أخر الاخبار

معركة الدار البيضاء 1907

معركة الدار البيضاء 1907


في سنة 1906عين ليوطي قائدا على رأس الفرقة العسكرية بوهران، وكان في نفس الوقت مفوضا ساميا للتخوم الجزائرية - المغربية. وفي هذه السنة كذلك بدأت فرنسا تمارس رسميا مهام «أمنية » داخل المغرب، ونلك وفقا لمقتضيات معاهدة الجزيرة الخضراء، وهو تدخل سافر في الصلاحيات السيادية المغربية. ومنذ ذلك الحين لم تعد المبررات الواهية تعوز الفرنسيين في غزوهم العسكري للمغرب. وهكذا مرت عشرة أيام فقط على اغتيال الدكتور الفرنسي موشان بمراكش، حيث كان يزاول خدمات طبية مشبوهة، ليحتل ليوطي مدينة وجدة يوم 29 مارس 1907، كإجراء انتقامي بعد حادثة مراكش.

وبعد ذلك بأربعة أشهر تمت عملية إنزال فيلق الاحتلال الفرنسي بالدار البيضاء، تنفيذا لخطة حربية رامية إلى اجتياح التراب الوطني برا من الشمال الشرقي وبحرا من الوسط الغربي. عندها وجد المغرب نفسه بين فكي كماشة الآلة العسكرية الكولونيالية.

صعدت الدعاية الاستعمارية من وتيرتها وقدمت التدخل العسكري الفرنسي بالمغرب على أساس أنه جاء بناء على "حق" فرنسا في "استتباب الأمن" و"حماية" الجالية الأوربية، و«مساعدة» الحكومة الشريفة على مواجهة القبائل "الهمجية".. وفي شهر مايو 1907 بدأت الأشغال بميناء الدار البيضاء، وتم بناء خط للسكة الحديدية بطول كيلومتر واحد تقريبا.

وراجت إشاعات مفادها أن فرنسا بدأت فعلا في غزوها الشامل للبلاد، وأن السكة الحديدية سيتم تمديدها إلى الرباط وكذلك في اتجاه الشاوية لتسهيل عمليات الاحتلال. واشتد غضب الناس لكل هذه التطورات، وتشكل على إثر ذلك وفد من فرسان الشاوية بهدف معاينة ما تناقلته الإشاعات. وفعلا وصل الوفد إلى الدار البيضاء وعاد منها حاملا الخبر اليقين : إن ما تروجه الإشاعات صحيح ، وما على الجميع إلا التأهب لمقاومة الاحتلال!

 أكد المتليني أن “تفاصيل هذه الواقعة بدأت يوم 28 يوليوز1907م، عندما تقدم ممثلو قبيلة مديونة إلى عامل الدار البيضاء “أبو بكر بوزيد” بلائحة مطالب، تركزت حسب أولوياتهم عل تحقيق ثلاث متمنيات؛ هي طرد المراقبين الفرنسيين من ديوانة الميناء، تخريب سكة الحديد التي أنشأها الفرنسيون بين الميناء والمحجر، والإيقاف الفوري للأشغال الجارية في الميناء.


لكن ممثل السلطان احتج بالديون المستحقة على المخزن، ما قد يمنعه من التقيد بهذه المطالب، يستطرد الأكاديمي ذاته، عندها استيأس رجال الوفد من تحصيل مرادهم، وما كان من الحشود المحتشدة، والعوام، ومدبري الثورة من السكان القرويين والحضريين إلا أن ولوا وجوههم شطر أشغال البناء التي كانت تشرف عليها “La compagnie Marocaine” بميناء الدار البيضاء، وحاولوا بكل جد وحزم إيقاف وعرقلة استمرارها.

وأضاف صاحب كتاب “A travers le corps de débarquement de Casablanca(1907-1908)”، قائلا: “في سياق هذا الهرج والمرج، قام القنصل البرتغالي بإعلام القنصل الإنجليزي بالدار البيضاء، في غياب عميد السلك الدبلوماسي الفرنسي M.Malpertuis الذي كان في إجازة بفرنسا، بضرورة عقد اجتماع لتقديم شكوى مستعجلة للسيد بوبكر عامل السلطان، حقنا للدماء المتوقعة، بسبب الاتصال اليومي الذي كان للمغاربة مع الأوروبيين بمقلع الأحجار”، بتعبير الباحث الجامعي.

وتابع: “لكن الثوار اندفعوا بقوة ومنعوا مرور القاطرة التي كانت تحمل الحجارة الموجهة لبناء الرصيف، عبر وضع حجر ضخم على السكة، هنا نزل أحد العمال الأوروبيين لمعاتبة الحشود الغاضبة، فما كان منهم إلا رموه بالحجارة، وأمام هول الموقف، استسلم السائق ومن كان على متن القاطرة، وفي خضم تماوج الناس، أسفر الحادث عن قتل 3 عمال فرنسيين، وثلاثة إسبان، وثلاثة ايطاليين، فكان مجموع القتلى 9 أوروبيين من عمال هذه الشركة، وأشعلوا النار تحت الصفيحة المعدنية للقاطرة”.

