صورة المرأة في الفكر الإصلاحي عند محمد الحجوي
-الدكتور سعيد بنسعيد العلوي
-كلية الآداب – الرباط
-الدكتور سعيد بنسعيد العلوي
-كلية الآداب – الرباط
أولا – الحجوي ومشروعه الإصلاحي
يجد الفكر العربي الإسلامي المعاصر صورة نوعية ، متميزة ، في كتابات المفكرين المغاربة في الفترة التي تمتد بين ثمانينات القرن الماضي وثلاثينات القرن الحاضر ( 1 ) . هي صورة سمتها حضور قوي لإشكالات الفكر الإسلامي المعاصر واهتماماته مع ما يصح تمثله ، فضلا عن ذلك ، بالتمثل المغربي لها . وفي كتابه محمد ابن الحسين الحجوي الثعالبي ( 1874 – 1956) يجد الباحث صورة مثل لما ندعوه بالصياغة العربية النوعية .
في شخصية الحجوي ثلاثة أبعاد ، لكل بعد منها دلالته على الواقع المغربي ، ولكل بعد منها ما يلقي على فهمنا لحياة الدولة والمجتمع أضواء كاشفة في مرحلة خطيرة من مراحل تشكل التاريخ المعاصر في المغرب : الموظف المخزني ، التاجر ، الفقيه . فهم هذه الأبعاد الثلاثة ، وإدراك الكيفيات التي تتفاعل فيها ، ثم محاولة استخلاص ما كان عنها في بناء الشخصية المتميزة للرجل : كل هذه معطيات وعناصر ضرورية للوقوف عند ما نعتبره مشروعا إصلاحيا تحديثيا ( معا ) عند محمد الحجوي .
1 – شغل الحجوي مناصب مخزنية سامية كثيرة خلال مدة تربو على الخمسين سنة تخللتها ( في أول عمله خاصة ) فترات من الانقطاع عن العمل الرسمي والتفرغ للتجارة ( بين سنة 1902 وسنة 1955 ) . عرف في هذه الفترة أربعة من الملوك المغاربة ( مولاي عبد العزيز ، مولاي عبد الحفيظ ، مولاي يوسف ، محمد الخامس ) ، وشهد المغرب في حاله السالفة على توقيع عقد الحماية ، ثم عاصر فترة الحماية مضطربا بين الوفاء للدولة المغربية وترضية السلطات الحمائية . وفي سيرته الذاتية تستوقفنا فقرة يتحدث فيها عن سنوات الاضطراب العصبية التي عاشها المغرب بين مطلع القرن وبين حلول الاستعمار الفرنسي في المغرب بموجب ” عقد الحماية ” وكان شاهدا عليها :
” بدأ انقلاب الأحوال بالمغرب بثورة أبي حمارة التي سببت فقر مالية المغرب والسلف الأوروبي ، وسقوط المالية بيد إدارة السلف وفناء حماة المغرب و أبطاله في الحروب الداخلية. وقد اختل النظام ، وضاع الأمن وفسدت الأخلاق ، وضاعت الفضيلة والأمانة وتكالبت الناس على الرياسات الوهمية وجمع الحطام . وتسلط على مناصب الدولة كل دخيل جاهل ، فجر ذلك إلى تلاشي الدولة العزيزية ، وتتابعت المحن و أظلم جو المغرب . وفي أثناء ذلك وقعت معاهدة 8 أبريل 1908 بين فرنسا والإنجليز ، ثم مؤتمر الجزيرة ( 1906 ) . وبإثر المؤتمر بيسير سقطت الدولة العزيزية وقامت الدولة الحفيظية ( 1908 ) . ثم وقع إثر ذلك الاحتلال (1911 ) ، ثم إعلان الحماية ( 1912 ) ، هذه إحدى عشرة سنة رأى المغرب فيها من الأهوال والشدائد ما يشيب له الرضيع وتندرك له الجبال ” ( 2 ) .
لم يكن الحجوي متفرجا سلبيا على الفترة التي يتحدث عنها ، بل إنه كان ممثلا فاعلا فيها بحكم المناصب العديدة التي شغلها في منطقة المغرب الشرقي أيام ” فتنة بوحمارة ” ( نائبا عن وزيري المالية والجيش ، تكلفا من قبل المكل بسفارة إلى الجزائر للتفاوض مع السلطات الفرنسية .. ) . كما أنه كان ممثلا فاعلا في الفترة اللاحقة على ذلك في عهد الحماية ، إذ شغل مرات متعددة منصب وزير المعارف ومنصب العدلية ، ولم يعد وجوده خارج السلك المخزني سنوات قليلة معدودة – وبالتالي فقد كان الحجوي موظفا مخزنيا ساميا على بينة من سير الدولة ودواليبها ، و ذا إطلاع واسع على صعوبات الدولة ومشكلاتها في عصر الحماية وشاهدا على الصراع الطويل بين عمل السيطرة الاستعمارية وإدارة التحرر الوطني ( 3 ) .
2 – ينتسب محمد الحجوي إلى بيت اشتهر بمزاولة التجارة وبالنجاح فيها . وفئة التجار الكبار في المغرب في الشطر الأخير من القرن التاسع عرفت الكثير من البلدان الأوروبية و أقامت معها علاقات تجارية كبيرة . و الحجوي يحدثنا أن أباه كان يتردد على بريطانيا وعلى مدينة منشستر خاصة و أنه أقام فيها سنوات عدة ، والحق أن صاحبنا لم يرث عن أبيه تجارة عريضة جعلته يقيم بدوره علاقات مع دور التجارة في مرسيليا وإيطاليا ومنشستر فحسب، بل إنه اكتسب بدوره حسا تجاريا عاليا ونظرا متفتحا على العلم الحديث ومكتسباته . وفي ” مختصر العروة الوثقى ” ( وهي ” الفهرست ” الذي يترجم فيه لأشياخه و أساتذته ) يأتي على ذكر ” رجال لم يشتهروا بالعلم ولكن لهم فضل على أقرانهم ” فيعد في جملتهم تاجرين من التجار الكبار يقول عن أولهما أنه لم يكن ” يقع تغيير في الأسواق التجارية أو السكك المتعامل بها إلا قيده في دفتر خصصه لذلك . فما مضى زمن حتى صار دفتره مرجعا لفصل الدعاوي التي تتعلق بهذا النظام الاقتصادي مما يرجع للنفقات ( … ) فهو و أن كان أميا ، بمعنى أنه لا يعرف مصطلحات الفنون فقد كان مرجع القضاة والعدول ( … ) يرجع إليه في مهمات عويصة ( … ) أستفيد من مجالسته فوائد لا تقل عن الفوائد التي أجدها في القرويين . غير أن فوائد القرويين عامة نظرية ، وهذه تمارين عليها وتبين لجزئياتها ” . ويقول عن ثاني التاجرين إنه ” جال في الشرق واستفاد من جولته المعرفة المؤسسة على المشاهدات (…) أخبرني أنه تلميذ لجمال الدين الأفغاني و أنه كان يحضر دروسه الليلية التي كان يلقيها على الشيخ محمد عبه و أقرانه . وهناك كان رفيقا لعبده ،
والمويلحي ، وسعد زغلول ، وعبد الله النديم ، وأمثالهم من أدباء الشرق واستفاد من مجالستهم فوائد لم تكن مع أحد في المغرب في وقته ” ( 4 ) ونحسب أن شهادات مماثلة في القول إن أجواء كبار النجار في فاس ، في نهاية القرن الماضي ومطلع القرن العشرين ، لم تكن بعيدة عن مشاغل التحديث و إدارة الانفتاح على العالم الخارجي : شرقا وغربا – .
3 – لا شك أن الفقيه محمد الحجوي كان في طليعة العلماء المغاربة الذين تشهد لهم كتاباتهم الغزيرة بسعة المدارك ، وقوة الاطلاع على مصادر الثقافة الإسلامية الأصلية ، وبالقدرة على القول في الدين بما يبين على قدرات هائلة في ممارسة الاجتهاد الحق سواء ما كان متعلقا منه بفقه العبادات أو بفقه المعاملات . وقد يكفي أن نذكر كتابه الشهير ” الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي ” ، وأن نستحضر فتاواه في تجويز ” التأمين ” وفي ” الأوراق المالية “، وفي ” الاعتماد في ثبوت الهلال على خبر البرق ” وغيرها … لنلمس مظاهر عظيمة من مظاهر التجديد في الدين ولنقر بسلطته العلمية فقيها مجتهدا من الدرجة الأولى .
الأبعاد الثلاثة هذه في شخصية الحجوي مفاتيح ضرورية لإدراك المشروع التحديثي كتابه الغريزة والمتنوعة . عند الحجوي ، والموظف المخزني ، قراءة للواقع السياسي السيء الذي كان شاهدا عليه وككل قراءة فهي تقدم تشخيصا لأعراض السوء وتقترح في الوقت ذاته ، حلولا علمية : والسوء يرجع إلى ضياع الأمن ، واختلال النظام وسوء الأخلاق – والحلول ليست سوى تساؤل عن الكيفية الملائمة التي تكون بها الاستفادة من البلاد المتقدمة من أوروبا . وعند الحجوي التاجر النابه ، تشخيص لأعراض التأخر الاقتصادي ، علاماته ، ضعف الممارسة التجارية ، ضيق النظر فيها ، الجهل بأساليبها ، ثم الإسراف في النفقات الراجع إلى التشبث بالعادات السيئة المتمكنة من المجتمع ، ومن فئات الموسرين فيه – وهم كبار التجار خاصة . أما الحل العملي ومجاوزة واقع هذا التأخر فلا يكون إلا بما تحقق به التقدم في بلاد أوروبا . يتساءل الحجوي في محاضرة له عن ” مستقبل تجارة المغرب ” : ” لماذا تقدم الأوروبيون وتأخر المسلمون ؟ ” وجوابه دقيق ، واضح ، وقاطع : ” تقدموا لأنهم قدمهم العلم بالتجارة و أخركم الجهل بها ” . وينظر الفقيه المجتهد ، وقد استحضر الموظف المخزني ، في نظم التعليم وبرامجه ، وفي نظام الدراسة في القرويين خاصة ، وفي غياب مواد فنون كثيرة ، وفي ضعف على الإقبال على التعليم ” العصري» ..فيرى في ذلك كله سببا للتأخر مثلما كان حضوره عاملا في التقدم في بلاد الأوروبيين … ولذلك فهو ينادي بوجوب تطوير أساليب التعليم كلها مع التأكد على عناصر ثلاث خاصة : أولها وجوب الإقبال على دراسة اللغات الأجنبية ، وثانيهما الاهتمام بتعليم التجارة (فنونا، وأساليب ، ومحاسبة إلخ … ) وثالثها : العمل على إفساح المجال للمرأة للدرس والتعليم ( 5 ) .
تلك هي المكونات الأساسية لمشروع الحجوي ، لم نتحدث فيها عما بذله من جهود عملية ، فنجح أو أخفق فيه وهو في موقع المسؤولية واتخاذ القرار ، ولا عما سكت عنه و أغفله متعمدا . وفي تلك المكونات قراءة تشخيصية للواقع ، وحلول ضمنية أو تدليل على حلول من أجل مجاوزة واقع يستدعي المجاوزة من أجل الإفلات من دائرة الانحطاط والتخلف. وفي القسم الموالي نحاول إلقاء ضوء كاشف على ما كان في ذلك المشروع متعلقا بالمرأة وبالدعوة إلى تحررها عن طريق التعليم والمعرفة .
ثانيا – تعليم المرأة : المقبول والمرفوض
سؤالان اثنان توحيهما الآراء والأقوال المتعلقة بتعليم المرأة عند الحجوي : لماذا كان تعليم المرأة ضروريا أو واجبا ؟ ماذا يلزم تعليم المرأة ؟
2 . 1 – لماذا كان تعليم المرأة ضروريا ؟
يذكر الفقيه الحجوي جملة أسباب يعلل بها تلك الضرورة في أول محاضرته عن “تعليم الفتيات لا سفور المرأة ” . و أول سبب يورده كونه لم يقف ” في الكتاب والسنة على دليل يمنع المرأة من العلم ، أي لعم كان ، أو يوقفها عند حد محدود في التعليم العربي الديني ” ثم يحتج ، على عادته ، بأمثلة من سلوك النبي r وصحابته تؤيد ذلك ( 6 ) . فهل كان الحجوي يكتفي بالرد على معترض على تعليم المرأة ؟ من الطبيعي أن نقدر وجود تيار قوي متشدد في المغرب ، بين الحربين العظيمين ، يعارض تعلم المرأة . والحجوي نفسه كان قد لقي معارضة عنيفة على دعوته إلى تعلم المرأة في محاضرة سابقة له كان قد ألقاها سنة 1912 ، بضع عشرة سنة قبل محاضرته هذه – وكان فيها أكثر جرأة في القول وأقل تحفظا في إعلان الرأي .
ولكن احتجاج الحجوي كان لأمر يعنيه أكثر الاعتراض والمتعرضين ، فقد كان يسعى لتأييد رأي آخر يؤمن به ويشتد حماسه في الدفاع عنه : ذلك هو الاستشهاد بما عليه أوروبا ، من إتاحة الفرص لتعليم ابتدائي إجباري لعموم الأطفال ذكورا و إناثا ” فالتعليم عندهم إجباري على الرجال والنساء ، فكل صبي بلغ سن التعليم لا بد أن يدخل المدرسة ويتعلم التعليم الابتدائي : القراءة والكتابة ومبادئ الحساب ، والتاريخ ، والجغرافيا ، والأدب . ثم من كان غنيا و أراد التعلم الثانوي تقدم إليه ، ومن كان فقيرا وليس له داعية للعلم فلابد أن يعرف صناعة من صناعات . ولذلك ترى قدرا من العلم اشترك فيه الذكر والأنثى ، والغني والفقير. بذلك القدر ارتقى مجموع الأمة من الحضيض الذي وقع فيه مجموع الأمم الغير متمدنة التي لا يعرف غالب أفرادها كتابة ولا أدبا ولا حسابا ، ولا ، ولا ..كأهل المغرب الأقصى “( 7 ) . ويتوسع الفقيه الحجوي في تعداد الشواهد والحجج التي تثبت وقوف الإسلام بجانب قضية تعلم المرأة : فيذكر أن ” الإسلام ثقافة وعلم وتهذيب أخلاق ، فكيف يتصور عاقل أن يمنع من تعلم المرأة ويترك نصف المتدينين بع خلوا من الثقافة والفضيلة ؟ ” . ويذكر أن النبي r كان يجعل للنساء ” يوما مخصوصا لتعليمهن ، وكانت تأتيه نسوة الأنصار يسألنه عن الدين ، وهو في جمع من الصحابة ، من غير أن ينكر عليهن ( … ) وكان إذا خطب الرجال ووعظهم تقدم للنساء فخطبهم ووعظهن وعلمهن ” . ثم يحتج لرأيه أخيرا بمشاركة النساء والرجال في الإسلام : دفاعا عنه ، ونشرا له ، ومعرفة به ” فما من منبقة سبق الرجال إليها ، كالهجرة والبيعة والجهاد والنصرة في الدين و إعلاء شأنه ونشره والدعاية إليه ، إلا كان للنساء حظهن في ذلك ( …) وهل كان إسلام عمر ، الذي هو من أعظم أركان هيكل الإسلام ، إلا على يد أخته التي وجدها تتعلم القرآن خفية في منزلها ؟ ” ( 8 ) .
ولكن الحجوي الفقيه ، لا يريد أن يغفل عن سبب آخر ، عميق ، ما يفتأ يذكره في مواطن عدة من كتاباته وهو تأثير التنشئة على إعداد الإنسان الراشد والمفيد في المجتمع . وهو في ترجمته الذاتية لا ينسى ذكر ذلك واستخلاص العبرة منه بعد أن يحدثنا عن أثر تربية جدته في تكوينه واستمرار ذلك الأثر في سلوكه : ” تأثير هذه التربية الأولى على حياتي هي التي أوضحت لي أن تربية الأمهات لها دخل كبير في تهيئة الرجال النافعين و إعداد الأمم للنهوض . لذلك أرى وجوب تعليمهن وتهذيبهن تعليما يليق بديننا ويزين مستقبل أولا دنا ، ويصيرهن عضوا نافعا في هيأتنا الاجتماعية . فلا غني عن إعانتهن في تربية رجال المستقبل الذين عليهم مدار حياة البلاد ” ( 9 ) .
هل تعني هذه الحجج كلها وجوب القول بتعلم المرأة دون تقييد أم أن هنالك حدودا يلزم الوقوف عندها ، فهي خطوط حمراء لا تنبغي
مجاوزتها ؟
2.2 – أي تعليم إذن ؟
هو ذاك الذي يمكنها من تحصيل ما تكون في حاجة إليه بحسبانها ربة بيت وأما . ” عن الأم يلقن الولد معرفة الحقائق والعقائد ويعمر قلبه باليقين أو بالأوهام ( …) وفي الصغر يأخذ قضايا مسلمة في البيت تنطبع في قراره فكرة ” (10) . وهذا يعني أن يكون ما تتعلمه ، وما ينبغي تعليمه لها ، هو مبادئ الدين ” ضروريات الدين من عقائد وعبادات ومبادئ النحو والآداب العربية” . ثم ” تعلم الحساب كذلك ، وعلى الأقل قواعده الأربع ، بحيث إذا مات زوجها و أصبحت وصية على أولادها أو تصرفت لنفسها تعرف ضبط ما هي مضطرة إليه” .وبعد ذلك ينبغي لها أن تتعلم كل ما يمت بصلة إلى تسير شؤون البيت حتى تكون مدركة لها على أسس علمية ” تدبير المنزل بمعناه الحقيقي ، والاقتصاد ( …) تدبير الصحة والرياضة البدنية، لما في ذلك من حفظ صحتها وصحة أولادها ( …) فن التربية لتحسن تربيتهم به ( … ) تتعلم صنعة أو أكثر ، كالخياطة والطرز والفنون الجميلة والطهي وغير ذلك ، استعدادا للطوارئ ولا سيما إذا كانت فقيرة “( 11) .
