أخر الاخبار

محمد أوفقير الوجه الآخر للجنرال


محمد أوفقير الوجه الآخر للجنرال

إدريس ولد القابلة
الحوار المتمدن
    
الرجل المرعب ذو النظارة السوداء القاتمة، هذه هي الصورة النمطية التي ظلت عالقة في أدهان أغلب المغاربة. وذهبت أغلب الكتابات إلى تقديم الجنرال محمد أوفقير كوزير فظ عديم الذمة. إنه ظل في عيون الكثيرين وجه الخيانة الأول وأب القوات المسلحة المغربية وجهاز الأمن وعراب الجلادين بالمغرب، حامل كل أخطاء النظام السياسي المغربي، علما أن من جاؤوا بعده قاموا بنفس الوظيفة مع تغييرات طفيفة جدا، هكذا كان شأن الجنرال أحمد الدليمي وإدريس البصري في العهد الحسني.

إلا أن الجنرال أوفقير سكنته الرغبة في إقامة نظام عسكري شمولي بالمغرب رغم ما قيل بخصوص حرصه على الحفاظ على الملك الراحل الحسن الثاني حيا وإرغامه على التخلي عن الحكم. ألم يطلب منه الملك الراحل محمد الخامس أن يعده بعدم غدر أو خيانة نجله الحسن الثاني؟

إن الرغبة الحثيثة على إقامة نظام عسكري شمولي بالمغرب ظلت كامنة بامتياز في حسابات الجنرال أوفقير منذ منتصف ستينات القرن الماضي، وبقي ينتظر الفرصة السانحة للقيام بذلك، منذ أن كان الجنرال يقوم بتجنيد المغاربة في صفوف جيش التحرير الجزائري، وكذلك تسهيل هروب الجزائريين من صفوف الجيش الفرنسي وإدماجهم في صفوف الثورة الجزائرية. زمنئذ، كان الجنرال صديقا حميما لكل من عبد الحفيظ بوصوف والهواري بومدين وعبد العزيز بوتفليقة وقاصدي مرباح ونور الدين الزرهوني وغيرهم، وكلهم من الذين استولوا على مقاليد السلطة – كل في مجاله وميدانه – بالجزائر بعد حصولها على الاستقلال.

وليس غريبا أن تتدهور العلاقات المغربية الجزائرية شهورا فقط بعد فشل المحاولة الانقلابية الثانية ( الهجوم على الطائرة الملكية) والتي عرّت على نوايا الجنرال أوفقير – باعتبار أن المحاولة الأولى (انقلاب الصخيرات) لم تُسقط كليا القناع عن وجهه. وتلا تدهور تلك العلاقات استخدام ورقة "البوليساريو" منذ 1973 لتأجيج الحرب الباردة بين الشعبين الشقيقين، المغربي والجزائري.
ورغم مرور 4 عقود عن رحيل الجنرال أوفقير، مازال شبحه حاضرا عبر درجة الكره والرغبة في الانتقام اللذين يكنهما أصدقاؤه الجزائريون للنظام الملكي المغربي.

ولا يخفى على أحد اليوم أن فرنسا الاستعمارية هي التي فرضة أوفقير على الملك الراحل محمد الخامس، وذلك رغبة منها في تدبير استقلال المغرب –الذي فُرض عليها – في إطار تبعيته الوثيقة لباريس، وهذا بفضل أوفقير والضباط الذين تكونوا وتدربوا وراكموا التجربة وحابوا تحت رايتها وإمرتها.

كما اتضح الآن أن فرنسا الاستعمارية كلّفت محمد أوفقير بمهمتين أساسيتين:أولهما تقعيد الأجهزة البوليسية والمخابراتية المغربية، سواء منها الرسمية أو الموازية. وثانيا إحداث القوات المسلحة المغربية عبر إقبار كليا جيش التحرير وهياكله، وكذلك تخريب حزبي الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية بجميع الوسائل وأي ثمن.

وقد انتبه الملك الراحل الحسن الثاني إلى كثرة السفريات التي كان يقوم بها الجنرال أوفقير إلى الجزائر قبل الانقلاب، وأيقن أن الغرض منها لم يكن هو السعي لحلحلة قضية الصحراء، وإنما أشياء أخرى كانت بعض حساباتها الأولى قد وُضعت منذ سنوات.
فبعد انقلاب الصخيرات (يوليو 1971) باتت تهكمات الجنرال محمد أوفقير وانتقاداته اللاذعة موضوع كل التعليقات وجلسات النميمة في أوساط حاشية الملك الراحل الحسن الثاني. وتنصّت هذا الأخير بجدّ وباهتمام لما يروج بهذا الخصوص، سيما وأنه طالما كان يعتمد على مهرجيه ومؤنسيه للتعرف على ما يجري ويدور ويُقال في الشارع. لقد اهتم الملك وقتئذ بما يُحاك حول وزيره في الدفاع. ومما نُقل إلى مسامع الملك عن وزيره في الدفاع أن ما يُحكى في المجالس والمقاهي الشعبية – خلافا لما كان سائدا سابقا- عن الجنرال محمد أوفقير أضحى يسير في اتجاه الاعتراف بنزاهته، إذ بدأ بقوّة أنه "قاس مع المعارضة ولكنه ليس لصا ومفسدا" وأنه "قد مسك بأمر تدبير شؤون الجيش وسيقوم بترتيب البيت ومنح الجندي المكانة التي يستحقها". لكن ما أقلق الملك هو بداية اهتمام الشارع بالتساؤل بخصوص صحة ومصداقية الصورة التي سادت حول أوفقير، الجنرال السفاك والجلاد والمحبّ للدم.

وكان الحسن الثاني يثق ثقة كبيرة في مجموعة من جنرالاته، الذين كانوا على رأس العديد من الأجهزة العسكرية والأمنية، بل كان يسمح لقلة منهم بزيارته في مخدع نومه، دليلا على الثقة الكبيرة التي كان يضعها فيهم، وجمعته بأغلبهم علاقات أسرية حيث كان أبناؤهم وزوجاتهم يدخلون القصر الملكي بشكل اعتيادي. من هؤلاء الجنرال محمد أوفقير.

فهل كان للجنرال محمد أوفقير وجها آخر، مخالفا للصورة التي عرفه بها المغاربة؟

معالم مسار الجنرال

ينحدر الجنرال محمد أوفقير من منطقة عين الشعير (بودنيب)، قدمت عائلته من سيدي بلعباس في الشمال الغربي للجزائر. لقي حتفه وعمره لا يتجاوز 52 سنة.

لم يتمكن من ولوج المدرسة في سن مبكرة، بدأ تعليمه في منطقة بودنيب وعمره 16 ربيعا، وهي منطقة كان يقطنها زمنئذ ما يناهز 920 نسمة ضمنهم 230 يهودي مغربي. تابع تمدرسه بــ "كوليج" أزرو (طارق بن زياد)، وكان الوحيد بين إخوته 16 الذي بلغ هذا المستوى من التحصيل. ثم التحق بالمدرسة العسكرية بمكناس.

بدأ مشواره العسكري كقناص في صفوف الجيش الفرنسي ، وتأقلم في الحرب العالمية الثانية، سيما بإيطاليا وحرب الهند الصينية، ثم بات مساعدا قريبا لأربعة مقيمين عامين فرنسيين بالمغرب، ثم مرافقا للملك الراحل محمد الخامس، فرئيسا للأمن ثم وزيرا للداخلية فوزيرا للدفاع (آخر وزير للدفاع بالمغرب).

لقد شغل أوفقير مساعدا للجنرال "ديفال" الذي اشتهر بقمعه الشرس بالجزائر. والتحق بديوان الجنرال "غيوم" صاحب مقولة "سأطعم المغاربة التبن"، ثم عضو بــ "مجلس حراس العرش" إلى جانب البكاي لهبيل والمقري في انتظار التوصل إلى اتفاق مع ممثلي الحركة الوطنية حول تفاصيل الاستقلال.

ترقى إلى رتبة كولونيل بعد أحداث الريف، ثم إلى رتبة جنرال بعد أحداث 1963 ، فجنرال "دو ديفيزيو" بعد انتهائ محاكمة قضية المهدي بنبركة بفرنسا.

أقسم لزملائه أنه سيتزوج بفاطمة الشنا بعد أن رآها لأول مرة في بيت والدها عندما كان ضيفه في مأدبة عشاء. وهذا ما كان في سنة 1951 رغم أن عمرها لم يكن يتجاوز 16 ربيعا.

أشرف على تنظيم الجيش منذ إحداثه، و بعد تعيين رضا اكديرة وزيرا للدفاع في دجنبر 1955 تألق نجم محمد أوفقير في مختلف أحداث القمع التي عرفها المغرب، سيما تمرد عدي أوبهي في 18 يناير 1957 وتظاهرات الريف في 1958 التي ربح بعدها لقب " أوفقير الجزار"، ومحاولة انقلاب 1963 وانتفاضة مارس 1965 ونازلة اختطاف واغتيال المهدي بنبركة...
وتحكي فاطمة أوفقير أن زوجها هو من أقنع "بيير جولي" - وزير الشؤون التونسية والمغربية في حكومة "إدغار فور"- بضرورة التخلص من بن عرفة الذي أصبح يشكل عالة على الفرنسيين أنفسهم. تم ذلك في اجتماع في بلدة "درو" (Dreux ) في غرب فرنسا. عندها، أوكل "جولي" المهمة إلى أوفقير قائلا: "أمنحك موافقتي، ودعمي وتشجيعي، وما عليك إلا أن تعود إلى المغرب وتضع ابن عرفة في طائرة". هكذا، أصبح أوفقير، حسب "ستيفان سميت"، ورقة ثمينة. فبفضل انتزاعه تنازل ابن عرفة، أصبح في عيون أصحابه مؤيدا صادقا لمحمد الخامس، ووطنيا فتح الطريق أمام عودة السلطان الحقيقي.

كان أوفقير سيد القصر بعد الملك والأمين عن أسرار المملكة يعلم كي شيء.
قام الجنرال محمد أوفقير بتدريب عناصر المخابرات الفلسطينية. فقد كشف ركريا بلعوشة في حديثه مع "فرانس 2" في أبريل 2001 على جوانب من تاريخ جهاز المخابرات الفلسطيني، إذ بيّن كيف تم تشكيل "القوى 17" وهو الاسم الأصلي الأول للمخابرات الفلسطينية إذ قال:" كان على منظمة التحرير الفلسطينية طلب المساعدة من الدول صاحبة الخبرة ووسائل تدريب ضباط ، وهكذا تم بعث ثلاث مجموعات إلى العراق وسوريا والمغرب. وقد أشرف الجنرال محمد أوفقير على تدريب الفلسطينيين، وهذا أمر لا تنكره القيادات الفلسطينية".

كانت الأيام التي تلت انقلاب الصخيرات عصيبة على الجنرال. فالجنرالات العشرة الذين كانوا رهن الاعتقال أعدموا دون محاكمة، وجميعهم من الأصدقاء الحميمين لأوفقير. يوم حتفهم عاد الجنرال إلى بيته بوجه شاحب وعينين حمراوين وتقاطيع متشنجة..صعد إلى غرفة النوم واستلقى ببذلته العسكرية وحذائه...

منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي، التصقت في ذهن المغاربة صورة أوفقير كرجل دموي، حسب تعبير الكاتب الفرنسي "جيل بيرو". لقد ارتبط اسم الجنرال في الذاكرة الشعبية بالقتل منذ بداية الاستقلال إلى آخر يوم في حياته ، بعد فشل المحاولة الانقلابية في منتصف غشت 1972 . ظل قليلين الذين تحدثوا عن الوجه الآخر للجنرال.

التتويج العسكري

في جعبة الجنرال تتويجات لم يسبق أن حصل عليها عسكري مغربي.

في الفترة ما بين نونبر 1943 ويناير 1944، ربح الحلفاء معركتين حاسمتين: الأولى "بلفيدير"، والثانية "كاريغليانو". وأبدى جنود شمال إفريقيا شجاعة نادرة في مواجهة النازيين. وبفضلهم، أصبح الطريق مفتوحا في اتجاه روما.

وبعد المعركة الأخيرة، نال أوفقير "صليب الحرب مع نجمة فضية"، ودون اسمه في السجل العسكري، كضابط شاب يتمتع بالقوة والحيوية، ويحافظ في كافة الأوضاع على هدوئه الممتاز. في 11 مايو 1944، قاد جنوده في الهجوم على جبل "سيرازولا"، وحثهم على الثبات لساعات في مواجهة قذائف المدفعية ورصاص رشاشات العدو النازي. وبعد أيام، شارك أوفقير في صد الهجوم الألماني المضاد على مدينة "سيينا"، ونال، بإيعاز من الجنرال الأمريكي "مارك كلارك"، الذي أعجب بشجاعته، ميدالية "سيلفر ستار" الأمريكية مع نجمة فضية. أما الفرنسيون، فوشّحوه بــ "صليب الحرب"، ووسام جوقة الشرف وترقية. ثم عاد أوفقير إلى المغرب، بعد انتهاء الحرب، دون أن يحلو له المقام، إذ قرر الالتحاق مجددا بساحة الحرب في خدمة فرنسا، وهذه المرة في الهند الصينية. هناك برهن عن كفاءة كبيرة وشجاعة لا لبس فيها، وقسوة لا حد لها. كان رؤساؤه يقولون: "أمام أوفقير، يبدو المظليون مثل أطفال جوقة المرتلين في الكنيسة".

في الهند الصينية، تنقّل أوفقير بين مختلف الوحدات العسكرية الفرنسية، من وحدات المسح في حقول الأرز والأدغال، إلى الوحدة العسكرية، وترأس الكوماندو الذي كانت مهمته حماية البواخر والسفن، الحربية منها والتجارية.

غادر محمد أوفقير الهند الصينية، بسبعة تنويهات وإحدى عشرة سعفة عسكرية أضيفت إلى ميدالية جوقة الشرف، كما رقي إلى ضابط في جوقة الشرف ثم إلى نقيب.

في نهاية 1955، ترك أوفقير الجيش الفرنسي، الذي خدمه طويلا، برتبة مقدم، وتلّقى تعويضا ماليا قدره ثمانية عشر مليون فرنك فرنسي.

الجنرال وبودنيب

إن علاقة الجنرال ببودنيب تكشف الوجه الآخر للجنرال الدموي. فمع بداية القرن العشرين، كان المخزن ضعيفا وتجلى هذا الضعف بشكل جلي في المنطقة الشرقية للمملكة . آنذاك سطع نجم رجل يدعى أحمد بن قدور أوفقير( والد الجنرال) ضمن عيشه بواسطة السطو على القوافل التجارية المارة قرب الحدود الجزائرية المغربية وأحيانا يهاجم الدوريات العسكرية الفرنسية حينما عقدت فرنسا العزم على احتلال المغرب. آنذاك أبدى والد الجنرال استعداده الكبير للتحالف مع فرنسا. فسعى إلى لقاء المارشال ليوطي الذي انقض على الفرصة وعيّنه باشا على مدينة بوذنيب لضمان ولاء أهلها، وقد تم هذا قبل سنتين قبل الحماية الفرنسية على المغرب، أي في سنة 1910 . واعتمدت فرنسا هذا في باقي أنحاء المغرب، وهي ما يسميه المؤرخون " سياسة القواد الكبار". حيث أن هؤلاء لعبوا دورا حاسما في تسهيل مهمة الحماية. فمقابل الدعم المادي والعسكري والامتيازات التي تلقوها من فرنسا، أخضعوا القبائل التابعة لهم.

وعندما ولد أوفقير، في نهاية سنة 1920، لم تكن بوذنيب إلا مجرد "قصر" (دشر أو دوار كبير بلسان أهل المنطقة الشرقية)، يقطنه حوالي ألف نسمة، بينها بعض الأوربيين واليهود المغاربة. والواقع أن أوفقير ولد بعين الشعير، قرب فكيك، من عائلة قدمت - كما يورد الصحافي الأمريكي "ستيفان سميت"- من سيدي بلعباس في الشمال الغربي للجزائر. وتدفع عائلة أوفقير بنسبها الشريف، حيث يتموقع محمد أوفقير في الجيل الثالث والعشرين من السلسلة.

في العاشرة من عمره، التحق الفتى أوفقير بالمدرسة. لم يبد أي اهتمام بالدراسة، وظل يتساءل عن جدوى تعلم الفرنسية. خلال طفولته، تعوّد محمد أن يقضي معظم وقته إلى جوار عبد عجوز معتوق "لحسن" فضّل العيش في أحضان العائلة بدل الرحيل حسب صاحب كتاب "ستيفان سميت" "أوفقير: قدر مغربي".في قسمه بمدرسة بوذنيب، تلقّى أوفقير تعليما فرنسيا خالصا، وكان المعلم يلقن التلامذة أن فرنسا، عوض أن تكون غازية، جاءت لتزرع السلم في البلاد، وبفضلها، سيكون المغرب دولة عظيمة. وأصبح المغرب وفرنسا في ذهن أوفقير اسمين لا يفترقان، وبات يتمنى أن يصبح المغرب موحدا ينعم بالسلم، ومتحضرا وغربيا، كما كان يردد دائما، معلنا احتقاره للشرق العربي حسب "كلود كليمون" صاحب أول بيوغرافية للجنرال أوفقير تم نشرها.
في مدرسته استطاع طفل بودنيب التكيف والتأقلم بسرعة، وربط صداقة قوية مع إدريس الخياري بوكرين العروبي الطيب السخي، وكان الصديقان لا يفترقان. لكن سيعدم بوكرين على ومرأى ومسمع أوفقير، بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في الصخيرات، سنة 1971.

في آزرو، أحبّ أوفقير اللغة الفرنسية بشدة وتقنها، وصار معجبا بكتابات "موليير" و"فكتور هيغو" وغيرهما. بعد ثلاث سنوات، أنهى محمد أوفقير دراسته في “كوليج آزرو”، ضمن المتفوقين. خلال تلك الفترة، كانت الحرب العالمية الثانية مشتعلة، فتزايد الطلب الفرنسي على الجنود المغاربة للالتحاق بالجيش الفرنسي. وفي الوقت الذي تردّد كثير من زملائه في ولوج حياة الجندية، لم يجد أوفقير أيّ تردد في الالتحاق بالمدرسة العسكرية بمكناس، المعروفة باسم "الدار البيضا". علما أن خريجي هذه المدرسة العسكرية هم من سيشكلون العمود الفقري للجيش المغربي بعيد الاستقلال. وقد تخرّج منها، منذ أسسها المارشال ليوطي سنة 1918، كبار قادة الجيش المغربي، من قبيل امبارك البكاي، رئيس أول حكومة في تاريخ المغرب المستقل، ومولاي حفيظ العلوي، والكتاني، والدليمي، وإدريس بن عمر، والمذبوح، والصفريوي، وأعبابو، وحمو، والشنا وآخرون. هذه المدرسة هي التي تحوّلت، في ما بعد، إلى الأكاديمية الملكية العسكرية بمكناس.

وبدأت الأقنعة تسقط..

سجلت نهاية سنة 1971 تحولا حاسما بفعل صدمة انقلاب الصخيرات، وكان الهدوء السائد زمنئذ هشا وخادعا. سعى الخطاب الرسمي جاهدا إلى الطمأنة لكن القلق تفاقم في كواليس المخزن أكثر من أي وقت مضى. آنذاك انفضحت لعبة الأقنعة بين الملك والجنرال، وبات التعايش قائما فقط على الأسرار والعهود والاتفاق الضمني على التظاهر بالعيش في وئام، وبدأ مسلسل المجاملات والبرقيات الواضحة والمرموزة والتهديدات المغلفة. فمنذ تمرد الجيش عقد الملك العزم على قطع رؤوس مؤسسة الجيش، وذاك ما كان بإعدام الجنرالات، لكن بقي رأس واحد أكثرها تأثيرا، ولم تعد القضية إلا مسألة وقت وفرصة سانحة فقط بعد أن تراكمت أمام أنظار الملك الإشارة تلو الإشارة.

سمعة الجنرال تتحسن

باتت سمعة الجنرال محمد أوفقير تتحسن على أكثر من مستوى، وتأكدت حماسة فرنسا لتبرئته في قصية اغتيال المهدي بنبركة ، وتصاعدت شعبية الجنرال في صفوف الجيش بشكل ملفت للنظر، وبدا اهتمام الإمريكيين به أكثر من السابق . هذا إضافة إلى ود الجزائريين إليه على نحو متزايد، ففي 4 يوليوز 1972 ، استقبل الجنرال بالجزائر بشكل ومراسيم بدت للملك مبالغا فيها. وفي 14 يوليوز دُعي أوفقير رسميا من طرف السفارة الفرنسية بمناسبة العيد الوطني الفرنسي. في ذلك اليوم اختلى السفير بالجنرال بحضور "موريس شومان" وزير الخارجية في عهد "جورج بومبيدو" وشرحا له رغبة الحكومة الفرنسية في إيجاد حل لقضية المهدي بنبركة، وذلك بواسطة إصدار عفو رئيس الجمهورية، إذ يجيز له القانون العفو على كل شخص أسدى خدمات استثنائية لفرنسا (علما أن الجنرال خدم الراية الفرنسية 17 سنة). وفي منتصف يوليوز 1972، أي شهر قبل الهجوم على الطائرة الملكية، زار الوزير الفرنسي "موريس شومان" الرباط لإخبار الجنرال بأن العفو سيعلن عنه رسميا أثناء زيارة الملك المرتقبة حينئذ إلى باريس، إلا أن أوفقير رفض العفو لأنه اعتبره جاء متأخرا، علاوة على أن العفو لا يجري إلا على المجرمين ولا ينطبق عليه لأنه لم يقتل المهدي بنبركة.
وفعلا في غضون سنة 1972 شرعت فرنسا في مهادنة الجنرال أوفقير وتسربت أخبار مفادها جريان محادثات في أروقة وكواليس قصر "كي دورسي" وفي بعض الوزارات بخصوص رد الاعتبار للجنرال. وبعد حين أعلنت بعض الصحف الفرنسية عن نية الرئيس "بومبيدو" العفو عن محمد أوفقير. وبدا كأن باريس مستعجلة في تسوية هذه القضية على حين غرة ودون مقدمات. آنذاك عقد الملك الراحل الحسن الثاني العزم على زيارة فرنسا.

كان الجنرال يرغب في أكثر من العفو، كان يريد كشف الأدلة على مسؤولية ما كان يسمى بجهاز "SSS" في عملية اغتيال المهدي بنبركة، وهي ذات الأدلة التي كسفها لعبد الرحيم بوعبيد وعلال الفاسي وأطلعهما عليها – وقد قيل قام بذلك سعيا وراء إقناع المعارضة بتزكية الانقلاب- وحسب "كونزاليس ماتا" (عميل سري إسباني)، كان الجنرال قد حوّل ملفات سرية إلى سويسرا وضمنها تلك المرتبطة باغتيال المهدي بنبركة، وذلك من بنك بدريد إلى بنك بجنيف.

بداية نهاية شهر العسل

حسب ما انكشف من أمر العلاقة بين الملك والجنرال، بدأت الحرب السرية تأخذ مجراها وظهرت علاماتها بوضوح في مايو 1972. ومن علاماتها الأولى نازلة مروحية كان على متنها الجنرال، تحطمت الطائرة لكن الجنرال ظل حيا يرزق. كما قيل، إنه أثناء زيارة تافراوت فكّر الجنرال في النيل من الملك، لكن الراحل الحسن الثاني أفلت من الكمين لأنه دعا نجل محمد أوفقير لمرافقته. وحاول الجنرال إعادة الكرّة في الاستعراض العسكري والاجتماع الأسبوعي لقادة القوات المسلحة التي دأب الملك، القائد الأعلى، على عقدها في هيأة الأركان بالرباط وعوضها بجلسات عمل بقلب القصر.

في هذا السياق سبق للمعارض أحمد رامي – المقيم بالديار السويدية- أن أقرّ أنه اتفق مع الجنرال أوفقير بقتل الملك أثناء الاجتماع الأسبوعي بمقر هيأة الأركان بالرباط. إلا أن المحللين والمتتبعين أجمعوا على أن هذا القول عار من الحقيقة وأن قائله يرمي من ورائه إعطاء لنفسه موقعا ذا أهمية في المحاولة الانقلابية.

رغم كل هذا قام الملك بعدة زيارات مفاجئة للجنرال ببيته لأنه كان واثقا أنه لن يغدر به تحت سقف بيته، ألم يقل الملك الراحل الحسن الثاني في كتابه "ذاكرة ملك": "كان أوفقير رجل شرف".

في 14 مايو 1972، قرّر الراحل الحسن الثاني إقامة مأدبة غذاء مفاجئة بضواحي أكادير ولم يخبر الجنرال بذلك إلا في آخر لحظة. أرسل له مروحية لإحضاره رفقة الجنرال إدريس بنعمر. آنذاك حذره أحد معاونيه ومرافقيه من "العيونيين" ( أي من عين الشعير مسقط رأس الجنرال) لكن الجنرال صرف النظر عنه.

في ذلك اليوم اختار الملك التنزه وتناول الغذاء في الهواء الطلق بغابة تبعد عن أكادير بمسافة 40 كيلومتر بترعة قُطعت أشجارها لفسح فجوة في قلب الغابة كُسيّت بالزرابي والخيام "القيادية". وعلى بعد مسافة منها فُتحت فرجة أخرى كمهبط للمروحية الملكية بالقرب من كوخ حارس الغابة. كان من المفروض أن تحوم المروحية التي تقل الجنرالين لدى اقترابها وتهبط بشكل عمودي في الترعة المفروشة بطبقة من الرمل. أثار النزول العمودي زوبعة من الغبار أفقدت الربان الرؤية، فارتطمت المروحية بمدخنة الكوخ قبل سقوطها دون أن يُصاب الجنرالان بإصابات خطيرة. طلب أوفقير من أحد معاونيه، الذين كانوا في انتظاره بعين المكان (وهو الذي سبق أن حذره)، أن يجد له بدلة عسكرية ليتمكن من مقابلة الملك في حالة لائقة، لكن المساعد جدد تحذيره واقترح عليه العودة إلى حال سبيله، وبقي أوفقير مصمما إلا أن الجنرال إدريس بنعمر – حسب رواية رؤوف نجل أوفقير- تدخل لإقناع الجنرال وهو يدفعه داخل السيارة معلقا:" انصرف يا أوفقير... تفوح رائحة عملية مدبرة... لا تقلق بشأن الملك، سأذهب للقائه وأشرح له الأمر...". وبعث الملك مولاي حفيظ والدليمي برفقة طبيب يوغسلافي إلى أكادير لاطمئنان عن الجنرال أوفقير.

نازلة ستترك آثارها

كان الجنرال منذ مدة قصيرة قد أجرى مفاوضات سرية مع الجزائريين، وبعد يوم واحد من الحادثة زاره وفد جزائري بقيادة عبد العزيز بوتفليقة بعد خروجه من المباحثات الختامية مع الملك الحسن الثاني والتي لم يحضرها الجنرال. كان الوفد الجزائري قد غادر قصر أكادير، وفي طريقهم طلبوا اقتيادهم إلى المنزل الشاطئي الذي يقيم به الجنرال أوفقير الذي استقبلهم وهو يمشي بصعوبة. علم آنذاك أن كل ما كان قد تفاوض عليه الجنرال مع الهواري بومدين وكان الجزائريون مستعدين للتوقيع عليه قد أقبر في تلك المباحثات، مما ثار غضب أوفقير. وفي إحدى الجلسات بين الجنرالين، أوفقير وإدريس بنعمر، سمع رؤوف – نجل أوفقير- والده يُسرّ لصديقه قائلا: " طوال عامين، يا إدريس، وأنا أفاوض بومدين خطوة خطوة وبهدوء. وكنا قد توصلنا إلى اتفاق كان من شأنه أن ينزع كل خطر حدوث نزاع بين بلدينا. قلت لبومدين إنه إذا كانت الجزائر تطمع في الصحراء فذلك لكي تحقق حلمها القديم في أن يكون لها منفذ على الأطلسي لتصدير الغاز والنفط والحديد. وبموافقة الملك، اقترحت عليه تعاونا اقتصاديا، وكان يُفترض أن نتشارك في بناء خط سكة حديدية يربط الجزائر بمدينة العيون واستثمار مشترك في البنيات التحتية والسماح للسفن الجزائرية باستعمال الميناء مقابل أداء رسوم متفق عليها. كما اتفقنا على استثمار مشترك لاستغلال مناجم الحديد في "الجبيلات" والاشتراك في استغلال منجم الفوسفاط ، هذا شريطة أن تتخلى الجزائر عن أطماعها في الصحراء وأن تبيع لنا النفط بسعر مستقر وتفضيلي. لكن تم إعدام كل هذا من أجل منافع أمنية".

مرّة كان الملك الراحل الحسن الثاني بدار السلام، حضر الجنرال أوفقير وبعد لحظة طلب الملك من أحد الحاضرين (اكديرة، إدريس السلاوي، الفقيه القتدوسي، الجنرال م. حفيظ) سرد آخر نكتة تروج عن الجنرال أوفقير، ردف إدريس السلاوي بصوت مرتفع موضحا أنه على استعداد أن يتحمل أشدّ غضب ملكي على أن يجازف بإغاضة الجنرال. فهم الملك برواية النكتة.. "تم اكتشاف مومياء واعتكف أفضل أخصائي في العالم لمعرفة أصلها وفشل كل العلماء لبلوغ هذا المرمى، فقيل لهم أعطوها لأوفقير وستخبره من أين أتت"..فانفجر الحاضرون ضحكا لأنه لا يعقل أن يحكي الملك نكتة ولا يضحكون. في هذا اللقاء أهدى الملك للجنرال فهدا – علما أنه عُرف عن أوفقير عدم قبول الهدايا الثمينة، لكنه لا يمكن إحراج الملك – شكر الجنرال الملك وأخبره أنه سيطلق عليه أسم "صخيرات". تغيّرت ملامح الملك واستفسره عن سر اختيار هذا الاسم ، فرد الجنرال: "أولا لأنه اسم أحد قصوركم المفضلة، وثانيا اخترت ذلك الاسم حتى لا ينسى كل وزير من وزرائكم يزورني بإقامتي مأساة العاشر من يوليوز".

البرقيات المرموزة

ومن النوازل الدالة عن تكهرب الأجواء بين الملك والجنرال نازلة طائرة "فالكون 20" كما رواها نجل محمد أوفقير. بعد عودة الملك من أكادير إلى الرباط في مايو 1972 كلّف الجنرال محمد أوفقير بالتوجه إلى الجزائر لتسليم رسالة شخصية للرئيس الهواري بومدين. وكان من المفترض أن يسافر على متن إحدى طائرات القصر من نوع "فالكون 20". تحركت الطائرة وانطلقت من رأس المدرج قصد التحليق..تصاعد صفير محركاتها النفاثة وهي تتهيأ للإقلاع.. فجأة تقهقر الضجيج على حين غرة .. استدارت ورجعت إلى مكان وقوفها الأصلي بعيدا عن المدرج. صعد نجل الجنرال إلى الطائرة فرأى والده ممدا في الممر يتلوى ألما.. ثارت ثائرته واستشاط غضبا ..لكن الجنرال همس إليه قائلا: " لا تقلق، إنها مجرد مسرحية". لقد تظاهر الجنرال بأزمة حادة جراء ألم مبرح في كليتيه، وحال وصوله إلى بيته استدعى طبيبا صديقا له لاستكمال المشهد. آنذاك أرسل الملك الراحل والدته، الراحلة "لالة عبلة" لاستقصاء أحوال الجنرال والاطمئنان عنه.

فلماذا تظاهر الجنرال بالمرض في آخر لحظة وهو على وشك مغادرة التراب الوطني في مهمة كلفه بها الملك؟ يجيب نجله أن مخبرا حذر الجنرال قبل رحلته بأن الطائرة من المقرر أن تنفجر أثناء الطيران، ولضمان حياة المخبر وإبعاد الشبهة عنه لجأ إلى تلك الخدعة ليبدو الأمر مجرد صدفة.

بعد انقلاب الصخيرات – يحكي نجل الجنرال- كان كل حديث بين الملك ووزيره في الدفاع يتضمن برقيات مشفرة يوجهها كلاهما للآخر، سواء تعلق الأمر بحديث جدي أو هزلي. ففي فبراير 1972 حلّ الجنرال م. حفيظ والعقيد أحمد الدليمي يخبراه وزوجته أن معمر القدافي يتهيأ لاختطاف ابنتهما، مليكة، من باريس حيث كانت تقيم لإعداد شهادة الباكالوريا هناك. وقالا لهما أن الملك أمر بعودتها للوطن فورا.. وقد تلقى سفير المغرب العون من السلطات الفرنسية .. وقد تم تلافي أي خطر عليها". فرد الطنرال: "أخبرا جلالته بشكري على الاهتمام بأسرتي، وأني أعلم أنه يسهر على أمن أفرادها بكثير من العطف. وخيرا فعل حينما أخبرني لأنني أود معرفة نهاية هذه القصة، وإذا مسّ القدافي شعرة من أحد أولادي فسوف يموت". وبعد سنوات تساءل الكثيرون إلى من كانت موجهة الفقرة الأخيرة؟

لما عادت مليكة من باريس أبدت والدتها، فاطمة الشنا، قلقا كبيرا وقالت لزوجها:" ألا ترى يا أوفقير أنه كلما حاولت التقاط أنفاسك يشدد الملك الخناق عليك، إن نازلة تهديد القدافي مجرد اختلاق... منذ مدة لم يعد هناك بينك والملك. ومن الشرف والوفاء أن تخبره بذلك بصراحة وتهجر السياسة، واطلب مهمة عسكرية أو سفارة لترك هذه اللعبة والخروج من هذه الدوامة قبل فوات الأوان."
لم يستسغ الجنرال نازلة استهداف القدافي نجلته، فطلب من الرئيس بومدين أن يكون وسيطا بينهما. وما أن علم الرئيس الليبي الأمر بعث مرسولا تحت الحصانة الجزائرية للجنرال ليبلغه بأنه لم يفكر قط في المساس به أو بأسرته. بعد هذا اللقاء قال الدليمي للجنرال أوفقير:"لا تصدق.. القدافي أفعى وأتمنى ألا ترسل ابنتك ثانية إلى باريس"، فرد عليه قائلا: "شكرا بإتاحة هذا اللقاء ببيتك..وأبلغ احترامي وولائي لجلالة الملك". وفي مارس 1972 عادت مليكة أوفقير إلى باريس، وأبدى الملك استياءه لهذا الأمر لكنه لم يسع إلى ثني الجنرال عنه. وعلى امتداد هذا الشهر تزايدت زيارات الجنرال المتكررة والمفاجئة للقاعدة العسكرية الأمريكية بالقنيطرة ولقاءاته هناك بالكولونيل أمقران. كما كثرت زياراته للثكنات العسكرية في مختلف أرجاء البلاد.

استغلال كل الفرص السانحة

ومن النوازل أيضا ما نُقل إلى الملك الراحل الحسن الثاني أثناء انعقاد مؤتمر منظمة الاتحاد الافريقي بالرباط، حيث سأل أوفقير الرئيس بومدين وهو يرافقه في سيارته: "متى سننجز المغرب العربي الموحد؟" فرد عليه : "وقت ما شئت، لكن مغرب الرجال".
لم يكن الجنرال يترك مرور أي فرصة سانحة لإحراج الملك دون استغلالها. وفي هذا المضمار، في يوليوز 1972 ظهر الجنرال محمد أوفقير لأول مرة في احتفال أقيم في هيأة الأركان بالرباط ونقلته التلفزة. وكان الجنرال قد طلب من كل الضباط المدعووين حضور حفل العشاء رفقة زوجاتهم، وهذا ما أثار غضب الملك، فأقرّ بمنع وزرائه من الحضور رفقة زوجاتهم في الاحتفالات الرسمية. وفي نفس الفترة، احتفل الراحل الحسن الثاني بعيد ميلاده الثالث ةالأربعون في 10 يوليوز 1972 في ذات المكان الذي كان مسرحا لهجوم تلامذة مدرسة أهرمومو، بنفس البذخ والأجواء، وقام الملك بتكريم الناجين من مدبحة 1971 .

ومن النوازل، اهتمام الملك الراحل الحسن الثاني اهتماما خاصا بارتباط أبناء أوفقير بابن الراحل أبراهام السرفاتي، علي موريس. وأكثر ما أغاظ الملك الزيارات المتكررة لأبناء بعض المعارضين لقيلا آل أوفقير، وغالبا ما كان يعاتب الجنرال على ذلك، إلا أن أوفقير لم يول أي اهتمام للأمر ولم ينبه أبناءه أو يطلب منهم فك ارتباطهم بأصدقائهم الذين كانوا يزعجون الملك.

الجنرال والسياسة

في عهد الملك الراحل الحسن الثاني لا مكان لرجالات الجيش في الاهتمام بقضايا السياسة، إلا في ما ندر من الحالات التي كانت تجسدها وضعية الجنرال أوفقير دون سواه في تلك الفترة.إن تمرس محمد أوفقير في وزارة الداخلية وقبلها في الإدارة العامة للأمن الوطني أفسح أمامه المجال للانشغال بالسياسة وفق مفهوم محدد رغم أنه ظل مطاط، إنه محدد في الانتقاص من دور أحزاب الحركة الوطنية وتقليم أجنحتها، وهي التي كانت خرجت من معركة الاستقلال ذات نفوذ قوي، ومطاط باعتبار تمّ تمكينه من تجسيد مفهومه وفهمه للسياسة، مما ساهم في جعل وزارة الداخلية تصبح على عهده وما بعده أم الوزارات التي تتدخل في كل شيء وفي كل اتجاه.

وقد سبق للمستشار الملكي أحمد رضا اكديرة – صديق الملك الراحل الحسن الثاني – أن أكد ، أنه حين كان وزيرا للداخلية قبل الجنرال أوفقير، كان يريد لتمدد وزارته إلى المجال السياسي أن يكون بأدوات سياسية، وهذا ما دفعه إلى تأسيس "جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية" (الفديك)، وظل يحذر من سيطرة العسكر على المشهد السياسي، وقد أسرّ يوما لأحد مقربيه أن الجنرال أوفقير كان يتوق لتأسيس حزب سياسي. إلا أن طموحاته لم تسعفه في أن يصبح رجل سياسة.

ومما يحكى أن الجنرال سمع جاهر الراحل علال الفاسي يجاهر بأن مشكلة المغرب تكمن في أن خمسمائة أسرة هي من يستحوذ على كل خيرات البلاد، وسيغتنم أوفقير الفرصة للمطالبة برأس الزعيم الإستقلالي لشنقه في مكان عمومي، بسبب تصريحات قال فيها إن سيادة الشعب "لا يتصرف فيها"، وكان يغمز من اتفاق ترسيم الحدود بين المغرب والجزائر، وحين لم يجاريه الحسن الثاني في طرحه عمد إلى مهاجمة مطبعة الرسالة التي تصدر صحيفتي "العلم" و"لوبينيون" في شارع علال بن عبد الله الرباط، بهدف إخماد أنفاس صحافة حزب الاستقلال.

إلا أن الجنرال أوفقير نفسه سيحاول مرات عدة الانفتاح على أقطاب المعارضة، ولو أنه أمسك يوما بمسدسه ووجهه إلى رأسه في مجلس وزاري، وقال:إذا جاءت المعارضة إلى الحكم علينا أن نستعد إلى الرحيل. كما كان قد ردد يوما أمام أحد معارضي النظام لدى استنطاقه: " أنا معكم إذا نجحتم. أما إذا كان الفشل نصيبكم فستجدونني في مقدمة مناهضيكم بكل الوسائل". غير أن هذه الجلسة الدالة التي يبدو أنها لم تتسرب إلا بعد فوات الآوان كان في إمكان النطق بها، خارج سراديب الاستنطاق أن يغير كثيرا من الأشياء. إلا أن ذلك لم يحدث خوفا أو توجسا من أن تكون مجرد مناورة للإيقاع بالخصوم في فخ الاعتراف بما وقع وما لم يقع.

وسيدرك أوفقير أن موقعه في وزارة الداخلية لا يكفل تحقيق كل الطموحات، وهكذا، وبعد أن اطمأن الجنرال إلى سيادة القناعة بأن المذبوح كان وحده الرأس المدبر للانقلاب، أصبح أوفقير معنيا في غضون ذلك بحض الملك على قلب الصفحة من دون التمعن في قراءتها والانصراف إلى ترتيب البيت الداخلي.

في مطلع غشت 1971 قام الملك الراحل الحسن الثاني بتعيين حكومة جديدة عهد فيها بمنصب الوزير الأول إلى محمد كريم العمراني، فيما تولى الحاج محمد باحنيني وزارة العدل والأمانة العامة للحكومة، وأسندت وزارة الدفاع للجنرال محمد أوفقير الذي عين في الوقت نفسه "ماجورا عاما" للقوات المسلحة الملكية، قبل أن يلغي ذلك المنصب نهائيا في الحكومات المتعاقبة.

آنذاك جرى استقطاب بعض الأشخاص المحسوبين على المعارضة أو الاتحاد المغربي للشغل كوسيلة لتطعيم الجهاز التنفيذي بوجوه تحظى بالشعبية، غير أنه في الوقت الذي كان فيه الراحل الحسن الثاني بصدد المشاورات مع المعارضة، سار أوفقير قبله على نفس الدرب سبقه بطرق ملتوية، سعيا لتحسين صورته والتخفيف من سجله في البطش بالمعارضين.
وقد سبق لإدريس البصري أن فاجأ أحد جلسائه يوما بالثناء على أوفقير "كرجل دولة"، حيث نقل عنه القول: " إنه كان مسؤولا ولم يكن من رجال "الكارطون".
لكن البصري سيتنكر لرجال أوفقير بعد الإطاحة به، وحين سأله الملك الحسن الثاني يوما عن أحد المسؤولين الكبار بوزارة الداخلية، رد بأنه كان محسوبا على الجنرال أوفقير وقد تمت تنحيته، وقتها قال الملك بلهجة حازمة: "إن ذلك المسؤول يعرف شغله، لم أطلب إليك أن يمارس السياسة، لكنه يعرف كيف ينصب الخيام ويقيم الاحتفالات".

أرشيف الجنرال

بعد أن تكهربت العلاقة بين الملك والجنرال هرّب هذا الأخير جزءا مهما من أرشيفه من مكتبه وأودعه بداره بشارع الأمراء، حيث أضيف إلى أرشيف خاص طل يحتفظ به هناك بعيدا عن العيون اعتبارا لخطورته بفعل ما يتضمنه من حقائق متعلقة بأكبر الفاعلين السياسيين آنذاك، سواء الموالين منهم أم المعارضين. وعندما شعرت فاطمة الشنا بالخطر المرتقب، قامت باتلافه دون علم العيون المبثوثة في كل مكان والتي كانت تراقب فيلا الجنرال قبيل موته. فطوال ليلة 17 إلى 18 غشت، في ظل أجواء المراسيم الجنائزية توارت أرملة الجنرال من حين لآخر إلى غرفتها متذرعة بالإرهاق والتعب لتنسيق عملية إعدام محتويات الأرشيف من مخطوطات ووثائق ومنشورات وصور وتقارير. في تلك الليلة تناوب الأبناء وبعض أقرب المقربين على إحراقها. ودامت العملية إلى حدود الفجر. ولم تحتفظ الأرملة إلا بورقة ورسالتين وجدتهما في جيب إحدى البذل ارتداها الجنرال أياما قليلة قبل حتفه. كانت الورقة معنونة بــ "المجلس الوطني للوصاية" ، وتحت العنوان قائمة من الأسماء. ومن الوثاق التي تم إعدامها تلك الليلة صور أماكن ومعسكرات كانت تحت تصرف حزب الاستقلال تظهر أشخاصا يرتدون أكياسا من الخيش مثقوبة عند الرقبة أيديهم فوق رؤوسهم غارقون حتى ذقونهم في حفر مليئة بالبول والغائط ومياه المجاري النتنة وأحبال حول أعناقهم تربطهم الواحد بالآخر. وأيضا صور لدار بريشة التي كانت بمثابة مركز للاعتقال والتعذيب تحت إمرة الاستقلاليين، وكدا العديد من الصور تؤرخ لعمليات الاغتيال والتصفية الجسدية لخصوم سياسيين. كما تضمن الأرشيف المعدوم وثائق ومستندات تدل على الفساد الذي كان متفشيا وقتئذ، وتهم محسوبين على البلاط ومعارضين على حد سواء. ومن بين الملفات التي تم إحراقها، تلك المتضمنة لوثائق تفيد أن النواة الأولى "للكاب 1" تم إحداثها من طرف أول مدير للأمن الوطني في عهد الاستقلال – محمد الغزاوي- بتوجيه من قيادة الحزب، وكانت تضم عناصر محسوبين على المقاومة كُلّفوا بتصفية العديد من رفاقهم في السلاح.

وحسب أحمد رامي من بين أرشيف الجنرال الخاص تقارير عن الجيش والوضع السياسي بالبلاد والرأي العام السائد في الشارع، وكانت مودعة في خزينة حجيدية بغرفة نومه بإقامة السويسي. ولا علم لأحمد رامي ما إذا كان القصر قد وضع يده على ذلك الأرشيف أم أن الجنرال قد أتلفه قبل التوجه إلى قصر الصخيرات لمقابلة الملك. علما أن رؤوف، نجل الجنرال وأرملته، أقرّا أن العائلة وجدت آثار لحرق أوراق في حمام البيت.

حسب "غونزاليس ماتا"، عميل المخابرات الاسبنية، تمكن الجنوال أوفقير قبل 16 غشت 1972، من تحويل ملفات سرية من إسبانيا إلى سويسر وضمت تسجيلات جميع مباحثات أوفقير مع المعارضة والفرنسيين والأملريكيين، وكذا معلومات جوهرية حول قضية المهدي بنبركة وتشعباتها الدولية . وفي نهاية غشت 1972 يقول العميل الاسباني أتصل به أحمد الدليمي لاستعادة تلك الوثائق المهربة، إذ حاول مصحوبا برجاله وبمعية "فاطمة أوفقير" مزيفة" إقناع القائمين على البنك بتسليم تلك المستندات المهربة لورثة الجنرال، لكنه لم يتأكد من مآل العلمية. ومن المعلوم الجنرال محمد أوفقير كان على علاقة وطيدة بـالمسمى "سيمانكاس" العقيد في المخابرات الإسبانية. وقد عاين رؤوف، نجل الجنرال، يوما عملية تسليم محمد أوفقير صناديق تحوي ملفات وأشرطة تسجيل ومئات الصور الفوتوغرافية لعقيد المخابرات الإيبيرية.

لماذا أعد أوفقير للانقلاب الثاني؟

لقد تعددت الروايات بخصوص الدواعي التي كمنت وراء تفكير الجنرال أوفقير في القيام بالانقلاب الثاني، وهذه رواية من شأنها كشف بعض جوانب الوجه الآخر للجنرال.

حسب هذه الرواية، من الأمور التي ساهمت في الإسراع بالانقلاب الثاني، قيل أن الملك أراد في أعقاب انقلاب الصخيرات تكريس خالة أشبه بالوصاية الفرنسية على الجيش. علم الجنرال الأمر بواسطة بعض أصدقائه الفرنسيين. وقيل هذا من بين الأسباب التي سرعت في الإعداد لمحاولة 16 غشت 1972. وقد أقرّ نجل الجنرال أنه سمع والده يُسرّ للجنرال إدريس بنعمر: " قل لي أنني أحلم يا إدريس، يبدو أن المسار يتجه نحو وضع الجيش تحت إمرة ضباط أجانب.. أقسم أن ذلك لن يتم ما حييت.."

وحسب ذات الرواية، قيل أيضا أنه في إحدى الأيام بعد انقلاب الصخيرات جاء الملك إلى فيلا الجنرال لوحده على متن سيارته، بعد المجاملات التي فرضها الوضع، دعا الملك الجنرال أن يتبعه إلى الصالون وقال له: " تعالى علينا أن نتكلم". دار الحديث حول شائعات تشير لتواطؤ الجنرال مع مدبري الانقلاب الأول، وكان رد محمد أوفقير سريعا ، حيث قال ما معناه "إذا كان لجلالتكم أدنى شك في ظلك أو أقل ريبة، أنصحكم بقتلي بأسرع وقت ممكن..."

كانت هذه الزيارة هي الأخيرة من نوعها التي قام بها الملك الراحل لإقامة الجنرال، وحدث ذلك 15 يوما قبل الزيارة الملكية لفرنسا. علما أن الملك الراحل دأب على زيارة عائلة أوفقير بإقامتها بشارع الأمراء بصفة مفاجئة وعلى حين غرة دون حراسة مقربة وبروتوكول.
لقد سبق لمؤرخ المملكة عبد الوهاب بن منصورأن كتب يوما عن دعابة الجنرال أوفقير الذي فكر في تغيير اتجاه الطائرة التي كانت تقل الحسن الثاني لدى عودته من قمة نواذيبو التي جمعته إلى جانب الرئيسين الموريتاني المختار ولد دادة، والجزائري هواري بومدين في خريف 1970، قبل اندلاع قضية الصحراء. فقد جاءت شهادته بليغة، ولو أنها لم تتجاوز الإحاطة بدردشة انفلتت على لسان وزير الداخلية الجنرال محمد أوفقير، فقد كتب عن تلك الدعابة أن أوفقير حين فكر في تحويل اتجاه الطائرة الملكية، أشفع موقفه بالقول: "سنفعل ذلك لإجبار الملك على أخذ قسط من الراحة".

كما لم يدر في خلد أحد أن أوفقير سيقدم على التخطيط كان لأن تكون تلك الراحة أبدية، وأن ما سيقدم عليه الجنرال المذبوح في العاشر من يوليوز 1971، لم يكن سوى التنفيذ العملي لخطته غير المعلنة. ومع أن أوفقير لم يكن عسكريا في الطيران، فإن اختياره تنفيذ خططه في السماء سيكون لافتا. بين الاستراحة التي أرادها أوفقير عبر إكراه الملك على تحويل اتجاه طائرته إلى منتجع أوروبي وتحطيم الطائرة الملكية

وروى أحمد الدليمي لبعض مساعديه أنه بعد مرور أكثر من سنة على تورط الجنرال أوفقير في المحاولة الانقلابية الثانية في غشت 1972، أدرك بعد فوات الأوان لماذا كان أوفقير مصرا على إتلاف معالم الطريق أمام أي تحقيق جدي في خلفيات المحاولة الانقلابية الأولى وملابسات حادث الصخيرات، سيما وأن أوفقير لم يكن يغادر فصول الاستنطاق إلا ليغمض جفنيه قليلا في مكان غير بعيد عن دهاليز غرف التعذيب والاستنطاق، ثم يعود مفتوح العينين، مصرا على مواصلة العمليات من حيث انتهت، مخافة أن يكون تسرب شيء في غيابه.
وحكى أحد مساعدي الجنرال أوفقير أنه سمعه يوما يدعو إلى تمكين القوات المساعدة من كل وسائل العمل، وإن اقتضى الأمر مدها بالأسلحة. فقد كان مهتما بأن يجعل من تلك القوات نواة استخباراتية في البوادي، إضافة إلى مراقبة كل أشكال التحركات، بما في ذلك الأوضاع المحيطة بالثكنات العسكرية. فقد كان يريد أن يكون له ذراع آخر يعزز وضعيته كوزير للداخلية ومدير الأمن الوطني والمسؤول الأول عن الأجهزة الاستخباراتية التي كانت بصدد النشأة. وقد يكون مثل هذا التصور شجع الملك الحسن الثاني على أن يمنحه صلاحيات أوسع بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في الصخيرات.

بعد الانقلاب الثاني قد يكون الحسن الثاني تذكر في لحظة صفاء الذهن بعض التقارير التي وردت عليه إزاء احتمال تعرض نظامه إلى مخاطر، فحتى قبل مغادرته إلى باريس حضر من يخبره أن شيئا ما يدبر ضده، وعند محطة القطار في وسط العاصمة الرباط حين كان الوزراء يودعونه، شوهد الجنرال أوفقير وهو لا يكاد يحبس دمعة انسابت على خده. فهل كانت تلك دمعة ما اعتقد الجنرال أنه الوداع الأخير للملك ؟

وقتئذ لم يكن من السهل على المقربين إلى الحسن الثاني في ظروف مماثلة أن يصارحوه بكل ما يتناهى إلى علمهم من تجاوزات وتخطيطات ، فقد كانوا يخشون من بطش الجنرال أوفقير في تلك المرحلة، سيما وأن الحسن الثاني كان أكثر إصرارا عند توصله بأي معلومات على أن يدفع ناقلها والمعني بالأمر إلى مواجهات أمامه. وفي هذا السياق روى الدكتور عبد الكريم الخطيب أنه ذهب مرة إلى الملك يخبره بأن لديه معلومات حول تخطيط الجنرال أوفقير لشيء ما، فما كان من الحسن الثاني إلا أن واجه أوفقير بحضور الدكتور الخطيب قائلا: "أسمعت ما يقوله الخطيب، إنك تخطط لشيء ما ". طأطأ الجنرال رأسه وقال :
"إنهم يحسدونني يا مولاي على رضاك وثقتك في شخصي المتواضع" .

وربما أنه نتيجة هذا التقليد الذي كان يعتمد المصارحة، كان بعضهم يوثر حجب ما لديه من معلومات تلافيا لأن يجد نفسه في مواجهة الجنرال الذي عرف ببطشه وقسوته.

آخر يوم في حياة الجنرال

هناك جملة من المعلومات استقتها أكثر من جهة وأكثر من شاهد عيان رافق الجنرال وكان بجانبه في اليوم الأخير من حياته. ومن هؤلاء وصيفته بمنزله وحارسه الشخصي وسائقه.

في ليلة 15 إلى 16 غشت 1972، اجتمع الجنرال مع أمقران وكويرة بالدار البيضاء. وصل أوفقير إلى فيلاته بشارع الأمراء بالرباط في ساعة متأخرة من الليل – حوالي الثالثة فجرا- لم ينم، جلس بمكتبه يقرأ بعض المستندات والملفات وشرع في الكتابة ( تم الكشف بعد فواته أن الورقة ضمت أسماء وازنة وعناصر من الأسرة الملكية وسياسيين وعسكريين وهي ذات الورقة أن وصيفة الجنرال عترت عليها في جيب البذلة التي كان يرتديها ذلك اليوم، كما اطلع عليها نجله رؤوف).

وفي يوم 16 غشت 1972، عاد الجنرال نحو الساعة 11 زوالا إلى منزله بشاطئ تمارة. وبعد ثلاث ساعات تناول غذاءه رفقة المقدم حسن اليوسي - قائد قوات الأركان الجوية- والعقيد الدمناتي – مدير مكتب الجنرال وزارة الدفاع – والمقدم عروب ذراعه الأيمن في هيأة الأركان.

إن فترة مابين الساعة الرابعة وخمسين دقيقة زوالا والثانية عشرة والنصف بعد منتصف ليلة ذلك اليوم – اللحظة التي قتل فيها الجنرال تعتبر آخر 8 ساعات في حياة محمد أوفقير. فكيف مرّت لحظات هذه الفترة الزمنية؟

في الساعة الخامسة إلا عشر دقائق ظهر الجنرال بقاعة الشرف بمطار الرباط – سلا. صافح بعض الشخصيات كانت في انتظار وصول الطائرة الملكية. تحدث أوفقير للجنرال إدريس بنعمر وهما يمشيان على الممر المفروش بالسجاد الأحمر القاتم. جاء العقيد اليوسي ليعلم وزير الدفاع أن برج المراقبة أعلن للتو أن الطائرة الملكية ولجت المجال الجوي الوطني. مسك الجنرال كلا من بنعمر والصفريوي من مرفقهما وتحدث معهما لبضع ثوان، قبل أن يتوجه إلى برج المراقبة، ومن هناك تابع مجريات الأحداث عبر الراديو. بعد أن سمع ما دار من أحاديث بين الطائرات المقاتلة والطائرة الملكية توجه مسرعا إلى المدرج وتبادل حديثا مقتضبا مع الجنرال إدريس بنعمر ثم امتطى سيارته وغادر المطار رفقة اليوسي، آنذاك ظهرت الطائرة الملكية في سماء المطار متأهبة للنزول فقال الجنرال لرفيقه: " قلت لإدريس بنعمر أن يشرح للملك سبب غيابي .. اذهب أنت كذلك لاستقباله وأنا سأتوجه إلى هيأة الأركان". قبل مغادرة المطار سمع الجنرال عبر جهاز الاتصال المركب في السيارة العقيد ميمون أوبجا – قائد وحدة التدخل السريع وهو رجل ثقة الجنرال ومن أوفى أوفيائه- يقول: " أنا في انتظار أوامركم للتحرك والتدخل"، رد عليه الجنرال:" كلا..لم تعد حاجة للأمر.. ستكون صخيرات أخرى.. لا تتحرك يا ميمون.. هذا أفضل.." ، هذا ما رواه أحد مرافقي الجنرال من "العيونيين".

ظل الجنرال بهيأة الأركان حتى الساعة العاشرة والربع. اتصل مولاي حفيظ العلوي وأحمد الدليمي بالجنرال، فطلب منهما إخبار الملك أن النظام قد استثب وأن الوضع هادئ في عموم البلاد وأنه سيأتي إلى قصر الصخيرات لمقابلة جلالته.

آنذاك في "قبيلة" بالشمال كانت عائلة أوفقير تقضي عطلتها الصيفية..كان صالون الإقامة مكتظا بالزوار قدموا لاستطلاع الوضع من عقيلة الرجل الثاني في المملكة,,, ترددت لازمة أكثر من مرّة.. "لا داعي للقلق.. الجنرال موجود..لا يمكن أن يحصل شيء لجلالته وللمملكة..". كانت حاضرة لالة فاطمة الزهراء أخت الحسن الثاني وهي أول من أثنت على الجنرال محمد أوفقير.
هاتف الجنرال زوجته فاطمة الشنا التي كشفت فحواه وكان آخر حديث للجنرال مع عائلته.

"- الجنرال : ألو.. كل شيء على ما يرام يا فاطمة لا داعي للقلق..
- فاطمة: هل أنت متأكد من ذلك؟ .. الإذاعات الأجنبية تتحدث عن انقلاب عسكري..
- الجنرال: لا تقلقي، لقد استثب النظام ولا داعي للقلق..
- فاطمة: جاء أصدقاؤنا من آل "بينيت" بيختهم إلى حافة الشاطئ، ورغم هيجان البحر، يلحون على أن أرافقهم بمعية الأولاد إلى "سوتا"، لكن لم أتخذ أي قرار قبل أن أعرف أخبارك..
- الجنرال: كلا، لا تفعلي.. وإذا خشيت من أي شيء اذهبي برفقة الأولاد إلى عامل تطوان. (بعد صمت يضيف الجنرال) اطمئني يا فاطمة، كل شيء على ما يرام.. اعتني بنفسك وبالأولاد.. هذه مشيئة الله.. أقبّل كل واحد منكم.."

بعد المكالمة غادر الجنرال هيأة الأركان وتوجه إلى إقامته بشارع الأميرات.

تقول الوصيفة.. استحم الجنرال وحلق ذقنه ثم استقر بالشرفة لتدخين سيجارة.. طلب منها إعداد زيّه العسكري والسلة التي تحوي كل أوسمته وشياشينه والتي سبق وأن تخلى عن تعليقها منذ مدة – على الأقل منذ انكشاف قضية المهدي بنبركة – حيث أودع السلة بغرفة المهملات . أحرق وريقات في الحمام وأعدم شريط (قيل أنه تسجيل للكلمة الرسمية لتنحي الحسن الثاني لصالح ابنه، وكذا مداخلات زعماء المعارضة وكلمة ناطق باسم القوات المسلحة). طلب الجنرال من الوصيفة إعداد له حليبا وتمرا.. إلتجأ إلى ركن الغرفة ونشر سجادة وصلى..قبّل المصحف واستقرّ بحافة السرير لتثبيت الأوسمة والميداليات على صدره.. لمّع حذاءه بنفسه.. توجه إلى المرآة ثم حيّا نفسه تحية عسكرية في خشوع غير معتاد..طلب إحضار علبة مجوهرات زوجته سلّمها لصهره (بعل ابنة شقيقه) لتسليمها بدوره لزوجته فاطمة. جال الجنرال في المنزل وعاين المكان غرفة غرفة، وركنا ركنا.. توقّف مليا أمام صورة الملك محمد الخامس، حدّق فيها بحدّة ثم خرج إلى الحديقة وتوجه صوب المسبح وعاين كل ركن منه. لحظتئذ كان الجنرال على علم أن طائرة أمقران حطت بجبل طارق وأن كويرة بات في قصر الصخيرات بين يدي الملك. امتطى سيارته فهمّ حراسه "العيونيون" بمرافقته كالعادة، إلا أنه رفض وأمرهم بالعودة إلى بيوتهم بعين الشعير.. عانقهم فردا فردا وشكرهم على وفائهم وإخلاصهم وتفانيهم بعد طمأنتهم أنه لا يصرفهم إلا بضعة أيام إجازة. وفي طريقه إلى قصر الصخيرات طلب من سائقه التوقف قرب الشاطئ.. ترجّل الجنرال ووقف بجانب جرف صخري.. دخن سيجارة وهو يرنو للمحيط الأطلسي قبل استئناف مساره إلى القصر. في مدخل قصر الصخيرات تظاهر الحراس بعدم التعرف على سيارة الجنرال فقاموا بتفتيشها من الخارج والداخل على غير عادتهم.. كانت الحراسة على غير المعتاد، يوجد على بعد كل 10 أمتار هناك شبح رجل حاملا جهازا لاسلكيا لتبليغ تحركات الجنزال في كل لحزة وحين.. أراد السائق والمرافق النزول من السيارة إلا أن أوفقير أثناهما عن ذلك وصافحهما الواحد تلو الآخر قائلا بالأمازيغية ما معناه "أن يعيش المرء أسدا يوما واحدا، خير له من العيش ابن آوى طول حياته". غادر الجنرال المرآب رفقة مولاي حفيظ والدليمي. لم يتسرب أي شيء عما حدث آنذاك، ما عدا شهادة آسية العلوي – زوجة مولاي أحمد العلوي الوزير الدائم بكل حكومة العهد الحسني- والتي أسرت بما تعلم لأرملة الجنرال حين قابلتها في الجنازة لتقديم التعازي.

في الساعة الواحدة والربع ليلا توقفت سيارة إسعاف تابعة للأمن الوطني تقل جثمان الجنرال بمدخل إقامته بشارع الأميرات. آنذاك كان سائقه ومرافقه مازالا ينتظران بمرآب القصر، وفي الساعة الواحدة والنصف قدم إليهما مولاي حفيظ وأخبرهما أن الجنرال غادر القصر من الباب الآخر رفقة صديق بعد لقاء الملك ويطلب منهما اللحاق بإقامته.

يوم الهجوم على الطائرة الملكية

يوم الهجوم على الطائرة الملكية ردد الملك الحسن الثاني  ببهو مطار الرباط سلا سؤالا أكثر من مرة. هذا السؤال وطأت قدماه أرضية المطار .

في مساء ذلك اليوم - السادس عشر من غشت 1972 - هبت فيه على العاصمة الرباط جو رمادي قاتم، ورغم تعرض الطائرة الملكية لهجوم مقاتلات "إف 5"، حرص الملك الحسن الثاني على التقيد بقواعد البروتوكول والتي شملت تحية العلم ومصافحة مستقبليه، كما لو أن شيئا لم يحدث. لكن علامات الدهشة والحيرة ظلت بادية على محيا الجميع بفعل المحنة الخاطفة والخانقة، التي خرجت منها الطائرة الملكية بعد نزولها على أرضية المطار بشبه معجزة.

ذلك اليوم ظل الملك الحسن الثاني يسأل عن الجنرال أوفقير وعمن أصدر أوامر قصف طائرته. في قاعة الشرف بالمطار بقي الملك يسأل: "أين الجنرال أوفقير وزير الدفاع؟"، لحظتئذ كان هذا السؤال يختزل كل الأجوبة. آنذاك كان الجنرال أوفقير قد غادر المطار للتو، دون إشعار أي طرف، إذ تسلل ولم يعد يظهر له أثر.

في هذا اليوم تمّ انتهاك مرّة أخرى القاعدة الفلادية العسكرية - الانضباط العسكري- وكانت محاولة انقلابية ثانية على قدر أكبر من التخطيط ، بعد لم يمض على المحاولة الانقلابية الفاشلة الأولي في قصر الصخيرات غير عام وبضعة أسابيع. مما سيدفع إلى الاعتقاد القوي بضلوع بعض الشخصيات الأقرب إلى محيط الملك و التي تحظى بثقته. و كانت هذه المحاولة الثانية، يقول البعض تقضي بإسقاط طائرة الملك الحسن في عمق البحر أو عند جبال وشعاب المنطقة الشمالية المعروفة بتضاريسها الصعبة. في حين ذهب البعض الآخر إلى القول إنها كانت تقضي بإرغام الطائرة الملكية على الهبوط بمطار القاعدة الجوية العسكرية الثالثة بمدينة القنيطرة ثم اقتياده إلى مقر الإذاعة للتنازل على العرش، و يتم بعد ذلك تنصيب مجلس وصاية على العرش، بقيادة الجنرال محمد أوفقير الذي سيصبح في إمكانه بسط سيطرته النهائية على الحكم.

في أجواء مدينة تطوان ذلك اليوم كان الموقف، على مثن الطائرة الملكية المستهدفة بذخيرة مقاتلات "إف 5"، امتحانا عسيرا للإنسان وقدرته على الصبر التي فاقت كل الاحتمالات. تجلد الملك الحسن الثاني بكل ما أوتي من رزانة ورباطة جأش، ثم طلب إلى ربان الطائرة القباج إخبار الطائرات المغيرة وبرج مراقبة القاعدة الجوية التي انطلقت منها، أن الملك أصيب إصابة خطيرة في الرقبة جراء الطلقات النارية، وأن حياته مهددة جدا. وكان الهدف يروم ثني المهاجمين عن معاودة استئناف الهجمات وإمطار الطائرة الملكية بالرصاص، خصوصا بعد إصابة محركي الطائرة بعطب كاد يكون قاتلا.

عندما عاودت مقاتلات "إف 5 " قصف القاعة الشرفية كان الملك الحسن الثاني يهم بمغادرة المطار على متن سيارة صغيرة عادية ، توقف سائقها نتيجة القصف، وحين رأى الملك الحسن الثاني شخصيا، سلمه المفاتيح. واختار الحسن الثاني أن يركب السيارة العادية رفقة العقيد أحمد الدليمي دون سواه ، واتجها بعيدا عن الموكب الرسمي. في حين لجأ الأمير الراحل مولاي عبد الله – شقيق الماك- إلى قرية صغيرة بضواحي المطار، حيث مكث بها ضيفا على أسرة بسيطة إلى حين انجلاء الموقف، وهذه القرية ستحمل "القرية" بعد أن أصبحت تشكل الجزء الشرقي لمدينة سلا.

أوفقير والدليمي وقضية بنبركة

كان الحسن الثاني يرى في العقيد أحمد الدليمي الرجل المناسب للقيام بأي مهمة أمنية تدفعه إلى الواجهة، فهو لم يكن على وئام مع الجنرال محمد أوفقير وزير الداخلية، وقد جاء تعيينه في منصب المدير العام الوطني خارج رغبة أوفقير، غير أنه لا بأس من أن تبدأ مرحلة الفراق بين الرجلين الشريكين في قضية المعارض المهدي بن بركة. فكل منهما ظل يتهم الآخر، وفيما استطاع الدليمي أن ينتزع براءته من محكمة الجنايات الفرنسية في ظروف يكتنفها المزيد من الفوضى، بقي الجنرال أوفقير يئن تحت الحكم الذي صدر ضده بالسجن المؤبد. وسيقول الجنرال أوفقير لأحد مساعديه يوما إن ما يحزنه في ذلك الحكم ليس إدانته فقط، ولكن منعه من زيارة باريس التي كان له فيها أصدقاء ومعارف وحدث مرة أنه احتسى المزيد من كؤوس الخمر الرفيع ورفع كأسه قائلا: في صحة الأيام الجميلة، يوم كانت باريس مربط الخيل.

سيظل بدوره يقتنص اللحظة للإيقاع برئيسه السابق محمد أوفقير.

رغم أن للحديث بقية لا مناص من الختم
لا أحد يدري الأفكار والهواجس كانت تراود الجنرال محمد أوفقير وهو يتجه نحو مصيره، مثل أي قائد عسكري شغوف مني بالهزيمة.، رغم أنه لم يكن يحارب جيشا نظاميا أو فلول حرب عصابات. 
تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -