المغرب تايمز
إن وجبات الأكل في القصور، كما هو الحال في جميع أرجاء العالم، من النوعية المميزة والرفيعة يسهر على إعداده طباخون مهرة، مغاربة وأجانب، وهناك خدم وعبيد يتكلفون بجملة من المهام المرتبطة بالموائد الملكية، هي فرقة من الخدم والعبيد يضطلع بكل ما هو مرتبط بأكل وشرب أهل القصر، ما عدا الشاي الأخضر المنعنع فله قائده الذي يضطلع بكل شؤونه. ويولي القائمون على شؤون الخدم والعبيد هذه المهمة أهمية بالغة جدا.
خدم المائدة الملكية
ومن المهمات الخاصة في هذا الصدد، مهمة تذوق الطعام قبل تقديمه للملك، فهناك أحد خدم القصر، متخصص في هذا المجال وعليه تناول جزء من كل طبق في لحظة معلومة ومضبوطة قبل تقديمه للملك ووضعه على المائدة الملكية. وقد تناسلت عدة حكايات وأساطير بخصوص "ذواق" السلطان على امتداد التاريخ، إذ قيل أن هناك بعض "الذواقين" في فترات تاريخية سابقة أصابهم التسمم، لاسيما في بعض فترات النزاع على عرش المغرب بين أبناء بعض السلاطين العلويين الأشقاء، ومنذ ذلك الحين ترسخت هذه العادة وأصبحت إحدى قواعد طقوس دار المخزن، وتوارثت مهمة "ذواق" الملك بين خدم البلاط. ومن الشائع أن الملك الراحل الحسن الثاني لا يستحسن الأكل إلا ما أعده طباخو القصر، ولهذا كان طاقم المطبخ يرافقه في كل رحلاته إلى الخارج. وقد سبق أن سئل جلالته عن هذا فأجاب، أنه يفعل ذلك لتقديم الطبخ المغربي الأصيل لضيوفه حتى خارج المغرب، وأن الطبخ يمكنه أن يحقق ما لا تقوى حتى الدبلوماسية على تحقيقه.
فبجانب الطباخين ومعاونيهم المتخصصين، هناك فرقة من الخدم وعبيد القصر تتكلف بكل المهام المرتبطة بإعداد المائدة الملكية وتموين المطبخ وتنظيم أوانيها النفيسة. ومن ضمنها المكلف بكؤوس البلار الأصيل والتي تمتاز بخاصية لا تتوفر في أي نوع من أنواع الزجاج، إذ أن كأس البلار القح يتكسر بمجرد أن يلمسه سائل مسموم.
ويؤكد المقربون للقصر أن مدة الوجبات الغذائية بدار المخزن في العهد الحسني قد تطول أو تقصر، حسب مزاج الملك.
الولائم المقامة بالقصر الملكي تحترم بدقة كل طقوس البروتوكول المخزني، فيما يرتبط بالكرم وتقديم الهبات والعطايا للخدم والعبيد القائمين على المائدة الملكية.
وبخصوص قضايا الأكل وأنواع الطعام ظل الملك هو المرجع الأول والأخير في كل كبيرة وصغيرة، لاسيما في عهد الملك الراحل الحسن الثاني الذي كان يولي اهتماما خاصا لمعرفة كل مجريات الحياة بدار المخزن والعاملين بها، وكان يهتم بأمور المطبخ والقائمين عليه وبفرقة الخدم والعبيد المكلفة بالطعام والشراب وظل هذا النظام سائر المفعول إلى حد الآن.
ويبقى الكسكس الوجبة التي كانت تنال الاهتمام الأكبر في تحضيرها بالقصر الملكي على الطريقة المغربية العتيقة، وغالبا ما كان يعد كل يوم جمعة. وللكسكس جملة من الطقوس، سواء في طريقة تحضيره وتصفيف اللحم والخضر وطريقة حمل الخدم للإناء الذي يحتويه والعبارات المرددة قبل وضعه على المائدة الملكية بعد تذوقه من المكلف بذلك.
خلال الخمسينيات والستينيات سادت عادة مفادها أنه في آخر الأسبوع كانت تعد أكلة خاصة من كل ما تبقى من مؤونة الأسبوع، وكان ينعتها أهل الرباط وسلا بـ "ميكاز"، وهذا ما أكده الملك الراحل الحسن الثاني في إحدى استجواباته مع الصحافة الغربية.
وبخصوص التموين انتشرت حكاية - يقول مصدرنا - مفادها أنه في سنوات سابقة كان خدم دار المخزن يتوفرون على "ميدالية" على شكل سكة النقد الحسني يستعملونها لاقتناء المواد الغذائية من إحدى التجار اليهود بالرباط. فكان الخادم يتوجه إلى التاجر وبمجرد إظهار "ميداليته" يقتني ما يريده، وبعد عودته إلى دار المخزن كان عليه أن يخبر أحد المسؤولين بقيمة ما اقتناه حتى يتم تسديده للتاجر، وذات يوم لم يقم أحد الخدام بالإخبار وبالتالي لم يتم تسديد ما اقتناه من التاجر الذي رفض تلبية طلبات الخدم فانكشف الأمر بعد الوقوف على حقيقة الحدث
أصحاب المهام الخاصة
هناك بعض خدم وعبيد دار المخزن يتكلفون بمهام خاصة ومحددة، سواء داخل القصر أو خارجه أو في أجزاء خاصة دون سواها، منهم من يلج أي مكان في القصر حتى الأجنحة الحميمية التي تعتبر مناطق محرمة. لاسيما هؤلاء الخدم والعبيد المكلفين بتنظيف وصيانة الفضاءات الحميمية وجناح الحريم. ومن ضمنهم سيدة كانت مكلفة بفوطات الحمام ولوازمه، وقد قيل أنه بواسطتها تمكن هشام المنظري من ولوج ذلك الفضاء الخاص بالملك الراحل الحسن الثاني ووضع اليد على حقيبة النقود ودفتر شيكات الملك.
ومن الخدم المكلفين بالمهام الخاصة، يقول مصدرنا الخادم الذي كان مكلفا في عهد الملك الراحل الحسن الثاني بالسجائر والمنفضات، علما أنه عرف على الملك أنه كان يدخن كثيرا قبل الإقلاع عليه في السنوات الأخيرة من عمره سجائر خاصة تحمل توقيعه وتعد تحت الطلب، ولا مثيل لها في الأسواق المغربية.
وهناك فرقة من الخدم والعبيد متخصصة في اللباس التقليدي السلطاني، والقائم عليها قائد الجلباب والبلغة (اللباس الرسمي). وهذه الفرقة هي القائمة على اللباس التقليدي بدار المخزن، وهي التي تتكلف بلباس البيعة لإسباغ نوع من الهيبة الخاصة. وقد سبق "للمشعل" أن نشرت أنه كانت هناك "شفرة" خاصة يفهمها أهل دار المخزن بمجرد النظر إلى الملك وعمامته، إذ أن جزء الطربوش أو الشاشية الحمراء الظاهر تحت العمامة توحي بمزاج الملك ذلك اليوم، فإن كان الجزء الظاهر (الأحمر) كبيرا فهذا يدل أن الملك غاضب والعكس بالعكس.
وللإشارة فإن لباس خدم وعبيد دار المخزن يكلف خزينة الدولة ما يناهز 23 مليون درهم سنويا.
ومن الفرق الخاصة خدم وعبيد الحفلات، فقد كان الملك الراحل الحسن الثاني مولعا بالأغاني والموسيقى، لذلك دأب على تنظيم حفلات وجلسات خاصة مع الفنانين المغاربة والأجانب. وكانت فرقة خاصة من خدم وعبيد دار المخزن تتكلف بكل ما يتعلق بهذه الحفلات والسهرات الخاصة، بمناسبة أو بغير مناسبة، وكان بعضها لمجرد الترفيه وبعضها الآخر مخصص لضيوف متميزين. وكان جملة من الفنانين يتوددون للخدم والعبيد حتى يخصونهم بأماكن تجعلهم باستمرار في مجال رؤية الملك أينما كان. وكان الخدم والعبيد يتحكمون في رقاب الفنانين والفنانات المدعوين الذين يتنافسون لامتلاك ودهم للحصول على أمكنة مميزة، خاصة وأنهم هم الآمرون الناهون في تلك الفضاءات من دار المخزن على امتداد فترة السهرة أو الجلسة الخاصة.
وهناك من خدم وعبيد دار المخزن من كانوا يرافقون الملك في خرجات الصيد. إن رحلات الصيد كانت من هوايات الملك الراحل الحسن الثاني. فكانت تجند قبائل للقيام بعملية "الحيحة" أو "التحياح" في ضواحي أولماس مثلا لتوجيه الطرائد في اتجاه الملك ومرافقيه. وكانت فرقة من العبيد تظل قريبة من الملك لخدمته وخدمة مرافقيه وقد أبدع المغاربة شبه نكت ساخرة مفادها أنه كلما كانت طلقة الملك تصيب الهدف يصيح العبيد "حكم عليها سيدنا" وكلما أخطأت الطلقة الملكية المرمى، يصيحون "عفا عليها سيدنا".
ومن المهام الخاصة ما كانت مكلفة به فرقة خدام وعبيد دار المخزن المكلفة بالبخور، وتضطلع هذه الفرقة بـ "تبخير" فضاءات دار المخزن، لاسيما القصر الملكي، يحمل كل واحد من الخدم والعبيد مبخرة ويطوف على الأركان المكلف بها ببنايات البلاط في أوقات معلومة ومناسبات معينة. وظلت هذه العادة من الطقوس المرتبطة بدار المخزن قائمة منذ عهد الملك الراحل الحسن الثاني الذي كان يستحسن الإقامة بالقصور دون غيرها. وتأكدت هذه العادة أكثر من مرة بمناسبة افتتاح دورة البرلمان السنوية الذي يترأسه الملك، فقبل حلول موعد ولوج الملك إلى قبة البرلمان تأتي فرقة الخدم والعبيد ويمرون على جميع أركان القاعة ويبخرون كراسي المنصة الرئيسية، ومن المعلوم أن الملك الراحل الحسن الثاني كان مولعا بالبخور والعود القماري الأصيل
أضحية العيد
في العرف المخزني والشعبي معا فإن الملك بصفته أمير المؤمنين يذكي أضحية عيد الأضحى باسمه وباسم الأمة جمعاء. إلا أن خدم وعبيد القصر كانوا في أغلبيتهم يستفيدون من مكافأة نقدية سنويا بمناسبة العيد، وبعضهم يستفيد من هذه المكافأة وكبش العيد، لاسيما عندما أصدر الملك الراحل الحسن الثاني أوامره ليستفيد الجنود المرابطون بالصحراء بأضحية العيد لاسيما المتزوجون وذوو أسر.
ومنذ اعتلاء الملك محمد السادس عرش البلاد، لاسيما بعد عقد قرانه بالأميرة للا سلمى أضحى الاكتفاء بكبش العيد وتم التخلي عن المكافأة، وكانت الانطلاقة من الإقامة الملكية بدار السلام بخصوص الخدم والعبيد الذين كانوا يعملون بها قبل تعويضهم بخريجي المعاهد الفندقية العصرية
الأميرة للا سلمى وعبيد دار المخزن
عندما ولجت الأميرة للا سلمى القصر الملكي كأميرة وكأحد أفراد العائلة الملكية كانت الوجوه النسوية البارزة هن الأميرات شقيقات الملك محمد السادس وعماته. وكان على الأميرة للا سلمى، أن تأخذ مكانها بهذا الوسط الذي ينادونها الخدم والعبيد فيه بـ "للا أم سيدي" (للا أم ولي العهد) وهو اللقب المخصص في أعراف دار المخزن لزوجة الملك التي تنجب ولي العهد، علما أن زوجات الملوك السابقين لم تكن تحظين بهذا اللقب (الأميرة) كما هو الحال بالنسبة لزوجة الملك محمد السادس.
في البداية كان جملة من الخدم والعبيد يعملون بالإقامة الملكية بدار السلام، وحسب مصدرنا، كانت الأميرة للا سلمى لا تستحسن كثرتهم، بل كانت في أحيان كثيرة تتضايق من وجودهم المكثف، لذلك ارتأت في البداية تقليص عددهم إلى النصف، ثم تم بعد ذلك التخلي عنهم وتعويضهم بطاقم عصري من المستخدمين خريجي المعاهد الفندقية، سعيا وراء عقلنة تدبير شؤون الإقامة الملكية والتصدي للتبدير وهذا ما شجعه الملك محمد السادس.
وقد أضاف مصدرنا أن إقامة الملك محمد السادس قبل زواجه - وعندما كان وليا للعهد- كانت خالية من الخدم والعبيد، ولم يكن يعمل على راحته سوى قلة من المستخدمين الذين يحملون صفة مستخدمين بالقصر
دار المخزن مركز ثقافة السلطة
يطلق اسم "دار المخزن" على القصور الملكية وكل المرافق التابعة لها، لكن "دار المخزن" المركزية هي القصر الملكي بالرباط نظرا لرمزيته السياسية والتاريخية.
ولازالت دار المخزن تشكل المجال المركزي الذي يؤسس ثقافة السلطة بالمغرب ويرعاها. فهي المركز الباعث لنظام الحكم والطاعة والخضوع عبر تحديد المراسم وقواعد وضوابط وآداب البروتوكول المخزني المفروضة على باقي مؤسسات المملكة بما فيها البرلمان والأحزاب السياسية؛ فكل من يجد نفسه ضمن إحدى هذه المؤسسات يتوجب عليه الالتزام والانضباط لمختلف المراسيم المخزنية، خاصة فيما يرتبط بالمناسبات الوطنية والدينية وما يتعلق بتقديم فروض الطاعة والولاء، طبقا للأعراف والعادات المخزنية العتيقة من انحناء وتقبيل اليد وغيرها.
وفي هذا الصدد قال الطوزي وغيره أن المراسيم المخزنية وضوابط البروتوكول المخزني تركز بالأساس على نهج خاص لتطويع وترويض العقل والجسد على مختلف مظاهر الطاعة والخضوع والخدمة؛ وهذا ما ينعته بعض المحللين السياسيين بتكريس مخزنة النخبة وفقا للثقافة المخزنية المستندة على مرجعيات دينية وفقهية وتاريخية، وهو ما ساعد النظام السياسي، حسب هؤلاء، على تركيع النخبة وترويضها لخدمة ومساندة ودعم الإرادة السياسية لدار المخزن على امتداد أكثر من أربعة عقود، بما في ذلك اختياراتها الاقتصادية والاجتماعية
الجزء الاول من المقال / الجزء الثاني/ الجزء الثالت /الجزء الاخير
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.