تعليم لا يكون في حاجة بصاحبته أن تتجاوز المرحلة الابتدائية دون غيرها : ” لنقتصر بهن على التعليم الابتدائي الذي يقتصر عليه سواد الأمم الراقية ، فضلا عن أمة مثلنا لا يحصله منها إلا أقل القليل من الذكور ” . أما ما زاد على ذلك فلا حاجة لها به ، أو بالأحرى لا حاجة لنا به ” لسنا بحاجة لها أن تكون عدلا ، أو قاضيا ، أو كاتبا ، أو طبيبا ،أو مهندسا ، أو محاميا ، أو مدير مصنع ، أو رئيس مكتب ، أو دار تجارة إلخ … ” ( 12 ) . لسنا بحاجة إلى ذلك لأسباب كثيرة يسوقها الفقيه الحجوي ويراكم بعضها فوق بعض . أولا ، لكيلا تزاحم الرجال في مناصب العمل والحال أن هذه لا تكاد تفي بحاجة الرجال إليها . وثانيا لأنه ” تبين أن المرأة ضعيفة في جهازها العصبي ، ليس لها من الاقتدار الذهني ما للرجل إلا قليل منهن -والنادر لا حكم له ” ( 13 ) . وثالثا لأن مجاوزتها التعليم الابتدائي إلى الثانوي يكون عنه العمل متابعة الدرس العالي” ورحلتها لأوروبا لإتمام دراستها ” . ورابعا ، لأن هذه الأمور تسوية لها بالرجل ” وكل من يريد تسويتها بالرجال في الحقوق فإنما يريد نقض شريعة الإرث الذي قسمه القرآن ونقض سائر أحكام الشرع الإسلامي الذي به حياتنا وعليه مماتنا ” ( 14 ) .
نعم في إمكان الفتاة أن تطلب من العلوم والآداب ما شاءت ، لكن ذلك يكون في بيتها من رواء حجاب . هذا يعني بوضوح أن خطا أحمر يخط فلا يجوز تجاوزه ، يخطه السن إذا بلغت منه البنت مبلغا ” تكون مطيقة الزواج وتجري فيها دواعي الشهوة والتهييء للولادة”.
ثالثا – السفور والفجور :
يحدد الحجوي هذه السن في التاسعة ، قياسا على فعل النبي r إذ بنى بعائشة وهي بنت تسع سنين . والقياس كما نعلم ، هو ممارسة الاجتهاد ، فهو ، لغة علماء أصول الفقه ، الأصل الرابع من أصول أدلة الأحكام يأتي حسب الترتيب الضروري – الواجب بعد الكتاب، والسنة ، والإجماع . فالمسألة اجتهادية أولا و أخيرا . والحجوي يدرك ذلك بطبيعة الأمر و أنت تقرأ كلامه أولا وثانيا وثالثا فلا تجد فيه استنادا إلى حجة قاطعة من الشرع تقول بحجب المرأة عن الخروج فهو لا يجد إلا حجة أخرى يلتجئ إليها المجتهد : هي حجة المنع خوفا من وقوع محظور ، أو ارتكاب سلوك يكون مظنة سوء . فالمنع يكون ، في لغة علماء الأصول ” سدا للذريعة ” أي إقفالا و إغلاقا لما يمكن أن يقع التذرع به أو الاعتذار بواسطته. منع السفور ، في تقدير الفقيه ، يكون تحسبا لما يمكن أن يؤدي إليه من مكروه أو يوقع فيه من خطأ بالنسبة للمرأة نفسها ثم بالنسبة للمجتمع . ” و إنما السفور ويل وثبور على المرأة نفسها ذاهب بشرقها وعائق لها عن أداء وظيفتها . فسفور المرأة ناقص من جمالها ، ومفتر لأشواق زوجها إليها وثقته بها ومزر بقيمتها – بخلاف تحجبها الذي يزيد في شرفها بما لا يكون عند ابتذالها ولو كانت أبدع النساء جمالا وكمالا ” ( 15 ) .
أما بالنسبة لأخطار السفور على المجتمع وانعكاساته السلبية عليه فإن الفقه الحجوي يجتهد في الاحتجاج بكل سبيل . فالسفور يفضي إلى الاختلاط ومزاحمة المرأة للرجل كالخروج إلى ” مجالس الرقص واللهو وغير ذلك مما يكون محل الريبة والفتنة والابتذال فلا سبيل إليه في الشريعة الإسلامية ” ( 16 ) . والسفور يفضي إلى إحداث الاختلال في نظام العائلة، من حيث نتيجته البعيدة، فهو يقول بالتسوية المطلقة بين المرأة والرجل ” ثم المساواة في أقل من لمح البصر ، تتحول إلى تفوق المرأة على الرجل ” ثم هذه مسألة ،في أقل من لمح البصر ، تتحول تدريجيا إلى تفوق المرأة على الرجل ثم تؤول إلى صيرورته في قبضتها ، بل ربقتها وتحت رحمتها كما نشاهد في أوروبا ومن سلك مسلكها ” ( 17 ) . وقارئ ” الرحلة الأوربية ” يجد كل صور السلبية في أوروبا ، مما لا يسع مسلما قبوله من ذلك التبرج الشديد للمرأة الأوروبية ، وفي فرنسا خاصة ” فقد خلعن ربقة الحياء وتبرجن تبرجا لا يتصور فوقه إلا فساد الحيوانات في الطرق جهارا ” ( 18 ) . وعلى العكس من ذلك يستحسن سلوك المرأة في المجتمع البريطاني حيث المرأة أقل ميلا إلى التبرج ” ومن المعلوم في أخلاق إنجليز شدة الحشمة والوقار وقلة التهتك في نسائهم ” ( 19 ) . وصورة المرأة الأوروبية عامة ، والفرنسية خاصة ، على نحو ما تسلك به في الشوارع والمنتزهات العامة ، هي ما تخوفه وتحمله على القول بمنع السفور ” سدا للذريعة ” . هي ما تجعله لا متشككا في أمر” التمدن ” فقط ( وهو الذي نعلم حماسه الشديد إليه ) بل إنه يدعو إلى رفضه ونبذه إذا كان من مستلزماته رفع الحجاب المانع عن المرأة وقبولها في المجتمع سافرة ” نحن لا نرضى إبدال لقب متدين بمتمدن ، ولا ما نحن فيه من هناء العيش وراحة الضمير باسم تحرير المرأة ، وفي الحقيقة استرقاق الرجل وقلب نظام المجتمع الإسلامي ونبذ الشريعة التي كلفت راحتنا وهناءنا منذ ثلاثة عشر قرنا ونصف ” ( 20 ).
ثم إن الحجوي يحتج بكيفية أخرى يصح نعتها بالاحتجاج بالسلب : فهو يقول ” ما بلغنا أن امرأة انتقدت الحجاب أو تقززت منه أو عدته مهينا أو مشينا لجنسها ، بل فبلته بطيب خاطر ” .” فهي إذن دعوى وهمية لم يطلقها بعد رجال الإسلام “يدعون الإسلام وولدوا في الإسلام ولكنهم حرموا لذته وأشربوا في قلوبهم حب الشهرة ” . وقد يقدر القارئ أن المقصود بالإشارة هما الرجلان اللذان اشتهرا ( مع الاختلاف في رؤية كل منهما ) بالدعوة إلى تحرير المرأة : الطاهر الحداد في تونس ( وربما كانت للحجوي معرفة شخصية به ، فقد كان معاصرا له ، وكان يكثر من الذهاب إلى تونس ) وقاسم أمين في مصر ( وكان قد مات في سنة 1908 ، أي بضع وعشرين سنة قبل حديث الحجوي عن المرأة ) . وهو على كل حال لا يذكرهما بالإسم إلا في هامشين إثنين ( 21 ) ولكن المحور الأساسي عند الحجوي يظل هو قاسم أمين .
قد يلزم أن نقول كلمة صغيرة لتعليقات الحجوي على قاسم أمين واعتراضاته عليه : يوافق الفقه المغربي المصري في القول إن السبب في انحطاط شأن المرأة في العالم الإسلامي وتفشي الأمية والجهل في أبناء جنسها لا يرجع إلى الإسلام بل المسؤول عنه هم المسلمون ” حيث أهملوا تعليم المرأة ” . ويوافقه ، تضمينا لا تصريحا ( فهو لا يذكر اسمه كما أشرنا إلى ذلك ) ، في الربط بين تأخر المسلمين وتأخر المرأة من جهة أميتها وانعكاس ذلك تربيتها لأولادها . ولكن الحجوي لا يسلم من آفة تحوير أراء قاسم أمين بل وتحريفها في معرض الاعتراض عليها .
يكتب الحجوي ” على أن عجبي لا ينقضي من رجل يزعم أنه مسلم يؤلف كتابا إسلاميا ( …) ثم يزعم بأن الحجاب لا أصل له في القرآن ”
( 22 ) والحق أن قاسم أمين ذكر أن الحديث القرآن الكريم عن حجب المرأة كان خطابا مخصوص به النبي وحده ( فهو كما يقول علماء الأصول : خاص يراد به خاص ) ولذلك فهو يكتب : ” ولما كان الخطاب خاصا بنساء الرسولr وكانت أسباب التنزيل خاصة بهن ، لا تنطبق على غيرهن ، فهذا
الحجاب ليس بفرض ولا بموجب على أحد من نساء المسلمين ” ( 23 ) ويكتب الحجوي ” يقولون : إن عهد السلف الصالح لم يكن فيه هذا الحجاب المضيق ويأتون شواذ الحكايات والقصص …” ( 24 ) . ولكن الحق أيضا أن قاسم أمين يلح على داعي التربية إلحاحا بجعل التربية في كتابه ” تحرير المرأة ” يتردد ذكرها كثيرا فيكتب ، على سبيل المثال : ” سوء التربية هو الذي يخرق كل حجاب ، ويفتح على المرأة من الفساد كل باب ” ( 25 ) – وبالتالي ، الحق أن قاسم أمين لم يكتف بإيراد الحكايات الشاذة ، ولا هو أول الحكاية على النحو الذي يخم القضية التي يدافع عنها على نحو ما يلزمه به الفقيه الحجوي .
خاتمة
في سنة 1912 ألقى الحجوي محاضرة يدعو فيها إلى تعليم المرأة واجتهد فيها في ربط الأسباب بين التقدم وبين حسن تعلم المرأة . ويعد ذلك ببضع عشرة سنة ( 1935 ) يبدو موقفه أقل جرأة و أشد تحفظا . هل يرجع ذلك إلى التأثر بما كان لمحاضرته الأولى من ضجة كبيرة أثارت عليه غضب الفئة المحافظة من رجال المخزن واستياء المتشددين من علماء الدين ؟ أم هل موقفه انفعال لما وجده من آراء جريئة في كتاب الطاهر الحداد شعر معها بخدش في دينه فانتصب للدفاع عنه ( ولربما كان لأصدقائه من علماء الزيتونة نصيب في تحريك غضبه وشططه في القول على المفكر التونسي ) ؟ أم إن الأمر يتعلق بتراجع شخصي ، مصدره حصول تطور في نظرته إلى الأشياء ، أو باستدراك على ما قاله في محاضرته الأولى ؟
ربما جاز القول أن التفسير يكمن في هذه الأسباب كلها مجتمعة ، فالحجوي يستدرك في تأكيده ” تعليم الفتيات لا سفور المرأة ” ما فاته قوله في محاضرته الأولى ، وهو لا يرى فائدة في إثارة حفيظة العلماء وضده وتألبهم عليه في مجتمع ضده وتألبهم عليه في مجتمع مقاومته لإرادة التغيير والتطوير كانت لا تزال ، بين الحربين العظميين خاصة ، مقاومة شديدة كثيرة – بل ربما حدث تراجع عن عدد من المكتسبات التي كان المغرب قد عرفها قبل ذلك في طريق تعليم المرأة . والحق أن المطلع على مجريات الأحوال في المغرب المعاصر منذ ستينات القرن خاصة ، يلمس من مقاومة المجتمع لمختلف أشكال التغيير أصنافا كثيرة ، ويصادف التقاء عجيبا وتضافرا في الجهود بين قوى المحافظة بدافع أهداف متباينة : قوى المحافظة والتشدد في فهم الشريعة الإسلامية ، وقوى المعارضة لكل عمل في التحديث من شأنه أن ينال من نظام الأشياء على النحو الذي يحفظ مصالحهم ، وقوى الجهل والأمية وتكلس الذهنية السلبية الانهزامية .
الحق أن صوت الدعوة إلى تحرير المرأة في خجله وتحفظه ، بل وفي تردده بين الإقبال والإحجام ، بين التقدم وبين النكوص – على النحو الذي لمسناه في خطاب محمد الحجوي- يصح اعتباره مؤشرا دالا على صعوبات داعي التحديث والتغيير في نظام اجتماعي – ثقافي وفي بنية ذهنية . الحق أخيرا أن حضور ذلك الصوت ، مجرد الحضور ، ينبه المؤرخ للفكر المغربي المعاصر في العقود الثلاثة الأولى إلى علامات دالة ويحمله على مراجعة العديد من الأحكام والآراء السائدة حول ذلك الفكر .
( 1 ) سعيد بنسعيد العلوي ، الاجتهاد والتحديث : دراسة في أصول الفكر السلفي في المغرب ، منشورات مركز دراسات العالم الإسلامي، مالطة ، بيروت ، 1992 .
( 2 ) محمد الحجوي ، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي ، المطبعة الجديدة ( د . ت ) فاس ، الجزء الرابع ،ص . 205 – 206 .
( 3 ) للمزيد من التفاصيل انظر : سعيد العلوي ، الاجتهاد والتحديث … ، سبقت الإشارة إليه ص . 67 وما بعدها ؛ وانظر كتابنا : أوربا في مرآة الرحلة : صورة الآخر في أدب الرحلة المغربية المعاصرة ، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية ، الرباط ، 1995 ،
ص . 71- 85 .
( 4 ) محمد الحجوي ، مختصر العروة الوثقى ، مطبعة الثقافة ، 1937 ، سلا ( المغرب ) ،ص 19 – 20
( 5 ) انظر الفصل الثالث من الاجتهاد والتحديث ( المتقدم الإشارة إليه ) ؛ الفصل الرابع من أوروبا في مرآة الرحلة .. ( المتقدم الإشارة إليه ) . فالأمنر يتعلق ، في المرجعين معا ، بشخصية الحجوي ومشروعه .
( 6 ) محمد الحجوي ، تعليم الفتيات لا سفور المرآة ،ضمن ملاحق كتابنا ( المتقدم ذكره ) ، الاجتهاد والتحديث …، ص . 207 .
( 7 ) محمد الحجوي ، الرحلة الأوروبية ، نص الرحلة ضمن ملاحق كتابنا أوروبا في مرآة الرحلة … انظر : ص . 117 .
( 8 ) محمد الحجوي ، تعليم الفتيات … ، مرجع سبقت الإشارة إليه ، ص . 207 – 210 .
( 9 ) محمد الحجوي ، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي … ( سبقت الإشارة إليه ) ، ص . 202 .
(10) محمد الحجوي ، تعليم الفتيات … ،ص 211 .
( 11) المرجع السابق ، ص . 212 – 215 .
( 12 ) المرجع السابق ، ص . 217 .
( 13 ) المرجع السابق ، ص . 218 .
( 14 ) المرجع السابق ، ص . 213 .
( 15 ) المرجع السابق ، ص . 225 .
( 16 ) المرجع السابق ،ص 226 .
( 17 ) محمد الحجوي ، تلرحلة الأوروبية ، ما سبقت الإشارة إليه ، ص . 131 .
( 18 ) المرجع السابق ،ص . 158 .
( 19 ) محمد الحجوي ، تعليم الفتيات … ، مرجع سبقت الإشارة إليه ، ص . 227 .
( 20 ) نفس المرجع والصفحة .
( 21 ) يقول في الهامش الأول : ” كالطلهر الحداد التونسي وقاسم أمين المصري الذي هتك الحجاب و أزال عن هيبة الشريسعة كل جلباب . ولو أنه عاش ورأى حالة مصر الآن ، وما يتخبط فيع مجتمع قومه من أزمة المرأة السافرة ، بل السافلة ، لقرع سن الندم ولات حين ندم ”
ويقول في الهامش الثاني : ” كالطاهر الحداد التونسي الذي ألف أخيرا امرأتنا في المجتمع . وكفى في هذا التأليف بشاعة اسمه . يقصد، في سخريته الفقهية : يكفي بشاعة أن جعل المرأة في ” المجتمع ” ، أي نرسلها طليقة مجردة من العرض .
الحق أن الحجوي ، في منحاه التهكطي هذا ، يحدث في عنوان كتاب الحداد تحريفا له دلالته . ذلك أن عنوان كتاب المفكر التونسي هكذا: امرأتنا في الشريعة والمجتمع – فكأنه يريد أن يلغي ارتباط تفكير الحداد عن الشريعة ما دام يدعو إلى رفع الحجاب عنها ولا يرى اتعليمها حدا نقف عنده .
( 22 ) سعيد بنسعيد العلوي ، الاجتهاد والتحديث … ( سبقت الإشارة إليه ) ، ص . 228 .
( 23 ) قاسم أمين ، الأعمال الكاملة ، دراسة وتحقيق محمد عمارة ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، 1976 ، بيروت الجزء الثاني ، ص.43 – 44 .
( 24 ) سعيد بنسعيد العلوي ، الإجتهاد والتحديث ، ( سبقت الإشارة إليه ) ، ص . 229 .
( 25 ) قاسم أمين ، الأعمال الكاملة … ، ( سبقت الإشارة إليه ) ، ص . 62 .
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.