أخر الاخبار

قدور بن غبريط.. جزائري في المخزن المغربي

ظل المغرب والجزائر يشكلان وحدة حضارية في العديد من الفترات التاريخية، ولعل من روافد التاريخ المشترك بين الدول، حركية الأشخاص بين المجالات المختلفة وخاصة منهم النخب (رجال الدين، وعلماء، وتجار، وغيرهم)، لكن تواجد نخب جزائرية في الجهاز المخزني المغربي في مرحلة أزمة تاريخية، عرفت عزل الكيانين عن بعضهما سياسيا وجغرافيا (استعمار فرنسا للجزائر 1830). وفي هذا المقال سنسلط الضوء على أحد الشخصيات التي تسلقت بشكل ملفت سلالم المسؤولية داخل الجهاز المخزني، واندمجت إلى درجة بلوغها مراتب مكنتها في اختيار السلطان نفسه، وفي هذا السياق سنعرض لشخصية قدور بن غبريط الذي يعد الرجل الأبرز في تاريخ المغرب المعاصر والرجل الثالث في المخزن المغربي بعد السلطان والصدر الأعظم.

فكيف سيسمح الجهاز المخزني بولوج عناصر خارجية داخله أمثال قدور بن غبريط في إطار تاريخي جد مهم؟ وما هي أصوله ومرجعيته؟ وكيف تعامل مع السلطات الفرنسية داخل الوظائف المخزنية؟

قدور بن غبريط
قدور بن غبريط

الأصول الجزائرية والإدماج في النظام المخزني

يدعي قدور بن غبريط، في الحالة المدنية نجد اسمه عبد القادر بن غبريط ، ولد في سيدي بالعباس بالجزائر سنة 1868، هذه الشخصية التي لها اليد العليا في جميع القضايا المغربية، تنتمي إلى أسرة نبيلة من سيدي بالعباس من أصول أندلسية، بعدما كان تلميذا مميزا في المرحلة الثانوية، شرع في العمل بالقضاء الإسلامي في الجزائر، ثم قاده إشعاعه سنة 1893 إلى المغرب للعمل كمترجم للمفوضية الفرنسية في طنجة.

يأتي وصفه عادة في تمثل المغاربة بكونه الرجل الذي بواسطته دخلت فرنسا إلى المغرب في بداية القرن العشرين، هو مترجم البعثة الفرنسية بطنجة، ورئيس البروتوكول في المحكمة الشريفة بالرباط، ومؤسس مسجد باريس، ومقترح السياسة الإسلامية داخل فرنسا، كان رجل فن و آداب، محبوب من قبل البعض ومكروه من البعض الأخر.
تمكن بن غبريط بسرعة بديهته من إنجاز العديد من المهام عند المخزن المغربي، ما جعل اعتقادا سائدا بكونه شخصية سياسية مميزة قادرة على حل أي لبس دبلوماسي، ما أتاح له التواجد على رأس العديد من السفارات المغربية كسفارتي باريس وسان بترسبورغ، المشاركة في أشغال اللجنة المكلفة برسم الحدود بين المغرب والجزائر ما بين 1902 و 1903.

يصفه السيد حمزة بن إدريس العثماني في مؤلفه مغاربي خارج عن المألوف :
نموذج لنجاح كبير (…) بذكائه، وعلمه، وإتقانه للعديد من اللغات، وتأثيره في الأحداث، ولمهارة تعامله مع الآخرين، جعل منه شخصية بمواصفات نادرة ومبحوث عنها.

وفي سنة 1916 قادته إحدى المهام المخزنية إلى الحجاز، هناك لمع في تدبير أمور الحجاج، لدرجة دان له إخوانه في الدين له تيسير الرحلات الحجية وتوفير الأمن لهم، وفي نفس الوقت حرس على التوزيع العادل لإسهامات أحباس الإسلام، جعله ينتخب في السنة القادمة وبالإجماع رئيسا لوكالة أحباس الأماكن المقدسة.

