أخر الاخبار

السلطان عبد الرحمان والأمير عبد القادر


عبد القادر القادري

ومما يدعو إلى الأسى والأسف، أن هذه الحادثة يعرضها المؤرخون الأوربيون عرضا مدسوسا لحاجة في نفس يعقوب، وقد سايرهم في هذا الباب بعض كتاب الشرق العربي عفا الله عنهم دون ترو ولا تحفظ. فمن المعلوم أنه لما غزت فرنسا الجزائر في يوليه من سنة 1830 بايعت جهاتها الغربية السلطان عبد الرحمن بن هشام، فبعث ابن عمه مولاي علي خليفة عنه إلى تلمسان، ومعه حامية عسكرية من عبيد البخاري، فتعدى إذ ذاك الأسطول الفرنسي لقذف ثغري طنجة والصويرة محاولا منع المغاربة من التدخل في حرب الجزائر، فاضطر السلطان مولاي عبد الرحمن إلى استرجاع خليفته، وسحب جنوده إلى غربي نهر تافنا، فانتصب الأمير عبد القادر الجزائري إلى محاربة الفرنسيين فأذاقهم الأمرين، ولكنه اضطر في الأخير إلى الالتجاء للمغرب بعد أن ساقت فرنسا الجيوش العظيمة، وإثر ذلك مد الفرنسيون أيديهم إلى التراب المغربي، فلما بلغ السلطان مولاي عبد الرحمن تعديهم حدود بلاده اشتد به الغضب، وجهز جيشا عظيما أسند أمر قيادته إلى ابنه سيدي محمد، وسار هذا الجيش حتى نزل بإيسلي، وهناك دارت في شهر أغسطس سنة 1844 معركة عظيمة بين القوات الفرنسية المسلحة خير تسليح وبين الجيش المغربي الذي كان لا يملك إذ ذاك من المدافع إلا القليل، فدارت الدائرة عليه فاضطر المغرب إلى عقد الصلح مع فرنسا.

السلطان محمد الرابع بن عبد الرحمن

هذا ما سجله التاريخ الصادق، ولكن بعض مؤرخي الشرق العربي ينسون كل هذا وينقلون حرفيا ما قاله المؤرخون الأوربيون عنها.
يقول جرجي زيدان: (وأخيرا تمكنت فرنسا من إغراء سلطان مراكش بمحاربة الأمير عبد القادر الجزائري فجرت بينهما معارك حامية كان النصر فيها حليفه حتى سنة 1847، ثم آثر التسليم لفرنسا.)، وقال الأستاذ حبيب جاماتي: فتعبت فرنسا من الأمير عبد القادر الجزائري وهو لم يتعب فأبدلت قائد الحملة وبعثت القائد القديم الجنرال بوجو ومعه الجيوش المجيشة، ولم تكتف بذلك بل أغرت سلطان مراكش على معاضدتها.

وفي أواخر سنة 1847 علم بقدوم المراكشيين، وكانوا يزيدون على خمسين ألفا، فخاف الأمير عبد القدر على رجاله وإن يكن لم يعرف الخوف قبلا فعادت إليه نخوته، فهجم ليلا بذلك الجيش القليل وفرق شمل المراكشيين، ثم عادوا فاجتمعوا ثانية، وهاجموه فطاردهم وظهر عليهم، ولكنه خسر جانبا من رجاله، فرأى الانسحاب أفضل له.

ولم يعرض الكاتبان للرواية المغربية.

الامير عبد القادر الجزائري

وأما أمير البيان المرحوم شكيب أرسلان فروى الروايات الأوربية والمغربية إذ قال: (فلما سقط أكثر حصون الأمير عبد القادر الجزائري فر إلى المغرب وسعى في حمل سلطان المغرب على إصلاء الفرنسيين الحرب فكانت بين جيش المغرب والجيش الفرنساوي واقعة إيسلي 12 أغسطس 1844. ولما كان المغاربة لا يملكون من آلات القتال ما يملكه الفرنسيس انتصر الجنرال بوجو على الجيش المغربي، وكانت بوارج فرنسا ضربت بالمدافع ثغري طنجة ومغادور، فضيقت فرنسا على سلطنة المغرب من البر والبحر، وأجبرت السلطان مولاي عبد الرحمن صاحب الغرب على عقد الصلح 10 أيلول 1844 بالشروط التي تريدها، وأولها منع عبد القادر من تجاوز حدود الجزائر، فلبث هذا نحو سنتين متربصا منتظرا غرة من العدو ليهتبلها، فلما لاحت له في ثورة سنة 1844 انقض على بلاد الجزائر ثانية وأوجف في الغارة حتى بلغ بلاد البربر المسماة  عند الفرنسيس كابيلي وأعاد الأمر كما بدأ، إلا أن قوة عبد القادر كانت هذه النوبة تناقصت، وقدم الفرنسيس في الجزائر قد رسخت فلم تستمر غارته، وأحاطت به الجيوش من كل جهة، فأسرع الأوبة إلى الحدود المراكشية، فعادت فرنسا تتقاضى مولاي عبد الرحمن تسليمه، وما زالت تلح في ذلك حتى ساق عليه السلطان قوة عظيمة، فلما رأى نفسه بين نارين، وأن إخوانه المسلمين قد صاروا عليه إلبا مع الفرنسيس، اشتد به الغضب، وسلم نفسه إلى الفرنسيس على يد الجنرال (لاموريسبار) 23 كانون الأول 1847، ووقع الاتفاق على أن يخرج بعائلته من الجزائر ذاهبا إلى الإسكندرية أو عكا، وعلى رواية أخرى يزيد قائلا - وهي التي مال [إليها] صاحب تاريخ الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى -: لما يئس الأمير عبد القادر من الفوز على الفرنسيس بقوته الخاصة حدثته نفسه بقلب سلطنة المغرب والجلوس على عرش فاس، فأوجس السلطان عبد الرحمن خفية من دسائسه، وأرسل تلك القوة لمطاردته ودحض شوكته قبل أن يستعصى أمره. ولذلك صاحب الاستقصا، بعد أن أثنى أولا على جهاده وعلو همته، عاد فرماه أخيرا بسوء النية والفساد في الأرض، وهو في كلتا الحالتين لم يلقبه بالأمير بل بالحاج عبد القادر بن محي الدين).

أما بعد، فقد عرضت ما قاله مؤرخون شرقيون في هذا الموضوع، وإني لأهيب بمؤرخينا المغاربة أن يجلوا هذه الحادثة العظيمة ويكشفوا أسرارها حتى ينجلي الحق ويظهر الصواب، إذ لا يخفى أن المغرب أمد الأمير عبد القادر الجزائري بالأموال والقوات والخيل والسلاح، وعمل كل ما في وسعه إذ ذاك لمساعدة إخوانه الجزائريين، فأصيب من جراء ذلك في ثغره وجيشه وسمعته العسكرية، مما اضطره إلى قبول  شروط الصلح التي أملاها عليه الفرنسيون إملاء، وكان فيها خير له وللجزائر، إذ لو سقط المغرب في ذلك الوقت في قبضة الاستعمار، وصار مستعمرة كالجزائر، لتأخر تحرير إفريقيا الشمالية بعض الأعوام، ولما وجد الجزائريون النافذتين اللتين يتنفسون منهما الآن وهما تونس والمغرب، (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ؛ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ؛ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216]، صدق الله العظيم.
تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -