حكاية التحدي المغربي: حين انكسرت أطماع العثمانيين على صخرة المغرب
في قلب القرن السادس عشر، كانت إمبراطورية آل عثمان في أوج زحفها، تلتهم المدن واحدة تلو الأخرى: مصر سنة 1517، الجزائر سنة 1515، ثم ليبيا وتونس لاحقًا. بدا وكأن شمال إفريقيا بأسره سينزلق تحت جناحهم… إلا أن في أقصى الغرب، في بلاد الأطلس، كانت هناك صخرة صلبة اسمها المغرب الأقصى، وعلى تلك الصخرة تحطمت كل أحلام السلاطين العثمانيين.
من رحم السوس، بزغ نجم رجل لا يهاب السلاطين ولا الجيوش، اسمه أبو عبد الله محمد الشيخ، سلطان سعدي لا يعترف بغير الاستقلال عنوانًا. سنة 1550، دخل فاس منتصرًا، طاردًا بني وطاس الذين انحنوا للعثمانيين، وجعلوا خطبهم باسم السلطان سليمان القانوني. لكن الشيخ لم يكتفِ بهذا النصر، بل نظر شرقًا… إلى الجزائر، القاعدة العثمانية الكبرى، وقرر مواجهتهم في عقر دارهم.
توجه بجيشه إلى تلمسان، فحاصرها تسعة أشهر كاملة، ضحّى خلالها بولده البكر الحران، ثم دخلها فاتحًا سنة 957 هـ، مطاردًا الأتراك منها، وبسط سلطانه حتى وادي شلف. كانت مملكته تتسع، وأحلامه تكبر… لكن الريح لم تسر كما شاءت سفنه.
العثمانيون لم يسكتوا. هاجموه مجددًا وأعادوه من تلمسان، لكن الشيخ لم ينهزم، بل عاد إليها مرة ثانية حين تمرد أهلها على الأتراك، إلا أنها استعصت عليه، ليتركها بعدها للأبد. وفي المقابل، كانت فاس تنتظر فصلًا جديدًا من المعركة. حليف العثمانيين، أبو حسون الوطاسي، عاد على رأس جيش عثماني، فانتزعها من يد الشيخ. لكن هذا الأخير ما لبث أن انتفض، جمع قبائل السوس، وزحف من جديد، حتى قتل غريمه واستعاد المدينة في ملحمة حاسمة سنة 961 هـ.
أدرك السلطان السعدي آنذاك أن العثمانيين ليسوا مجرد خصوم… بل هم الخطر الأكبر، والعدو الذي لا يهدأ. كان يردد – كما روى المؤرخ الناصري – أنه سيغزو مصر ويطرد العثمانيين من أرضها، وكان لا يخفي احتقاره للسلطان سليمان القانوني، ويسميه بـ"سلطان الحواتة" (القوارب) لسفره المتكرر بالأساطيل.
ولما سقط حلفاء العثمانيين بالمغرب، حاول القانوني أن يستميل الشيخ باللين، فأرسل إليه رسائل تهنئة ومطالب بالدعاء له على منابر المساجد، كما كان يفعل الوطاسيون. لكن رد السلطان السعدي جاء صاعقًا: "لا جواب لك عندي حتى أكون بمصر إن شاء الله، وحينئذ أكتب لسلطان القوارب". وأُهين رسول السلطان العثماني، فعاد مذهولًا إلى إسطنبول.
في البلاط العثماني، اشتعل الغضب. ولكن بدلًا من تجهيز الجيوش، اختار العثمانيون طريق الغدر. عقد ديوانهم خطة سرية لاغتيال السلطان المغربي، واختير لها 12 فتاكًا، جُهزوا بالذهب والسلاح، وأُرسلوا إلى الجزائر ومنها إلى فاس، ثم إلى مراكش، متخفين في زي تجار، حتى استضافهم رجلهم داخل الدولة: صالح الكاهية، قائد في جيش الشيخ.
بذكاء وخبث، أقنع صالح السلطان أن هؤلاء المنشقين فروا من حكم القانوني، راغبين في خدمته. فاحتفى بهم، وأغدق عليهم العطايا، وأدخلهم عليه كل صباح لتقبيل يده… إلى أن حانت لحظة الخيانة.
في إحدى ليالي سنة 964 هـ، بينما كان السلطان يخيم في جبال درن، دخلوا عليه خباءه وذبحوه بغتةً بفأس غادرة، فصلت رأسه عن جسده، ووضعوه في مخلاة مع نخالة وملح، وهربوا به ليلًا عبر دروب الظلام.
نجح بعضهم في إيصال الرأس إلى إسطنبول، حيث عُرض بفخر فوق باب القلعة، في شبكة نحاسية، كتذكار لانتصار الغدر على الشجاعة… أو هكذا ظنوا.
لكن الحكاية لم تنتهِ.
من رماد القتيل، نهض ولده أبو محمد عبد الله الغالب، فجمع الجيش، وحين حاول العثمانيون استغلال الفوضى لإرسال حملة جديدة، كانوا في انتظار مفاجأة دامية. فقد وجدوا أمامهم سلطانًا جديدًا، جاهزًا، صارمًا، لا يقل شراسة عن والده. كان المغرب الأقصى قد دفن رجله العظيم، لكنه لم يدفن روحه… بل أورثها لأبنائه، الذين أقسموا أن لا يرفع فوق منابرهم اسم غيرهم.
وهكذا، ظل المغرب عصيًّا على العثمانيين، كما كان عصيًّا على كل غازٍ من قبلهم.
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.