ثم أنشأ في باريس، ومن خلال مبادرة شخصية بعد ذلك، المعهد الإسلامي المغربي وتحت إدارته، الذي كان هدفه حماية جميع المسلمين القاطنين أو الزائرين للمتروبول سواء روحيا أو ماديا،

“أسس للمسجد الكبير بباريس سنة 1926 ، الذي جاءت فكرة تأسيسه في نهاية الحرب الكبرى تكريما لسبعين ألف جنديا مسلا الذين ماتوا من أجل فرنسا.

يلخص السيد العثماني مسار سي قدور المهني قائلا :

” كان لابن غبريط مسارا مهنيا طويلا ومنيرا مر عبر الجزائر، والمغرب، وأيضا روسيا في ثلاثينات القرن العشرين، بالإضافة إلى إدارة المسجد الكبير في باريس، من ألقابه الرسمية مستشارا الحكومة المغربية، مترجم عام، رئيس مصلحة الترجمة العامة، والاستشارية والبروتوكول، ومدير مسجد باريس، ووزيرا مفوضا، كما كان موسيقيا ومسرحيا وشارك في العديد من المهرجانات.”

توفي السي قدور بن غبريط الوزير المفوض لسلطان المغرب، ومدير المعهد الفرنسي الإسلامي ومسجد باريس، صباح (24 يونيو 1954)، على الساعة السابعة وعشر دقائق، في مصحة sise شارع Geoffrey – Saint – Hilaire ، في باريس الدائرة الخامسة، حيث كان دخل إليها للعلاج قبل وفاته بخمسة أيام، بسبب احتقان رئوي، في نفس يوم وفاته، كانت الشرطة أول الداخلين عنده لتلج مباشرة مكتبه الشخصي وتأخذ جميع الوثائق التي عثرت عليها، ثم خصص له حفل تأبين يليق بوزير مهم، فكل ما كان يهم السياسة والدبلوماسية الفرنسية والمغربية، يذهب إلى المسجد الكبير بباريس، هو الرجل الوحيد الذي دفن داخل هذه البناية الدينية.

تجليات اندماج قدور بن غبريط في الوسط المخزني

توفي السلطان مولاي يوسف في سنة 1927 فجأة في إقامته بفاس، في سن الثامنة وأربعين سنة، لاشيء تم التخطيط له في موضوع الخلف، لا عند المغاربة، ولا عند الفرنسيين، ما خلق شكا عاما وواسعا لدى الجميع وتخوفا من بداية صراع دموي على السلطة، خاصة أن حق البكر في الخلافة لم يكن موجودا ولو حتى فرضيا في الملكيات الإسلامية، وأمام الخوف من خلق ثورة في المغرب بالكاد حرر، وجب على المحتلين الفرنسيين البحث عن الخلف بأسرع وقت ممكن، لكن كان يجب بداية حل إشكال من ستكون له الكلمة العليا في اختيار السلطان الجديد، خاصة مع وجود ثنائية ضرورة الحفاظ على طابع الشرعية الذي حاولت فرنسا اعتماده في القضية المغربية، ومصلحة إدارة الحماية، والحذر من أي ارتباك قد يسببه السلطان الجديد على تنفيذ مشروعها.

“كان من الطبيعي أن تتوجه الأنظار إلى كل من الوزير الأكبر محمد المقري، وسي قدور بن غبريط ، منظر السياسة المغربية، حيث كان لها استحقاقا واعتبارا من مختلف عناصر العائلة العلوية، لكن يشير Urbain Blanc إلى بروز شخصية ثالثة في مسألة الاختيار، كان هو مربي الأمراء السي المعمري، الذي عبر صراحة لميوله لصالح تلميذه الابن الثالث لمولاي يوسف، مادحا إياه بقوله : ” شاب مهذب، ومتدين، ومحافظ …”

