لم تستطع الدولة العثمانية دخول المغرب رغم الحروب الطاحنة والصراعات القوية التي دارت بين الجيشين العثماني والسعدي، رغم فوارق القوة والعدة والعتاد، لتلجأ الإمبراطورية العثمانية إلى خطة الاغتيالات، فتم ذلك باغتيال الملك السعدي سلطان المغرب محمد الشيخ، رغبة منهم في إنهاء فترة العصيان الطويلة الذي فرضها السعديون عليهم.
ولم يكن مقتل محمد الشيخ ليخمد نيران المغاربة ويحول بوصلتهم من الصمود والمقاومة إلى الخنوع والخضوع، فبرز بذلك سلطان آخر أذاق العثمانيين مرارة الهزيمة في معركة ستظل شاهدة على تاريخ المغرب الصاد لكل الأطماع العثمانية في الدخول إليه.
لم يجد حاكم الإمبراطورية العثمانية سليمان القانوي أمام هزائم جيوشه في مواجهة السعديين وهي تحاول أن تدخل إلى المغرب بدا من اغتيال سلطان المغرب عبد الله الشيخ لإسقاط آخر معاقل المغرب الأقصى، حيث كانت إرادة العثمانيين هي إضعاف جبهة السعديين الذين كانوا يتصدون للغزو الإسباني والبرتغالي الصليبي، وبالتالي يسهل عليهم دخول المغرب على طريقة دخولهم إلى الجزائر، لقد خطط العثمانيون بشكل متقن من أجل سقوط المغرب في يد الإيبيرين، كما سقطت الأندلس من قبل، ويصبحوا بذلك فريسة سهلة وولاية تحت رحمتهم.
وأمام كل هذه التحديات والمضايقات، لم يستسلم المغاربة، ولم يرفع الأشراف السعديون راية الاستسلام رغم إغتيال سلطانهم أبي عبدالله محمد الشيخ، فما كان منهم إلا مبايعة ابنه الشريف عبد الله الغالب، الذي سار على نفس نهج والده، وواصل سياسة الإصلاح الداخلي لتقوية الدولة المغربية قصد مواجهة العثمانيين وأطماع الإيبيرين، حيث رفض بيعة السلطان سليمان القانوني، مصرا على التصدي له وقتاله.
وأمام تعنث السلطان المغربي الجديد، عاود العثمانيون تجديد أطماعهم ورغبتهم في غزو المغرب، ففي مارس من عام 1558، أرسل السلطان سليمان القانوني جيشه الجرار إلى مدينة فاس، التي كانت مركز الدولة السعدية، وتولى هذه المهمة القائد الذي كان بالجزائر حسن خير الدين باشا بن خير الدين بربروسا، معتقدا أن اغتيال السلطان المغربي محمد الشيخ سيمهد له حكم المغرب بكل سهولة، ولكن الجيش العثماني تعرض لهزيمة ساحقة فيما عرف تاريخيا بموقعة وادي اللبن 956 هجرية الموافق لعام 1558 م، المعركة التي أنهت حلم الأتراك في ضم المغرب إلى إمبراطوريتهم.
تقدم الجيش العثماني بحريا بجيش الإنكشارية الجرار عبر البحر المتوسط، وصولا إلى الجزائر التي كانت تحت حكمهم، نزلوا بجزيرة باديس التي كانت تحت سيطرتهم حينئذ، ثم واصل الجيش العثماني زحفه نحو الداخل الجزائري في طريقهم إلى فاس، وفي المغرب كان السلطان الجديد ابن محمد الشيخ يعد العدة ويجهز جيشه ويقوي العزيمة في نفوس الجنود.
ولما تقوى الجيش السعدي، خرج السلطان عبد الله الغالب على رأس جيشه متقدما بعزم قوي نحو الشمال، وقد إستجابت له العديد من القبائل المغربية التي كانت ترفض بدورها دخول العثمانيون إلى المغرب، حيث انضمت إليه قبائل صنهاجة في البداية ثم العديد من القبائل الأخرى.
ولما سار الجيش السعدي ذو الإمكانيات التقليدية البدائية، للقاء الجيش العثماني الذي كان مدججا بأحدث الأسلحة، دارت المعركة في منطقة تدعى “تيسة” شمال مدينة فاس قرب وادي اللبن والتي كانت حاسمة، إنتهت بانتصار الجيش السعدي رغم تباين موازين القوة بين الفريقين على الجيش العثماني الإنكشاري الغازي لأرض المغاربة، حيث انسحب هذا الجيش التركي، وعاد أدراج الرياح خاوي الوفاض دون تحقيق النصر الموعود إلى جزيرة باديس بالجزائر.
وحول هذه المعركة الشهيرة التي أعادت الهيبة إلى المغاربة، يقول المؤرخ الناصري :”غزاه حسن بن خير الدين باشا التركي صاحب تلمسان في جيش كثيف من الأتراك، فخرج إليه السلطان الغالب بالله فالتقيا بمقربة من عمالة فاس ، فكانت الدبرة (الهزيمة) على حسن فرجع منهزما يطلب صياصي الجبال الى أن بلغ الى باديس ، وكانت يومئذ للترك ، ورجع الغالب بالله الى فاس…”.
وبعد هذا النصر العظيم الذي حققه السعديون على العثمانيون، قام السلطان المغربي الغالب بالله بهجوم مضاد في إتجاه الشرق على مدينة تلمسان الجزائرية، داخلا إليها، مكرسا التفوق السعدي على العثمانيين، لينسحب منها بعد ذلك بعد نشوب صراعات داخلية، وقد أثار هذا التحدي الذي أقدم عليه السعديون غضب الأتراك لكنهم لم يجهزوا حملة عسكرية جديدة لغزو المغرب خوفا من هزيمة أخرى، ليظل المغرب عصيا على العثمانيين حتى في أحلامهم، وتبقى أرض المغاربة الدولة العربية الوحيدة التي لم تقوى على غزوها أعظم إمبراطورية في العالم.
وبهذا النصر الشهير، قدم المغرب نفسه في عهد السعديين كقوة يهابها العثمانيون والإيبيريون، رغم المشاكل الداخلية التي كان يعرفها المغرب، كاسبا بذلك الإحترام من طرف الدولة العثمانية، إذ قام الأتراك بعقد العديد من المعاهدات و الاتفاقيات الإقتصادية و السياسية معه.
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.