«لم يكن مفتخرا بارتداء البذلة العسكرية والسبب أن مساره العسكري كان متواضعا رغم أن اسمه الجنرال مولاي حفيظ العلوي. من فرنسا عاد عسكريا ووُضع باشا على رأس مدينة سطات. وكان مقر الباشوية شاهدا على حشد مولاي حفيظ للأنصار حتى يوقعوا على عريضة نفي محمد الخامس.. بعد ذلك سيصبح بدون مقدمات واحدا من أقرب الناس إلى الملك الحسن الثاني، ويكون وزيرا استثنائيا للتشريفات والأوسمة، ويعزف على انفراد مقطوعة مخزنية يُفرض على كل الداخلين إلى القصر الانحناء لها. مولاي حفيظ العلوي.. القصة الأخرى.
صارف الأجور والهبات الملكية وعدو العائلات العسكرية
من رآه في البذلة العسكرية، أدرك سريعا أن مسار مولاي حفيظ العلوي سينتهي مبكرا. يقال إنه لم يكن مناسبا للحياة العسكرية، بقدر ما كان يبحث عن حظوة في الجيش الفرنسي، تخول له تبوء منصب مهم بعد المغادرة، شأنه شأن آخرين مروا من تجربة التجنيد مع الجيش الفرنسي، وأصبحوا بعد الاستقلال موظفين في الدولة.
بعض الوزراء المغاربة القدامى، حتى لا نقول أغلبهم، كانوا يكنون له كرها كبيرا، بسبب الحظوة التي تمتع بها لدى الملك الحسن الثاني، فقد التحق بالقصر مبكرا، ليصبح من الملازمين الدائمين للملك في كل سفرياته داخل وخارج المغرب. الأمر لا يتوقف فقط عند كونه مسؤولا عن البروتوكول بالقصر، بل يتجاوزه إلى الحظوة الخاصة التي كان يتمتع بها لدى الملك، ليتحول إلى أكثر من موظف سام أو وزير.. ويصبح ضمن اللائحة النهائية ضمن مرافقي الملك الذين يلازمونه في كل مكان.
الجنرال مولاي حفيظ العلوي يعد العدو الأكبر لفاطمة الشنا زوجة الجنرال أوفقير. فبعد هروب أبنائها من السجن بعد سنوات من الاعتقال منذ انقلاب سنة 1972، وخروجها بدورها من السجن، وجهت اتهامات خطيرة للجنرال مولاي حفيظ العلوي وقالت أكثر من مرة أنه مسؤول مباشر عن سوء المعاملة التي تلقتها هي وأبناؤها، وذكرت مرات كثيرة أن مولاي حفيظ العلوي كان ينتظر فرصة سقوط أوفقير لينتقم منه ومن محيطه وأسرته، حتى أنها وجهت له اتهاما مفاده أن مولاي حفيظ العلوي تصرف في بعض ممتلكات أوفقير مباشرة بعد تنحيته.
ورأى آخرون في الجنرال مولاي حفيظ العلوي خطرا كبيرا عليهم، لأنه كان يحظى بالثقة الملكية، حتى أن حكاية تروى عنه تقول إن أحد الشخصيات توجه إلى الملك الحسن الثاني خلال سنوات الستينات، وبعد انتهاء اللقاء أصدر الملك أمره بتمتيع الضيف بهبة ملكية سخية لمساعدته على تحمل أعباء الحياة، وكلف الجنرال مولاي حفيظ العلوي بتدوينه حتى تصرف له أجرته الشهرية بانتظام. كان مولاي حفيظ العلوي يسهر خلال الأشهر الأولى على إيصالها بنفسه إلى صاحبها، لكنه بعد فترة انقطع عن صرفها للمعني بالأمر. هذا الأخير استفسر من المقربين من الملك عن الأمر، ونصحه بعضهم بالاتصال بمولاي حفيظ العلوي للحصول على تفسير بخصوص الأجرة المجمدة، لكنه لم يحصل على أي جواب من الجنرال، ونصحه آخرون يعرفون كيف تجري الأمور، بنسيان تلك الهبة الملكية ما دامت تصل إليه عن طريق الجنرال مولاي حفيظ العلوي.
وحتى عندما كان باشا بسطات، عرف عنه أنه كان يقبل الهدايا السخية التي كان يحملها له بعض الأعيان، خصوصا منهم الذين كان أبناؤهم يسجنون على يد السلطات الفرنسية على خلفية علاقتهم بحزب الاستقلال أو المقاومة عموما.
مولاي حفيظ العلوي كان نافذا، ووحده كان يملك صلاحية إخراج أبناء المعنيين من السجن، بصفته باشا مدينة سطات، العسكري سابقا مع فرنسا، وموظفها المخلص في جهة سطات. وهكذا كانوا يجزلون له ويبالغون في تقديم الهدايا، علهم يحركون عطفه ويمتثل لطلبات كثيرة لم تكن تتوقف، الهدف منها إخراج أبنائهم من السجون الفرنسية قبل عرضهم على المحاكم.
بعد أن أصبح الجنرال وزيرا للتشريفات والأوسمة، لم يتغير شيء من عمق شخصيته، حتى أن البعض قالوا إنه كان باشا في جلباب الوزير. وآخرون استغربوا كون الجنرال مولاي حفيظ العلوي لم يكن يحب ارتداء البذلة العسكرية حتى في المناسبات التي يفتخر فيها العسكريون المغاربة بانتمائهم العسكري، ويتفننون في استعراض النياشين العسكرية التي حصل عليها أغلبهم خلال فترة قتالهم إلى جانب القوات الفرنسية خلال الحرب العالمية الثانية، ضد ألمانيا.
لم يقو أحد على سؤاله يوما عن سر اختياره الجلباب المخزني في جميع المناسبات أو البذلة الرسمية في مناسبات أخرى، وتهربه من البذلة العسكرية التي يفترض فيه أن يكون سباقا إلى ارتدائها، خصوصا خلال السنوات التي كان فيها المشهد السياسي بالمغرب عسكريا بامتياز.
الجنرال مولاي حفيظ العلوي عدو الوزراء في أكثر من مناسبة، حتى أن بعضهم لم يكونوا يطيقون وجوده بينهم، لأنه كان يضع نفسه في مرتبة مرتفعة عن الحكومة، وكأنه لا ينتمي إلى عالم الوزراء رغم أنه وزير لكل الحكومات. والحقيقة أنه كان وزيرا فوق العادة، ولم يكن منصبه الوزاري إلا نوعا من البروتوكول فقط، بينما الحقيقة كانت أنه من خدام المخزن الأوفياء، وامتدادا لتقليد قديم، اختار له الحسن الثاني أن تكون له وزارة خاصة به.
لم يسلم مولاي حفيظ العلوي من انتقادات المعارضة، وهو ما جعله يضرب سدا بينه وبين رموزها حتى بعد وصول بعضهم إلى كراسي الوزارات. فسّر البعض الأمر على أنه مركب نقص كان يشعر به هذا الوزير القوي أمام المثقفين الذين جاء أغلبهم إلى الوزارات من الجامعات، لكنه كان في الحقيقة بسبب الحظوة التي امتاز بها ليكون وزيرا فوق العادة، اختار أن يجعل لنفسه عالما خاصا يختلف عن بقية الوزراء.
للجنرال مولاي حفيظ العلوي قصة مثيرة مع عز الدين العراقي أيام كان وزيرا للتعليم. فقد اتخذ الوزير وقتها إجراء اعتبره الكثيرون مجحفا، عندما قرر وقف أجور بعد العلماء الذين كانوا يشتغلون في التعليم العتيق، بدعوى أنهم غير تابعين لوزارة التعليم.
بعد هذا الإجراء، اختار بعض هؤلاء العلماء الذين كان أغلبهم على علاقة طيبة وقوية بالملك الحسن الثاني، أن ينظموا وقفة احتجاجية أمام مقر وزارة عز الدين العراقي، لكن واحدا من بينهم اختار أن يلجأ إلى الملك شخصيا عوض تضييع الوقت في الاحتجاج الذي لن يؤدي إلى أي نتيجة.
توجهت مجموعة العلماء المتضررين إلى باب القصر الملكي بالرباط، وطلبوا لقاء الملك، لكنهم أخبروا أن الملك يوجد خارج القصر، وأنه يقضي فترة في قصر مراكش، وبدل أن يعودوا أدراجهم، استقبلهم مولاي حفيظ العلوي في مكتبه الخاص بعد أن علم أن من بينهم أشخاصا يقدرهم الملك الحسن الثاني وقد يغضب إن علم أن أحدهم جاء إليه ولم يستقبله أحد.
رفع الجنرال مولاي حفيظ العلوي سماعة هاتفه فور علمه بقصة هؤلاء العلماء، وسأل عز الدين العراقي عن سبب إيقافه لأجورهم بعد أن عينهم الملك معلمين في دار الحديث. وقبل أن يسمع جواب عز الدين العراقي، قال له مولاي حفيظ العلوي إن الملك من أنشأ دار الحديث، وهو الوحيد المخول له التقرير في قطع «المونة» عن المشتغلين بها، وقطع الخط.
صرامة مولاي حفيظ العلوي كان يستمدها من قربه من الملك الحسن الثاني، حتى لو تعلق الأمر بقرار وزاري، لأنه كان يعلم أن التشريفات والأوسمة لم تكن أبدا وزارة، بل كانت ملحقة للقصر وسط الوزارات الأخرى.
رُويت عن مولاي حفيظ العلوي روايات كثيرة عن تعامله الفظ مع كثير من السياسيين ورفضه لأنصاف الحلول أو المشاورات. لم يكن يقبل أن يفاوضه أحد في القرارات لأنه لم يكن أصلا يتشارك فيها مع أحد. كان يتلقى تعليماته من الملك الراحل، وكانت وظيفته أن يكرّس التقاليد المخزنية، وهو أمر كان يبرع فيه كثيرا، وربما هو السر الذي جعله يحتفظ بالوزارة دون أن تسقطه منها الزلازل الوزارية.
يريد الكثيرون أن يحيطوا شخصيته بكثير من السلطوية والأسطورية، والحقيقة أنه كان محظوظا بوجوده داخل تقاطعات حاسمة من تاريخ المغرب. حتى أن بدايته كانت أقل من عادية، وكان ممكنا أن ينتهي كالكثيرين ممن حملوا السلاح مع فرنسا، وعادوا دون إنجازات تُذكر.
حتى لا نسقط في إحاطة شخصية الجنرال بالهالة التي أحاطه بها أغلب من عرفوه أو اشتغلوا فترة بالقرب منه، وهؤلاء بالغوا في وصف قسوته إلى الحد الذي بدا معه الجنرال مولاي حفيظ العلوي أكثر بأسا من الجنرال أوفقير أو المذبوح، والحقيقة أنه «كان أقل من عسكري، وأكثر من وزير» كما برع في وصفه أحد العالمين بخبايا محيط الملك الحسن الثاني عندما كان واحدا من أعضائه قبل أن يترك كل شيء نهاية السبعينات، ويحتفظ بصداقات معدودة على رؤوس الأصابع مع آخرين.
وقع مرة أن مولاي حفيظ العلوي، سمع عن غضبة ملكية بسبب معلومات مغلوطة وصلت إليه عن طريق وزارة الداخلية وعن طريق المخابرات، مفادها أن سكان الريف يريدون تأسيس دولة مستقلة عن المغرب، فأعطيت الأوامر العسكرية للتأهب لاحتواء الأوضاع، فكان أن مولاي حفيظ العلوي توجه إلى المسؤول العسكري الذي أعطيت له تعليمات حتى يكون على رأس الفرقة العسكرية التي كان عليها أن تتحرك إلى الريف، ويمتعه بعطلة مرضية حتى لا يذهب على رأس تلك الفرقة التي تتقدمها الدبابات. وفسر مولاي حفيظ العلوي الأمر في ما بعد بأن المحيطين بالملك، وكان هو واحدا منهم، يبالغون في نقل المعلومات إليه لتصفية حساباتهم في ما بينهم، وأن الغضبة الملكية ستهدأ لاحقا، ولا حاجة لرئيس فرقة عسكرية بتكبد العناء.
عندما يسمع أحد الذين طالتهم قسوة مولاي حفيظ العلوي هذه الرواية، يتقلب ضحكا، لأن الوجه الآخر للجنرال مولاي حفيظ العلوي، وما أكثر ضحاياه، يستحيل أن يصدق أن الجنرال قد يفكر استباقيا في احتواء غضبة ملكية ما، لأن مولاي حفيظ، حسب هؤلاء، كان مجتهدا في إذكاء الصراعات حول الحلبة المخزنية، حتى ينشغل خدام المخزن بضرب بعضهم، بدل أن يفكروا في إزاحته، هو الذي كان البوابة الوحيدة المفضية إلى مكتب الملك الحسن الثاني.
باشا سطات.. والحياة العسكرية التي لا يفتخر بها الجنرال
أبناء سطات القدامى يعرفون جيدا أن مولاي حفيظ العلوي بدأ كل شيء من هناك. ولولا سطات ربما لما كان.
بدأت حياة مولاي حفيظ العلوي، عندما تدافع مع أقرانه من الشباب في صف طويل ليصعد إلى شاحنة، أوصلتهم إلى الميناء، ليتلقى أول التعليمات العسكرية ويتدرب على خوض الحروب، وتصقل فيه فرنسا شخصية قاسية لا تختلف كثيرا عن شخصية الجنرال أوفقير وغيره من الأسماء العسكرية التي تقلبت في المناصب الكبيرة.
الحقيقة التي ظل مولاي حفيظ العلوي يتهرب منها، أو يسبقها إلى الأمام في كل مناسبة، هي إنجازاته العسكرية، لأنه كان بدون إنجازات، وهذا الأمر، كما يؤكد الكثيرون، كان عقدة كبيرة بالنسبة له، خصوصا أمام الجنرال أوفقير ومبارك البكاي، والجنرال المذبوح أيضا، خصوصا خلال سنوات الستينات. حصل هو الآخر على رتبة جنرال، لكنه لم يعش في البذلة العسكرية ولم يظهر بها، وتبرأ منها لأنها لا تشكل له أي مجد شخصي يمكن أن يفاخر به أمام الناس.
حتى قبل أن يصبح جنرالا، عاد مولاي حفيظ العلوي إلى المغرب، رجلا مختلفا عن ذاك الذي كانه قبل الصعود إلى الشاحنة مع غيره من المتدافعين. لم يعد نكرة، لأنه كان يحمل توصية من رؤساء عسكريين، توصي بتوظيفه في «المخزن» لأنه كان متعلما، على عكس الكثيرين الذين حملوا السلاح وقاتلوا إلى جانب فرنسا، وعادوا، إن كانوا محظوظين كفاية، كما ذهبوا تماما.
هكذا أصبح مولاي حفيظ العلوي اسما معروفا في مدينة سطات، لأنه تبوء منصب الباشا. وهنا سيتعرف قدماء سطات على نوع جديد من السلطة. جمع بين القسوة التي استمدها من الانضباط العسكري الصارم، ونبذ الحاشية إلى درجة أنه لم يكن يقرب منه أحدا من المسؤولين أو الفقهاء، كما كانت عادة باشاوات كثيرين.. وهكذا أصبحت سطات كلها مختزلة في شخصية مولاي حفيظ العلوي، الذي راج كثيرا أن هناك روابط أسرية قديمة ومتباعدة، تجمعه بالعائلة العلوية، وهو ما جعله باشا فوق العادة.
يوم جمع مولاي حفيظ الأعيان للتوقيع على نفي محمد الخامس!
يقول البعض إن الجنرال مولاي حفيظ العلوي، أيام كان باشا، كان يمثل ظل فرنسا في الأرض. كيف لا يكون منحازا للسياسة الفرنسية وقد جاء في نفس الفترة التي جاء فيها المحجوبي أحرضان ليتزعم قبائل الأطلس.. الفرق بينهما أن أحرضان جمع حوله عددا كبيرا من القبائل، بينما ذهب مولاي حفيظ العلوي إلى منصبه كباشا ولازمه في انتظار التعليمات الفرنسية، لأن مولاي حفيظ لم يكن نافذا وسط أبناء سطات كما كانت علاقة أحرضان بمحيطه.
في الوقت الذي كان المغرب يعيش على إيقاع أزمة إبعاد محمد الخامس عن العرش، والتي بدأ إيقاعها يرتفع منذ بداية الخمسينات، كان باشا سطات العلوي، يجمع الأعيان في مقر الباشوية، وكانوا كلهم من «العدول» وزعماء القبائل والمقدمين، ليحثهم للتوقيع على عريضة تنحية محمد الخامس.
أفراد المقاومة بسطات، ومنهم الآن أعضاء في المندوبية السامية للمقاومة، يحتفظون للجنرال مولاي حفيظ العلوي بكثير من الذكريات. فقد كان غير متساهل مع الذين ينشطون ضد السياسة الفرنسية وكان يعتبرهم مخربين بالأساس.. وهكذا لم يكن هناك أي تواصل بين مولاي حفيظ العلوي وأفراد المقاومة في سطات ونواحيها، بل كانت بعض الاجتماعات التي كان يعقدها المتعاطفون مع حزب الاستقلال تجري خارج سطات، خوفا من أن يصل خبرها إلى مولاي حفيظ العلوي، حتى لا يضرب بقوة ويسجن جميع من حضروا الاجتماع.
كانت لمولاي حفيظ العلوي أعين كثيرة في سطات، ويقال إنه فور اقترابه من الملك الحسن الثاني، قبل أن يصبح ملكا، عمل على تثبيت المقربين منه، وتوسط للكثيرين لولوج الوظيفة العمومية خصوصا خلال السنوات الأولى لحصول المغرب على الاستقلال، وهو ما جعل أسهم شعبيته ترتفع في نواحي سطات، خلال سنوات الستينات، رغم أن ذاكرة بعض القدامى تحتفظ له بكثير من الجفاء والقسوة في التعامل مع أبناء المنطقة الذين كانوا يتورطون في مشاكل مع فرنسا.
عقلية المعارك الدامية تسيطر على التشريفات وتنتصر للداخلية
كان الجنرال مولاي حفيظ العلوي يضغط بكل ثقله، وزيرا للتشريفات والأوسمة، حتى تصل بعض الأسماء إلى صف التوشيحات الذي كان يقيمه الملك الحسن الثاني في مناسبات متفرقة. بعد المسيرة الخضراء، لعب مولاي حفيظ العلوي دورا كبيرا في توشيح بعض الأسماء من وزارة الداخلية رغم اعتراض بعض الأسماء النافذة، بسبب حسابات ضيقة كانت تجمعهم بوزير الداخلية وقتها. لكن الجنرال مولاي حفيظ العلوي تدخل بثقله وهمس في أذن الحسن الثاني بأن هناك من يريد أن يحرم موظفي الداخلية الذين سهروا على التنسيق مع العمالات لإنجاح المسيرة الخضراء، وفور حصوله على الضوء الأخضر، شرع الجنرال في تأديب كل الذين اعترضوا على توضيح موظفي الداخلية، وكان من بينهم موظفون شبان في بداية مسارهم داخل دهاليز الوزارة.
ضرب مولاي حفيظ العلوي للجميع موعدا في أحد الفنادق، وكان صارما في اختيار اللباس الذي سيظهرون به أمام الملك الحسن الثاني أثناء التوشيح. أحد المصادر الذي حكى لنا الواقعة التي كان شاهدا عليها بأحد فنادق الدار البيضاء، يقول إن مولاي حفيظ العلوي حل باكرا بالفندق وكان يجلس متربعا في كرسي جلدي فخم، يستعرض الجالسين بعيدا في انتظار التعليمات ليتحركوا إلى القصر الملكي للتوشيح. لكن مولاي حفيظ العلوي باغتهم جميعا ووجه نقدا كبيرا للذين لم يحسنوا حلاقة ذقونهم ذلك الصباح، حتى أنه ثار في وجه أحدهم، وأخبره أنه سيكون أمام الملك الحسن الثاني بعد ساعات وليس في حفل زفاف عائلي حتى يرتدي ربطة عنق مزركشة، وأعطى تعليماته لأحد المساعدين، ليأتي له عاجلا بربطة عنق مناسبة، قبل أن يقرر مولاي حفيظ العلوي أن يرتدي جميع الموظفين لباسا موحدا.
كان يتجول بنظراته بين الواقفين وكأنهم تلاميذ، ولم يكن ينظر إلى أحد منهم إمعانا في استصغار شأنهم، ولا يتحدث إلى مساعديه، وكأن الواقفين غير موجودين أصلا في القاعة.
انتهى ذلك اليوم بكثير من الرهبة ونجح مولاي حفيظ العلوي في إيصال رسالته إلى موظفي الداخلية، والتي مفادها أن الرجل الأول الذي يتحكم في البوابة الوحيدة التي تُدخل إلى قصر الملك، لن تكون إلا الجنرال مولاي حفيظ العلوي، وأن الطرق الأخرى التي يلتجئ إليها بعض الوزراء، وعلى رأسهم وزراء مروا من الداخلية قبل إدريس البصري، لن يصلوا إلا إلى الجدار.
الوجه الآخر لحامي طقوس المخزن
كان محيط القصر الملكي الجديد بعد وفاة محمد الخامس، يعلمون جيدا أن مولاي حفيظ العلوي يحظى بثقة ملكية مطلقة، وأن الأيام لن تحمل له إلا مزيدا من الحظوة لأنه يتشارك مع الملك في قرابة عائلية، من شأنها أن تلعب دورا كبيرا في إبقائه في دائرة الضوء، رغم المنافسة الكبيرة التي سيلقاها من ترشيحات أسماء مماثلة تشاركه نفس المسار بل وتتفوق عليه في منجزاته العسكرية مع فرنسا.. لكن مولاي حفيظ كان محظوظا كفاية للظفر بأقرب المراكز إلى مكتب الملك.
«الوزير الدائم للتشريفات والأوسمة» كان هذا لقبه منذ وصوله إلى منصبه، ليشيخ فيه، دون أن يفلح اسم آخر في انتزاعه منه، علما أن المحيط الملكي شهد، خصوصا خلال سنوات السبعينات، تغيرات إن لم نقل زلازل حقيقية، استدعت تغييرات أمنية وسياسية مهمة. لكن مولاي حفيظ العلوي ظل وسطها منتصبا.
من الأسرار التي ظلت طي الكتمان، والمرتبطة بمولاي حفيظ العلوي، أنه كان يضع كرسيا مرتفعا في مكتبه الخاص الذي يمثل وزارة التشريفات والأوسمة، وهي وزارة تختلف تماما عن بقية الوزارات ولم ينتزعها أحد من مولاي حفيظ العلوي، لأنها ببساطة كانت قد فصلت على مقاسه.
في مكتب مولاي حفيظ العلوي، كما وصفه زائروه، يوجد كرسي مرتفع بشكل ملحوظ، خلف مكتب الوزير، وفي المقابل توجد كراس صغيرة جدا لاستقبال ضيوفه من الشخصيات والمستشارين الذين كانوا مرحبا بهم داخل القصر. الأمر لم يكن صدفة بل بتخطيط مسبق من الجنرال، وهي الرتبة العسكرية التي فاز بها في إطار الترقيات العسكرية التي نظمت لكثير من الشخصيات العسكرية المغربية، ليجد ضيوفه أنفسهم مجبرين على رفع رؤوسهم عاليا كلما أرادوا الحديث مع مولاي حفيظ العلوي في مكتبه الخاص، بينما كان هو ينحني برأسه نحو الأسفل لينظر إليهم.
بعضهم فطنوا للأمر وامتنعوا عن زيارته في مكتبه حتى لا يجدوا أنفسهم مجبرين على الجلوس بطريقة القرفصاء في كراسي صغيرة أمام مكتب كبير فسيح يطل من خلفه الجنرال الجالس على كرسي مرتفع عن مستوى المكتب بفرق واضح. كانت تلك طريقته في فرض الاحترام والهيبة المخزنية على زواره الذين لم يكونوا أبدا ضيوفا عاديين. أما الموظفون الصغار فقد كانوا يرتعدون خوفا أمام مولاي حفيظ العلوي عندما كان يرافق الملك الحسن الثاني في زياراته اليومية إلى الوزارات في فترة الاستثناء التي أغلق خلالها الحسن الثاني البرلمان وأصبح المشرف الأول على الوزارات.
كان الموظفون في الدواوين والموظفون الآخرون في بقية المكاتب والمصالح الإدارية الرسمية يعرفون مولاي حفيظ العلوي لأنه كان يلازم الملك الحسن الثاني ويتجول بدوره بين الأقسام، وحدث كثيرا أن وبخ موظفين بعد خروج الملك على تهاونهم، أو سوء تصرفهم أمام الملك. كان يقوم بهذه المهمة منتشيا، ولم يكن ليلومه أحد على نهر الموظفين رغم أنهم لا يعملون تحت إمرته، مستغلا إشرافه على البروتوكول الصارم، لتوبيخهم ومدرائهم.
الجنرال.. وزير التشريفات والأوسمة
وقع تقارب كبير بين الجنرال مولاي حفيظ العلوي وبين الملك الحسن الثاني منذ سنة 1956، وأصبح باشا سطات سابقا، مرافقا دائما لولي العهد، ليجد لنفسه موطئ قدم في المحيط الجديد. لم يكن يطيق أحمد رضا اكديرة الذي كان محاميا وقتها، ولم يكن أيضا يطيق جميع السياسيين، خصوصا المهدي بن بركة ومحمد الفقيه البصري وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمن اليوسفي.. كان يرى فيهم مجموعة من المتعلمين الذين سيقطعون الطريق أمام أمثاله ممن سيشكلون لا شك محيطا قويا للقصر ضد السياسيين.
كان مولاي حفيظ، قبل أن يصبح جنرالا، يعلم أن صداقته مع ولي العهد لا بد أن تثمر منصبا مهما في الدولة، لكنه، وهذه معلومة أكدها لنا أحد الذين صادقوه قبل أن تسوء العلاقة بينهما، لم يتوقع يوما أن يصبح وزيرا للتشريفات والأوسمة، ويصبح بوابة بين الملك وكل من يرغب في لقائه، وينتشي باستعراض طقوس المخزن المعقدة، والمذلة في أحيان كثيرة، في وجه كل من طلب موعدا للقاء الملك الحسن الثاني.
التشريفات ليست كالأنباء.. والغلط ممنوع
أصر مولاي حفيظ العلوي مرة على تأديب أحد الوزراء في حكومة من حكومات الثمانينات. ففي غمرة حديث أحد الوزراء، وقع له خلط بين اسم مولاي حفيظ العلوي، وزير التشريفات والأوسمة، ومولاي أحمد العلوي وزير الأنباء. ارتبك الوزير عندما رأى نظرات مولاي حفيظ العلوي تتجه إليه دون غيره من الوزراء، ولم يكن الجنرال يغير اتجاه نظراته طيلة الجلسة التي تجاوزت ساعتين، حتى أن الوزير «المسكين» فضل الصمت بقية الجلسة دون أن ينبس بكلمة. وعندما انتهت السهرة التي كان خلالها بعض الوزراء يلعبون الورق ويتحدثون في كل شيء ولا شيء كما يقال، نهض مولاي حفيظ العلوي إلى الوزير الذي ارتكب نفس الخطأ مرتين أثناء حديثه عنه، وضغط على يده بعد المصافحة، وأخبره أمام وزراء آخرين، ألا يعود إلى خلط اسمه مرة أخرى مع أي اسم آخر مهما كان صاحبه، حتى لو كان مولاي أحمد العلوي وزير الأنباء الذي ينتمي إلى نفس معسكره، من الملازمين للملك الحسن الثاني طيلة فترة حكمه وقبلها أيضا.
عدو الوزراء الأول
يتذكر الكثيرون كيف أن الجنرال مولاي حفيظ العلوي كان حجر عثرة حقيقيا أمام راحتهم الوزارية. كان يسعى دائما إلى تحسيس بعض الوزراء بالدونية أمامه. ويتذكر له البعض كيف أنه كان يستعرض نفوذه على الوزراء الجدد الذين يختبرون حياة المخزن ومحيط القصر لأول مرة في حياتهم. حدث مرة أن مولاي حفيظ العلوي كان يشرف كعادته، شخصيا، على ترتيب الوزراء قبل دخولهم إلى الملك الحسن الثاني حتى يسلمهم تعيينهم الوزاري وفق الطقس المخزني القديم، لكن بعض الوزراء الجدد كانوا لم يتعلموا بعد أصول الانتظار قرب باب المخزن، وظنوا أن مناصبهم الوزارية المقبلة ستمنحهم بعض الحصانة ضد وزير التشريفات والأوسمة الذي لا يتغير بتغير الحكومات المغربية. وهكذا لم يعر أغلبهم اهتماما لأي توجيه من مولاي حفيظ العلوي الذي كان يذهب جيئة وذهابا لتفقد صف الوزراء، إلى أن أفقدوه صوابه، وشرع في دفعهم تماما كالتلاميذ حتى ينتظموا في صف واحد قبل النداء عليهم للمثول أمام الحسن الثاني.
لا يريد أغلب وزراء السبعينات والثمانينات، خصوصا منهم الذين غادروا عالم الوزارة بدون رجعة، الحديث عن طقوس مولاي حفيظ العلوي التي كانت تمعن في احتقار كل من تسول له نفسه خرق البروتوكول المخزني الصارم أو عدم الالتزام به بكثير من المبالغة التي يراها مولاي حفيظ العلوي مناسبة تماما.
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.