يبدو أن موضوع اختيار السلطان الجديد كشف عن حضور معسكرين في محيط السلطة إذاك : كان المعسكر الأول مؤيدا لمولاي إدريس الابن البكر للمرحوم، الذي جعل كوريثه المفترض، مع موافقة العلماء، والذي كان يشارك مسبقا في العمل الحكومي بصفته خليفة مراكش، أما الفريق الثاني فكانوا يميلون لتولية سيدي محمد، الابن الأصغر لمولاي يوسف، في حين لا أحد رشح مولاي حسن لخلافة السلطان، وحسب ما راج بين الأوساط الأكثر نفوذا بفاس، فإن المعسكر الأول كان مسيرا من قبل الجنرال Mougin، مدير المكتب العسكري للمقيم العام، الذي كان مطالبا بالتصرف بسرعة وبكل حرية في الموضوع بفضل روابط تبعيته بالمقيم العام، وسي قدور بن غبريط ، مدير البروتوكول السلطاني والاستشاري، الذي كان حينها بتلمسان وكان له تخوف كبير من قضية اختيار السلطان الجديد، حتى أنه كان مستعدا لأخذ قطار الليل للوصول إلى المغرب حتى يتمكن من التأثير في القرار المتخذ، إضافة إلى الحاجب سي عبابو.


بينها تشكل المعسكر الثاني من السيد Marc، مستشار الحكومة الشريفة، والسي المعمري، موظف إدارة الشؤون الشريفة، ومربي الأمراء منذ العديد من السنوات، هذا الأخير كان متعلقا أكثر بطالبه سيدي محمد، حيث اعتبره أميرا غير محظوظ، لأسباب منها أنه لم يكن يمتلك أي مساندين داخل القصر، إضافة إلى تفويض أموره للسلطة الصارمة للحاجب عبابو الذي حكم في قصر فاس، ما جعل وجوده باهتا في الوسط السلطاني وتركه بدون موارد، ولا وسائل.

استخدم سي المعمري كل فرصة، ليتخذ الإجراءات الضرورية للتعريف بوجود سيدي محمد ولخلق حوله هالة أمير أنيق مظلوم، مخلوع من مكانته التي يجب أن تكون له لا لشيء فقط لظروف ولادته ولمعطيات غامضة و اعتباطية، ولكن لا يتضح أنه سيستطيع القيام بفعل مباشر على السيد Steeg، لذلك عمل على التأثير في السيد مارك لمساندة صاحبه. ”

قدور بن غبريط السلطان محمد بن يوسف

سي قدور بن غبريط وسي المعمري مع السلطان محمد بن يوسف وباقي الوزراء.
نستنتج من قضية اختيار السلطان سيدي محمد بن يوسف مدى التأثير الذي مارسه الرجلين في دوائر القرار للدولة المغربية، حيث يمكن القول أنها أصبحا عنصرين حاسمين في تقرير مصير البلاد والعباد بالمغرب، الشيء الذي تنبه إليه السلطان سيدي محمد بن يوسف، واستشعر خطورته على مؤسسة سلطان المغرب، ثم حاول أن يتجاوزه، فبدأ يحلم بتأكيد قوته داخل القصر كما في بلاده،

“يتضح أن حافزا واحدا كان يدفع السلطان : كان يرغب في وضع حد لعهد تحكم نوعين من المستشارين في أمر المغرب : الوزراء الشيوخ والمعينون في فترة اليوطي، وهم أشخاص جد وازنين بالنسبة لرجل شاب، أمثال سي قدور بن غبريط أو السي المعمري، وأصدقاء باشا مراكش، سى التهامي الكلاوي، ممثلي التقاليد البربرية.

أثار مزاولة المهام المخزنية

توفر ممارسة السلطة عادة العديد من المؤشرات، التي تكتسي قيمة تاريخية مميزة باعتبارها مقاييس واقعية لتقييم مدى نجاح المكلف في أداء مهامه.

عمل السي قدور بن غبريط باعتباره وزيرا للسلطان محمد بن يوسف، على حماية المغاربة بفرنسا، حيث تظهر الوقائع التاريخية مدى حركية الرجل في هذا الاتجاه رغم ما كان يشكل الموضوع من خطر على حياته بسبب مرحلة الحرب، فكانت لديه مشاكل مع الجيستابو (الشرطة السياسية التي كانت في خدمة النازية الألمانية للرايخ الثالث)، الذين يبحثون في المسجد على ضباط مغاربة فارين، لكن النازيين كانوا يصطدمون بحزم ومكانة الوزير.

ونسوق كنموذج لحدث مساعدته للتجار المغاربة المحاصرين في فرنسا بسبب إنزال الحلفاء بالشمال الإفريقي، استقبل في فبراير 1943، زيارة ثلاث تجار مغاربة يمثلون ثمانين من زملائهم محاصرين في ليون منذ شهر جراء انقطاع العلاقات بين فرنسا وشمال إفريقيا، جاءوا من أجل معرض تجاري. هؤلاء المغاربة لم يتوقفوا عن الذهاب والعودة بين Lyon و Vichy بغية الحصول على إذن بالمرور للالتحاق ببلدهم، لكن دون جدوى، لذلك اتصل سي قدور بن غبريط بالسفارة الألمانية والقنصلية العامة لإسبانيا للحصول على الترخيص الضروري مع شرط قيام التجار بسفر العودة عشرة بعشرة.

كما ساهم في حماية اليهود سواء المغاربة منهم أو غيرهم من بطش الاحتلال فيروي اليهودي Albert Assouline كيف نجا عندما احتمى في المسجد، وكيف استفاد أطفال اليهود من هذه المساعدة، ويؤكد أن 1732 شخصا مروا عبر المسجد مابين سنتي 1940 و 1944، أغلبهم من الأطفال، والأغلبية تم إيواؤهم لليلة أو ليلتين في الطابق التحت أرضي وفي المخازن، يتطابق هذا العدد (1732) مع عدد البطاقات التموينية التي وزعت ليست فقط لليهود ولكن أيضا للفارين من المقاومين الفرنسيين والأجانب.

كان من الطبيعي بحكم مزاولة سي بن غبريط لمهامه المخزنية نسج علاقات خاصة مع باقي العناصر المكونة للنخبة المخزنية المغربية، وتأثرت هذه العلاقات وبشكل كبير بطبيعة المهام المزاولة من قبله، فمثلا في علاقته برجل المخزن القوي الباشا الكلاوي، نجد أن السي قدور كان تربطه صداقة مميزة بالباشا، يروي Tardieu Michel بفضل سي قدور ولجت أمي وسط النخبة المغربية،
” روابط الصداقة هذه التي دامت، والثقة المتبادلة بين أمي والسي قدور، (…) وهو بدوره برهن على صداقته بعد الحرب، حيث شغلت أمي وظيفة ممرضة للعديد من الشخصيات المغربية بالمغرب بتدخل من السي قدور، وخاصة باشا مراكش الكلاوي، وداخل القصر الملكي بالرباط لجلالة الملك محمد الخامس وأخوه، ونالت بفضل خدماتها للمملكة الشريفة قي سنة 1952، وسام من درجة فارس في ترتيب الأوسمة العلوية.

وخلاصة القول فرغم اختلاف أصول الجزائري قدور بن غبريط عن باقي النخب المخزنية، باعتباره عنصرا أجنبيا دخيلا على هذا الجهاز، إلا أنه اندمج بشكل لا يختلف بتاتا عن نظرائه المغاربة، كما أن مواقفه من معادلة (السلطان/ الحماية)، لم تختلف كثيرا عن باقي مواقف رجال المخزن المغاربة التي تأرجحت بين الولاء للسلطان والتبعية لمؤسسة الحماية خاصة عندما تقدم نفسها كمؤسسة في خدمة السلطان، فإذا كان سي بن غبريط يبدو مرتبطا أكثر بالسلطات الفرنسية، حيث ذهب البعض لاعتباره الرجل الذي سلم المغرب لفرنسا، بدليل تبريره لكل مواقفه لفرنسا، وتقديمه للإدارة الفرنسية عن السلطان، إلا أن الرجل دافع عن موقفه عبر شهادة للدكتور Henri Dubois – Roquebert الجراح الخاص للسلطان المغربي من 1937 إلى 1971 :

” كان لي في الغالب فرصة أن نحفظ مع سي قدور هذا الاتهام الموجه له، أنه سلم المغرب لفرنسا. رد بن غبريط بحسم أن تصرفنا بهذه الصورة، كان في الحقيقة لإنقاذ البلاد المهددة بتقطيعها عبر الأطماع الخارجية.”
قدور بن غبريط هو جد نورية بن غبريط، باحثة ومؤلفة جزائرية، وزيرة للتربية الوطنية في حكومة سلال الثالثة بالجزائر.

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -