قراءة في "الفتان: محكيات من سيرة الروكي بوحمارة لصحفيين وكتاب غربيين معاصرين له"
فصل من فصول انهيار الدولة المغربية في زمن التكالب الاستعماري
يشكل كتاب «الفتان: محكيات من سيرة الروكي بوحمارة لصحفيين وكتاب غربيين معاصرين له» للأستاذ سعيد عاهد عملا صحفيا وتاريخيا متميزا أغنى المكتبة التاريخية المغربية، نظرا لتناوله لحدث تاريخي بارز في العقد الأول من مغرب القرن العشرين وهو «تمرد» الجيلالي الزرهوني الملقب ب «بوحمارة أو الروكي» في الفترة ما بين 1902 - 1909 أي فترتي حكم السلطانين العلويين مولاي عبد العزيز ومولاي عبد الحفيظ.
يشكل كتاب "الفتان: محكيات من سيرة الروكي بوحمارة لصحفيين وكتاب غربيين معاصرين له" للأستاذ سعيد عاهد عملا صحفيا وتاريخيا متميزا أغنى المكتبة التاريخية المغربية، نظرا لتناوله لحدث تاريخي بارز في العقد الأول من مغرب القرن العشرين وهو "تمرد" الجيلالي الزرهوني الملقب ب "بوحمارة أو الروكي" في الفترة ما بين 1902 - 1909 أي فترتي حكم السلطانين العلويين مولاي عبد العزيز ومولاي عبد الحفيظ، وذلك من خلال تجميع وترجمة مقالات وكتابات أجنبية معاصرة تناولت وتتبعت الحدث طيلة مراحل تطوره ومن زوايا نظر متعددة. ونظرا للأهمية التاريخية لهذا العمل سنقدم في هذا المقال قراءة في الكتاب عبر مستويين من القراءة: المستوى الأول: القراءة الخارجية، والمستوى الثاني: القراءة التفاعلية مع السياق التاريخي لنصوص العمل والأحداث التي أطرتها.
القراءة الخارجية في الكتاب:
صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب سنة 2013 وهو من منشورات جريدة الاتحاد الاشتراكي، وطبع بدار النشر المغربية في نحو 207 من الصفحات. أما صاحب الكتاب فهو الصديق العزيز الأستاذ سعيد عاهد الصحفي بجريدة الاتحاد الاشتراكي والأديب والشاعر والمترجم الذي صدرت له العديد من المؤلفات وساهم في أعمال جماعية في مجال الشعر والأدب والترجمة1.
على مستوى الغلاف الخارجي للعمل فهو يتضمن صورتين تلخصان مسار تمرد شخصية "بوحمارة": الصورة الأمامية تعبر عن طواف جنود السلطان مولاي عبد الحفيظ ببوحمارة في قفصه أسيرا، والصورة الخلفية تصور عرض بوحمارة لرؤوس جنود المخزن في أحد أبواب مدينة تازة2، وبين الصورتين هناك مسار سبع سنوات من "تمرد" حمل مشروع مخزن جديد بديلا عن المخزن العزيزي (نسبة إلى السلطان المولى عبد العزيز)، وعكس بشكل جلي المرحلة العصيبة التي كان يمر بها المغرب مع تصاعد سطوة التغلغل الإستعماري الأوربي واهتزاز هيبة الدولة المغربية.
أما عنوان الكتاب يمكن اعتباره المفتاح الأساسي لفهم مضمونه ومحاوره حيث يتشكل من جزئين:
* الفتان: وهو اللقب الذي أطلقته المصادر التاريخية والرسائل السلطانية - بالإضافة إلى ألقاب أخرى (الدجال، بوحمارة، الروكي...) - على الجيلالي الزرهوني، وأبرز مثال على ذلك ما جاء في مؤلف المؤرخ عبد الرحمن ابن زيدان "إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس" حيث يتحدث عن أصل بوحمارة قائلا "...أصل هذا الفتان المارق من مدشر أولاد يوسف أحد المداشر الشهيرة بجبل زرهون..."3.
* محكيات من سيرة الروكي بوحمارة لصحفيين وكتاب غربيين معاصرين له: وهذا الجزء يوضح أن هذا العمل يتضمن سيرة "الروكي" وتطور أحداث "تمرده" من خلال مقالات صحفية ونصوص من مؤلفات أجنبية عاصر أصحابها "تمرد" بوحمارة وتناولوها في كتاباتهم المتضمنة في هذا العمل.
والكتاب في مجمله هو عبارة عن انتقاء وتجميع وترجمة لمقالات وكتابات أجنبية معاصرة ل "بوحمارة" تحكي عنه من وجهة نظر أصحابها وتصف لحظات "فتنته". وقد احتوى الكتاب على مقدمة تحت عنوان "عتبة"، و29 نصا أجنبيا مترجما إلى العربية، إضافة إلى ملحقين: الأول يضم 4 نصوص تاريخية مغربية حول بوحمارة، والثاني ملحق خاص بالصور والرسوم.
فمقدمة العمل التي وسمها سعيد عاهد ب "عتبة"، يطرح فيها روايتين مختلفتين حول إعدام الجيلالي الزرهوني "بوحمارة"، ونبذة تاريخية مختصرة حول "التمرد"، كما يقدم السياق التاريخي لنصوص الكتاب والمرتبط بإهتمام الرأي العام الأوربي بواقعة "الفتان" وهو ما ظهر من خلال ما كانت تنشره الصحافة الأوربية ابتداء من نونبر 1902 إلى حين إعدامه، كما خصص له العديد من الكتاب الغربيين المعاصرين له صفحات أو فصولا كاملة ضمن مؤلفاتهم التي كتبت حول المغرب خلال تلك الفترة. ويفصح صاحب العمل في "عتبته" عن أن الكتاب ليس بحثا تاريخيا أكاديميا بقدر ما هو تقديم باقة من النصوص الأجنبية المتعلقة بتمرد الجيلالي الزرهوني، ويعترف الكاتب في هوامش "عتبة" مؤلفه أنه قد سبق له نشر أجزاء مهمة من هذا العمل متسلسلة على صفحات جريدة الاتحاد الاشتراكي التي يعمل بها صحفيا، وقد تكون المتابعة التي حظيت بها من لدن القراء هي التي جعلته يتخذ قرار نشرها في كتاب بعد تطعيمها بنصوص أخرى.
يتضمن العمل كما سبق الذكر 29 نصا أجنبيا تغطي الفترة الممتدة ما بين 23 نونبر 1902 و1921 من صحف ومجلات وكتب فرنسية مختلفة وكتاب إنجليزي واحد، بالإضافة إلى ثلاثة تقارير ووثائق رسمية وخمسة نصوص مصدرية. ويمكن تقسيم النصوص عبر مرحليتن: الأولى ما بين سنتي 1902 و1904 وتميزت بتتبع النصوص لتمرد بوحمارة بين إمتداده الجغرافي وبداية التقلص والتقهقر. والثانية تمتد من سنة 1906 إلى 1909 سلطت خلالها النصوص الضوء على شخصية الروكي ومحيطه المباشر وكذا الموقف الفرنسي من حركته، انتهاء بأزمة المخزن الحفيظي وإعدام "الفتان" الجيلالي الزرهوني.
ويختم الكاتب عمله بملحقين: الأول يتضمن 4 نصوص وهي: رسالة من بوحمارة للقياد والشيوخ والأولياء نقلها المؤلف عن كتاب "زكارة: قبيلة زناتية غير مسلمة بالمغرب" للمستكشف الكولونيالي الفرنسي في الجزائر أوغست مولييرا، ثم 3 نصوص منتقاة لمؤرخين مغاربة هم: المؤرخ الحسن بن الطيب اليماني بوعشرين من كتابه "التنبيه المعرب عما عليه الآن حال المغرب"، والمؤرخ عبد الرحمان ابن زيدان في مؤلفه التاريخي "إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس"، والأخير الأستاذ عكاشة برحاب ونصه في الأصل منشور في "معلمة المغرب (الجزء الخامس)". أما الملحق الثاني يضم 45 صورة ورسما تشخيصيا للفاعلين والأحداث المرتبطة ب "تمرد" الروكي.
القراءة التفاعلية في الكتاب:
تكمن الأهمية التاريخية لهذا العمل في كونه يتناول سيرة الجيلالي الزرهوني الثائر المتمرد الفتان الروكَي الشهير ب "بوحمارة" في العقد الأول من القرن العشرين من خلال اختيار نصوص مصدرية منتقاة كتبت مرافقة لسيرة الشخصية المحورية لحظة بلحظة. فمدبر هذه "الفتنة" الجيلالي بن إدريس الزرهوني اليوسفي من عشيرة أولاد يوسف العربية المستقرة بالقرب من جبل زرهون، وهو طالب هندسة سابق شغل منصب كاتب لدى المخزن في رتبة متواضعة إلى أن أودعه الصدر الأعظم باحماد السجن بتهمة التزوير. وبعد وفاة هذا الأخير أطلق سراح بوحمارة من السجن سنة 1901 حيث قضى سنتين أو سنة من السفر إلى الجزائر وتونس، ولما عاد إلى المغرب أواسط سنة 1902 تمكن من إقناع أهل قبيلة غياثة بأنه مولاي أمحمد الأخ الأكبر للسلطان مولاي عبد العزيز والذي أبعده باحماد عن الحكم4.
ومن نواحي تازة (غياثة) نشط بوحمارة في مناهضة الإصلاحات التي استحدثها مولاي عبد العزيز في بنية نظامه، وانطلق في حملته ضد ضريبة الترتيب يجوب الأسواق والقبائل. ولعل الواقع السياسي والإجتماعي والإقتصادي للمغرب خلال الفترة العزيزية في تعقيده الشديد هو الذي أعطى ل "تمرد" بوحمارة طابعا حاسما في فتراتها التاريخية (1902-1905)، وجعلها "هزة" عميقة كادت أن تقرض أركان النظام من أساسه5. واستغل بذلك بوحمارة مظاهر التذمر المجتمعي من سياسة المولى عبد العزيز الذي قبل تطبيق نظام الترتيب، وانفتح على المؤسسات المالية الأوربية، فساهم انطلاقا من قبوله بمضمون الإصلاحات الاستعمارية في تكوين معارضة راديكالية دينية وسياسية وقبلية في نفس الوقت استطاعت أن تخترق على نفس المستوى مواقع النظام نفسه6.
لم يكن الجيلالي الزرهوني "بوحمارة" زعيما أو قائدا قبليا تمرد على المخزن ورفض طاعة أوامره، بل كانت طموحاته أكثر من ذلك بكثير حيث عمل على إحلال مخزن جديد محل المخزن العزيزي الذي كان غارقا في عدة مشاكل داخلية وخارجية عويصة7. ومما يؤكد هذا الطرح هو أن بوحمارة في ظرف أقل من ثمانية أشهر استطاع أن يحاصر فاس في اتجاه الضغط على المخزن يوم 22 دجنبر 1902، بحيث استطاع أن يهزم محلة مؤلفة من 15 ألف جندي وأصبح على بعد كيلومترات معدودة من مدينة فاس. كما استطاع احتلال وجدة بتاريخ 14 يوليوز 1903. وبين هذا التاريخ والقبض عليه وإعدامه سنة 1909 استطاع بوحمارة إقامة مخزنه الخاص في منطقة سلطته، وعقد تحالفاته السياسية وضمن ولاء عدة قبائل بالخضوع أو بالموالاة كنتيجة طبيعية لسياسة المخزن العزيزي8.
ومع أن حركة بوحمارة لم ترتكز على دعوة دينية ولا على عصبية قبلية ولا على نداء صريح للجهاد، فإن حجمها تعدى حجم الفتن العادية التي كانت تنتهي عادة بتحرك المخزن لمعاقبة العصاة وفرض الغرامات والذعائر عليهم. فقد دامت هذه الفتنة سبع سنوات ويمكن تلخيص أطوارها في مرحلتين أساسيتين: تمتد الأولى من أواخر العام 1902 إلى العام 1905 وأهم ما ميز هذه المرحلة تحقيق بوحمارة لانتصارات عديدة على المحلات التي بعثها المخزن من أجل وضع حد لتمرده، وبذلك توسع نفوذه ليشمل منطقة الشمال الشرقي بما فيها مدينة وجدة وقلعية وقصبة سلوان بالريف. وتمتد المرحلة الثانية من سنة 1906 إلى سنة 1909 وأهم ما ميزها خروج العديد من القبائل عن مساندة بوحمارة وإنزواء هذا الأخير بقصبة سلوان بالريف، وكان السبب الرئيس في خروج هذه القبائل عن طاعته هو تعامله مع الأجانب وعقده صفقات لاستغلال مناجم الريف معهم9. ومما لاشك فيه أن "تمرد" بوحمارة وما ترتب عنه من عواقب ساهم بشكل كبير في استفحال التدخل الأجنبي في المغرب، والتحكم تدريجيا في مالية الدولة ومداخيلها. كما كان هذا التمرد من بين الأسباب التي أدت إلى عزل المولى عبد العزيز عن الحكم. أما بالنسبة للجيلالي الزرهوني فإن بروز المولى عبد الحفيظ كسلطان للجهاد سرعان ما أفقده ما تبقى له من شعبية في منطقة الشمال الشرقي خاصة بعد أن تأكد للقبائل استعانته بالفرنسيين والإسبان حيث تمكن مولاي عبد الحفيظ من القضاء على "فتنة" بوحمارة في صيف سنة 190910.
لقد كانت انتفاضة بوحمارة فصلا من فصول انهيار الدولة المغربية في زمن التكالب الاستعماري، وشكلا من أشكال التمرد الاجتماعي الذي أفرزته الشروط الموضوعية المحيطة بمغرب العقد الأول من القرن العشرين. فقد دلت حركة الجيلالي بن إدريس الزرهوني على اهتزاز صدقية الدولة وهيبتها، وعبرت عن رفض ممارسات النظام العزيزي والتعلق بأي وسيلة ممكنة وبأي زعامة تخاطب عواطف الناس وآمالهم، خاصة عندما عدت نفسها جزءا من النسق الداخلي للسلطة الحاكمة، وهذا ما أدركته القوى الأجنبية خاصة فرنسا عندما استغلت حجم الثقوب المتناثرة داخل مجالات السلطة والمجتمع لتذكي الصراعات وتوظف بأسلوب غير مباشر حركة بوحمارة في مشروعها الاستعماري11. وإذا كان "الفتان" قد تمكن من تحقيق انتصارات كثيرة على الجيش المخزني فإنه لم يقدم بديلا سياسيا بالمستويات الدنيا لممارسة السلطة السياسية بل حددت له أدوار معينة نفذها من دون وعي منه لخدمة أهداف فرنسا وإسبانيا الإستراتيجية في المغرب بغية إضعاف المؤسسة المخزنية وانتزاع مجموعة من الاتفاقيات التي فتحت الباب مشرعا لتوقيع عقد الحماية سنة 1912.
يمكن القول أخيرا أن كتاب "الفتان: محكيات من سيرة الروكي بوحمارة لصحفيين وكتاب غربيين معاصرين له" عمل تجميعي لنصوص تاريخية بقلم صحفي مترجم مبدع حاول أن يغوص بنا في فترة تاريخية حرجة عرفت قيام حركة تمرد فريدة في تاريخ المغرب كانت تمتح من التقاليد القائمة في المجتمع المغربي أي التقاليد التي سارت على نهجها حركات الإحتجاج الشعبي في المغرب، وهو ما يجعل من هذا العمل مرجعا لا غنى عنه للقارئ العادي الشغوف بتاريخ بلاده، وللباحث في التاريخ المعاصر لمغرب زمن ما قبل الحماية.
حسام هاب/جريدة الاتحاد الاشتراكي
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.