بعدها توجه الثوار ناحية الملاح حيث سكنى اليهود بالمدينة ونهبوه، بدعوى توفير الزاد الذي سيسعفهم في مواجهة كل الصعاب التي قد تعترضهم في المستقبل، وبعد انتهاء هذه المذبحة، وقف الثوار عند باب مراكش يهتفون برحيل الفرنسيين، ثم إنه من أجل إضفاء النجاح على عمليتهم، وبغية شحذ الهمم للقادم من الأيام، ولضمان انخراط الساكنة في مقاومة الفرنسيين بالشاوية، أشاع الثوار خبر سحقهم للفرنسيين في هذه الموقعة، فتحقق لهم ما كانوا يريدون.

في هذه اللحظة، كان هناك طبيب فرنسي يراقب ما يقع من شرفة منزله، دون أن يكون قادرا على التدخل لإسعاف الضحايا، يدعى “Merle”، ظل يعاين التطورات التراجيدية لهذا الحادث المأسوي إلى حين تفرقت الجموع، فنزل بمعية 14 من الفرنسيين غير المسلحين، و10 من جنود المخزن، وتوجه إلى الشاطئ، وتمكن بشق الأنفس من أخذ الجثث إلى القنصلية الفرنسية، لينتقل بعدها مباشرة برفقة القائم بالأعمال القنصلية بالصويرة إلى طنجة لإعلام وزير فرنسا بما حدث.

وأردف الأكاديمي المغربي قائلا: “في وقت تحصن فيه ما تبقى من الفرنسيين ببناية قرب البحر، وافق المخزن بدعم من القنصل البريطاني على توفير الحماية لهؤلاء المتحصنين، وفي 31 يوليوز بلغ الخبر مسمع هذا الوزير عن طريق Merle، وأرسل على جناح السرعة برقية تلغرافية إلى باريس في الموضوع، فجاء الرد بإعطاء الأمر للطراد كاليلي والقائد أولفيه بالإبحار في اتجاه ميناء الدار البيضاء

وباسم الشاوية أوفدت قبائل مديونة و قبائل أولاد زيان، يوم 29 يوليوز 1907، لجنة تتكون من أربعين عضوا إلى الدار البيضاء. وعند وصولها استقبلها كل من باشا المدينة ومولاي لامين، عم السلطان، وعدد من الأعيان. وطلب المندوبون بكل إلحاح من سلطات المخزن أن تعمل على إيقاف خط السكة الحديدية، وتعليق أشغال الميناء، وإلغاء المناصب المخصصة للأجانب بمصالح الجمارك المغربية. لكن تحت ضغط فرنسا رفض المخزن رفضا باتا تلبية هذا الطلب.

وفي اليوم الموالى، حوالي منتصف النهار، جاب براح مغربي أزقة الدار البيضاء، ممتطيا فرسه وبرفقته عدد من الفرسان الذين أوفدتهم قبائل الشاوية، معلنا لمن يريد أن يسمع أن النصارى أمامهم أجل ثلاثة أيام لمغادرة المدينة. وبينما هو كذلك فإذا بمواطن برتغالي يقترب منه بنية إزعاجه واحتقاره، لكن أحد المغاربة انبرى من الحشد وضرب البرتغالي.

وكان واضحا أن رسالة البراح لم تجد آذانا صاغية ممن يهمهم الأمر. وحوالي الواحدة والنصف انطلقت قاطرة تجر عربات من المقلع محملة بالأحجار في اتجاه أوراش العمل بالميناء، إلا أن مجموعة من السكان وضعوا عراقيل فوق السكة لمنع القاطرة من مواصلة السير، فنزل عامل اسباني من إحدى العربات بهدف إزالة العراقيل، وعرض نفسه للضرب، شأنه في ذلك شأن سائق القاطرة، وسرعان ما التحق بهما عدد من العمال الأوربيين بغرض الدفاع عنهما.

وتحول المشهد إلى مشاجرة دامية عنيفة بين المغاربة والأوربيين خلفت قتلى وجرحى، وفي الليل تم نقل جثث الأجانب إلى قنصلية فرنسا من طرف محميين يهود. ولما اندلعت هذه الأحداث اتصلت قنصلية فرنسا بالدار البيضاء بالقوة البحرية الفرنسية المتواجدة بميناء طنجة، وهكذا في فاتح غشت وصلت السفينة الحربية "لوجاليلي" إلى ميناء الدار البيضاء قصد "مساعدة السلطان على رد الأمور إلى نصابها، وحماية الأوربيين من اعتداءات المتمردين" على حد قول الدعاية الاستعمارية، ثم اتخذت موقعا هجوميا ووجهت مدافعها اتجاه مدينة الدار البيضاء.

وبعد أربعة أيام اتصل قائد السفينة عبر اللاسلكي بطرادة حربية أخرى تحمل اسم "دي شايا"، ووصلت على إثر ذلك تعزيزات بحرية فرنسية هامة. مما مكن قائد "لوجاليلى"، من تنفيذ قرار انتشار مجموعات من الجنود الكومندو وإيفادهم إلى البر قصد «الحفاظ على الأمن » و«حماية القنصليات الأوربية المهددة »...

وهكذا وصلت وطأت أرض الدار البيضاء، يوم 5 غشت في الساعة الخامسة والنصف صباحا، أقام أول مجموعة تضم 60 جنديا مسلحين سلاحا متطورا، وجدوا في انتظارهم اليهودي المغربي المدعو الزاكوري الذي بعثته القنصلية كمرشد يدلهم على الطريق إلى مقرها، وعلى الفور بدأ القصف المكثف للدار البيضاء ونواحيها وخاصة برج القيرواني، وفي الساعة التاسعة خرج مولاي لامين، عم السلطان، ومعه مخزني حامل لعلم أبيض يطلب وقف إطلاق النار، وفي الوقت نفسه انطلق عدد من البراحة يجوبون أحياء المدينة معلنين نوايا فرنسا «السلمية». لكن الناس اعتبروهم مجرد عملاء وخونة فانهالوا عليهم بالضرب، واستؤنفت عمليات القصف بقوة أعنف.

وفي الساعة الحادية عشرة أنزلت "شايلا" سرية للدعم على مقربة من حوض سيدي بليوط، وكانت تتألف من 110 من الجنود المدججين بالسلاح. ووصلت في نفس الوقت السفينة الحربية الاسبانية "دون الفارو دوبازان" إلى الميناء، ونزلت منها مفرزة قاصدة القنصلية الاسبانية لتتموقع هناك.

وفي عشية نفس اليوم وصلت السفينة الحربية الفرنسية «فوربان» داعمة القوات الغازية بعشرات من الجنود الإضافية. ولم تكن هذه القوات سوى الطلائع الأولى لفيلق الإنزال الذي اتخذ من قنصليات انجلترا واسبانيا وفرنسا ثلاثة مواقع لدعم عملياته القتالية في مواجهة المغاربة.

وكان قائد الفيلق هو الرائد مانجان الذي وصل على متن "دي شايلا". وهكذا واصلت القوات الغازية قصفها للأحياء السكنية ومواقع المقاتلين المغاربة طيلة يوم 5 غشت بدون انقطاع تقريبا، وحوالي منتصف الليل هاجم المقاتلون الملاح وأحرقوه عقابا لتواطؤ اليهود المغاربة مع الفرنسيين، وعمت الاضطرابات كل المناطق المجاورة. ووصل الرقاصة إلى قبائل المذاكرة و مزاب، و أولاد سعيد، وإلى تادلة وأماكن أخرى يحملون أنباء المواجهات مع المستعمر وينادون بالجهاد.

وارتفعت حدة الصدامات، وحاصر المغاربة قنصلية البرتغال حيث تمركز عدد من جنود الاحتلال بعتادهم الحربي، وأما قنصلية انجلترا التي كان يستعملها الغزاة كقاعدة أمامية لهجومهم فإنها أوشكت على السقوط بين أيدي المغاربة الذين تمركزوا بعمارة فندق فرنسا، كما لم يعد بينهم وبين القنصلية الاسبانية المحصنة سوى ثلاثين مترا.

وتعثرت المواصلات بين مختلف فرق جيش الاحتلال، وبدأت تتراجع في اتجاه المواقع الأولى حيث البوارج الحربية. وفي الساعة الثانية صباحا من يوم 7غشت عم الذعر والهلع في صفوف الأوربيين الذين لم يتوقعوا كل هذه المقاومة الضارية من طرف المغاربة، وتلاحم الخصمان في مواجهات دامية بالسلاح الأبيض، وتعالت زغاريد النساء تشجيعا للمقاتلين المغاربة، وغصت بعض أزقة الدار البيضاء بالجثث البشرية وبعشرات من الخيول النافقة أو المعطوبة.

قصف الدار البيضاء المغربية عام 1907
قصف الدار البيضاء المغربية عام 1907 من قبل القوات الفرنسية


وكاد المغاربة أن يحرروا المدينة ويقضوا على العناصر الغازية تماما، لولا وصول بوارج حربية فرنسية أخرى حوالي الحادية عشرة صباحا، وهي ،"كلوار" و"كود" و"كايدون" التي أمطرت وابلا من القنابل على المواقع الإستراتيجية للمقاومة المغربية. واتضح للمغاربة أن فرص القتال لم تعد متساوية، كما أن تنظيمهم لم يكن في مستوى طموحاتهم ولم يعكس إلا جزءا بسيطا من روحهم القتالية.

وبعد أخذ ورد على مستوى الاتفاقيات الاستعمارية الدولية بصدد «المسألة المغربية» أحرزت فرنسا أخيرا على أهم وأكبر جزء من التراب الوطني، تاركة أقصى الشمال وأقصى الجنوب لإسبانيا، وتم تدويل منطقة طنجة رضوخا لإرادة انجلترا. وفي يوم 30 مارس 1912 في الساعة الحادية عشرة صباحا تم التوقيع على معاهدة الحماية بفاس، ليسدل بذلك الستار على ما كان يشبه السيادة المغربية.

* أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة
تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -