت الخناق على السلطان المغربي، وهددته بقصف الموانئ المغربية، لأن المخبرين الفرنسيين أكدوا في تقاريرهم وصول السلاح والمئونة والأموال من المغرب إلى الأمير عبد القادر، الذي تخلى عنه مجموعة من أنصاره بالجزائر تحت قوة سلاح الفرنسيين.


وبين تضارب المصادر بين الدعوة لنفسه والخروج عن طاعة السلطان مولاي عبد الرحمان وبين عدم صحة ذلك، وجد الأمير عبد القادر نفسه ملزما بمغادرة التراب المغربي أو وضع سلاح المقاومة، لأن مولاي عبد الرحمان أدرك درس معركة إيسلي التي لم يشارك فيها الأمير عبد القادر الذي ظل يراقب من بعيد مجريات المعركة مع كتائبه.


هكذا رأى عبد القادر الجزائري وجوب استمرار المقاومة والجهاد خصوصا بمساندة قبائل من غرب جبال الريف، حيث الموطن الأصلي لأسرته في قرية تافرتيت، ولم يكتف بذلك حتى دخل في مواجهات مع السلطان وقتل أحد قواده، لينتهي به المطاف إلى مواجهة صديق الأمس الأمير سيدي محمد بن عبد الرحمان، ولما شدد عليه الحصار من طرف القوات المغربية لم يجد أمامه سوى الاستسلام للفرنسيين في 23 دجنبر 1847م، فتم نفيه إلى فرنسا ومنها إلى سوريا.


واتجهت القوات الفرنسية نحو احتلال باقي البلاد الجزائرية، فواجهتها مقاومات متعددة، واستعمل الفرنسيون كل وسائل العنف لإخمادها، وسرعوا في تحويل الجزائر إلى مستعمرات استيطانية. فانتهت بذلك سيرة الأمير عبد القادر الجزائري لكن مخلفاتها وفصول أحداثها لم تنته بعد بـ المغرب..

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -