المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 92"

بقلم: مصطفى العلوي
في إطار الحرب النفسية التي كانت تمارس على السلطان خلال الحرب التي شنها بوحمارة على النظام المغربي، كان الرأي العام الوطني متعرضا لحملة من الدعايات تقوم بها جنود مجندة تطلق للسانها العنان وتجعل من “الحبة قبة” كهاته التي يتحدث عنها الأستاذ عبد الوهاب بنمنصور في كتاب “أعيان المغرب”، رواية عن شاهد عيان يقول: ((حدثني شهود عيان كانوا في خدمة الدعي أنه كان يصور مولاي عبد العزيز ورجال مخزنه في صورة المرتدين المارقين من الدين الذين يستعينون بالنصارى ويتشبهون بهم ويحاولون إدخال نظمهم إلى المغرب وفرض عوائدهم على شعبه، ويصف الجيش المغربي بأنه جيش يخدم الكفر لا دين الإسلام، لأن قائده نصراني ومدربيه نصارى، ويسمي عسكره الكرونيين، ويؤكد لهم أن أكثريتهم إنجليز يأتي بهم أصحاب المنبهي مختبئين في جواليق (شواريات) الحمير والبغال والإبل.. وساعد على تصديقه والثقة بكلامه وإقبال أهل تلك القبائل عليه، انتقاده لضريبة الترتيب التي لم تستسغها عقول الناس المتخلفة في ذلك العهد، ووعده إياهم بإلغائها عندما يصفو له الأمر، فكانت انتقاداته التي يلقيها بأسلوب أخاذ تقع في النفوس قبل أن تسمعها الآذان، لأن أفكار الناس كانت حتى بدون ذلك مهتاجة متغيرة على المخزن بسبب التفريط الذي حصل في قضية توات والاتفاقيات التي عقدها عبد الكريم ابن سليمان ومحمد الجباص مع حكام فرنسا والجزائر بشأن الحدود، كما حكى لي أولئك الشهود أن الدعي كان يستعمل آلات غربية حديثة الصنع لا عهد للمغاربة بها، كآلات الفنوغراف وأسطواناتها، فكان إذا سجا الليل وهدأت الحركة وعم السكون وخلا بنفسه في خيمته، يضع على تلك الآلات أسطوانات سجلت عليها آيات قرآنية وأذكار صوفية عملت له خصيصا في الجزائر واشتراها من أسواقها أثناء إقامته بها، فيسمع أتباعه المسلحون الحافون من حول الخيمة قرآنا يتلى وأورادا تملى وحضرة صوفية تقام فلا يشكون في أن الملائكة والجن يخدمونه، وأن الله بالتالي معه، وحكوا لي أيضا أنه أراهم الشمس تطلع من مغربها في منتصف ليلة حالكة، وذلك بإشعاله حراقيات قوية زود بها عند رجوعه من الجزائر إلى المغرب، أو بعث بها إليه أصدقاؤه بعد إعلان ثورته)).
وكان الدبلوماسيون في طنجة في ذلك الوقت، كعادة الدبلوماسيين في كل الأوقات، يمططون الأحداث ويضعونها تحت المجاهر المكبرة لتزداد وضوحا في عيونهم وضخامة بالنسبة لمسؤولياتهم، وبالتالي مطيات كبرى للقفز لمناصب أعلى.
وذهب الأمر ببعض الدبلوماسيين إلى نصح بلدانهم بإقفال سفاراتها، ودبلوماسيون آخرون أخذوا يطلبون ضمانات كبرى عن حياتهم الشخصية، بينما لم يتورع دبلوماسيون آخرون عن استشارة حكوماتهم في إمكانية الاعتراف بحق بوحمارة فيما يعرف الآن في كواليس المنظمات الدولية من حقوق.
وهذا ما دعا وزير الخارجية عبد الكريم ابن سليمان، إلى كتابة رسالة إلى نائب السلطان بطنجة، الحاج محمد الطريس، للاجتماع بالسفراء وإطلاعهم على حقيقة الوضع وإقناعهم بأن الدولة قائمة بواجبها متحملة لمسؤوليتها، وهو – على أية حال – عمل مشكور ورد فعل على المستوى قام به وزير الخارجية بدلا من السكوت في إطار عملية إخفاء الحقائق وتغاض عن النظرة الإيجابية إلى الأوضاع، وقد كان لرد فعل وزير الخارجية أثره المحمود الذي أعطى الحكومة مهلة لتصفية بوحمارة، ولو سكت آنذاك.. لربما كان قد حصل العكس.
كان الناس قد بدأوا ينظرون إلى بوحمارة وهو يسجل الانتصارات المتوالية نظرة تعجب واستغراب، ولم يكن أحد يجرؤ على فتح عينيه على الحقيقة المجردة، وهي أن بوحمارة الثائر النشيط المتحرك ليلا ونهارا، والمسنود بمخطط استعماري وسند مادي وعسكري فرنسي وإسباني، إنما يواجه حكومة عزلاء منهوكة القوى الاقتصادية داخلة في عدد المأكولات التي سيلتهمها غول الاستعمار، وبوحمارة إنما هو بصدد مزاولة دور المروض الذي يملأ جسم الثور بالطعنات ازديادا لاستنزاف دمه قبل أن يسلم نفسه المقهورة وقواه المنخورة إلى الطعنة القاضية.
بينما تسلسل الأحداث وضع بوحمارة أمام الاضطرار إلى كشف بعض أوراقه، وأهمها أوراق كشفت جانبين أساسيين: أولهما أنه لا يتوفر على سند شعبي ولا تواطؤ محترم، وثانيهما أنه يعمل في خدمة القوة الأجنبية.
وهكذا، وعندما اضطر لتشكيل حكومته وتعيين وزرائه وقواد جيشه، لم يجد إلا المرتزقة الأجانب..
فأول من انضم إليه وحصل على لقب استخلافه، ذلك الجاسوس الفرنسي الارتباط الجزائري الجنسية، والذي حاربه الملك العظيم الحسن الأول عندما جاء لأقاليم الصحراء الشرقية يدعو سكانها باسم الدين إلى الاستسلام، ألا وهو بوعمامة الذي أصبح نائبا لبوحمارة.
أما قيادة الجيش، فقد أسلمها بوحمارة لضابط فرنسي التكوين جزائري الأصل، تخرج من الجيش الفرنسي الذي عمل فيه، وهو عبد المالك محيي الدين، حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، وكان الجميع يعرف دور عبد المالك في محاربة المقاومة الجزائرية والعمل مع الجاسوسية البريطانية.
ولم يكن ثالث رجل في “دولة” بوحمارة بأنظف ملف من سابقيه، فهو دجال يدعي النبوة ويجلس على الحصيرة، جاء من السعودية بعد أداء مناسك الحج وعرج على الجزائر حيث انتحل شخصية السلطان المولى عبد العزيز، مدعيا أنه هرب من فاس، وعندما جاء وقت العمل كشف “بوحصيرة” هذا عن اسمه الحقيقي: عبد القادر العتيقي، وأصبح مساعدا لبوحمارة، وعندما فشل بوحمارة عاد بوحصيرة من حيث أتى.. عاد إلى الجزائر.
أما الصدر الأعظم أو الوزير الأول في حكومة بوحمارة، فقد استقدمه من الجزائر أيضا، ويسمى صالح السفاج، تعرف عليه بوحمارة في تلمسان واختار بوحمارة أحد أصحاب المقاهي في تلمسان ويسمى عبد القادر التلمساني، كان خرازا ثم قهوجيا، وأصبح وزيرا للخارجية، أما وزارة الحرب والقيادة العليا للجيش، فإن بوحمارة لم يسندها لنفسه كما يفعل كل قادة الحركات الانفصالية، وإنما عين على رأس جيوشه ضابطا فرنسيا من كبار ضباط المخابرات الفرنسيين الذين كانوا يتواجدون في القصر السلطاني أيام الحسن الأول وبعده، وهو غابرييل ديلبيريل، الذي يعتبر نفسه عنصرا أساسيا في كيان المناورات الاستعمارية ضد السيادة المغربية، وهو نموذج للمجموعة التي كانت تحرك ثورة بوحمارة، وهي غنية عن كل تعليق.
الحرب النفسية
في إطار الحرب النفسية التي كانت تمارس على السلطان خلال الحرب التي شنها بوحمارة على النظام المغربي، كان الرأي العام الوطني متعرضا لحملة من الدعايات تقوم بها جنود مجندة تطلق للسانها العنان وتجعل من “الحبة قبة” كهاته التي يتحدث عنها الأستاذ عبد الوهاب بنمنصور في كتاب “أعيان المغرب”، رواية عن شاهد عيان يقول: ((حدثني شهود عيان كانوا في خدمة الدعي أنه كان يصور مولاي عبد العزيز ورجال مخزنه في صورة المرتدين المارقين من الدين الذين يستعينون بالنصارى ويتشبهون بهم ويحاولون إدخال نظمهم إلى المغرب وفرض عوائدهم على شعبه، ويصف الجيش المغربي بأنه جيش يخدم الكفر لا دين الإسلام، لأن قائده نصراني ومدربيه نصارى، ويسمي عسكره الكرونيين، ويؤكد لهم أن أكثريتهم إنجليز يأتي بهم أصحاب المنبهي مختبئين في جواليق (شواريات) الحمير والبغال والإبل.. وساعد على تصديقه والثقة بكلامه وإقبال أهل تلك القبائل عليه، انتقاده لضريبة الترتيب التي لم تستسغها عقول الناس المتخلفة في ذلك العهد، ووعده إياهم بإلغائها عندما يصفو له الأمر، فكانت انتقاداته التي يلقيها بأسلوب أخاذ تقع في النفوس قبل أن تسمعها الآذان، لأن أفكار الناس كانت حتى بدون ذلك مهتاجة متغيرة على المخزن بسبب التفريط الذي حصل في قضية توات والاتفاقيات التي عقدها عبد الكريم ابن سليمان ومحمد الجباص مع حكام فرنسا والجزائر بشأن الحدود، كما حكى لي أولئك الشهود أن الدعي كان يستعمل آلات غربية حديثة الصنع لا عهد للمغاربة بها، كآلات الفنوغراف وأسطواناتها، فكان إذا سجا الليل وهدأت الحركة وعم السكون وخلا بنفسه في خيمته، يضع على تلك الآلات أسطوانات سجلت عليها آيات قرآنية وأذكار صوفية عملت له خصيصا في الجزائر واشتراها من أسواقها أثناء إقامته بها، فيسمع أتباعه المسلحون الحافون من حول الخيمة قرآنا يتلى وأورادا تملى وحضرة صوفية تقام فلا يشكون في أن الملائكة والجن يخدمونه، وأن الله بالتالي معه، وحكوا لي أيضا أنه أراهم الشمس تطلع من مغربها في منتصف ليلة حالكة، وذلك بإشعاله حراقيات قوية زود بها عند رجوعه من الجزائر إلى المغرب، أو بعث بها إليه أصدقاؤه بعد إعلان ثورته)).
الدول تفكر في الاعتراف
وكان الدبلوماسيون في طنجة في ذلك الوقت، كعادة الدبلوماسيين في كل الأوقات، يمططون الأحداث ويضعونها تحت المجاهر المكبرة لتزداد وضوحا في عيونهم وضخامة بالنسبة لمسؤولياتهم، وبالتالي مطيات كبرى للقفز لمناصب أعلى.
وذهب الأمر ببعض الدبلوماسيين إلى نصح بلدانهم بإقفال سفاراتها، ودبلوماسيون آخرون أخذوا يطلبون ضمانات كبرى عن حياتهم الشخصية، بينما لم يتورع دبلوماسيون آخرون عن استشارة حكوماتهم في إمكانية الاعتراف بحق بوحمارة فيما يعرف الآن في كواليس المنظمات الدولية من حقوق.
وهذا ما دعا وزير الخارجية عبد الكريم ابن سليمان، إلى كتابة رسالة إلى نائب السلطان بطنجة، الحاج محمد الطريس، للاجتماع بالسفراء وإطلاعهم على حقيقة الوضع وإقناعهم بأن الدولة قائمة بواجبها متحملة لمسؤوليتها، وهو – على أية حال – عمل مشكور ورد فعل على المستوى قام به وزير الخارجية بدلا من السكوت في إطار عملية إخفاء الحقائق وتغاض عن النظرة الإيجابية إلى الأوضاع، وقد كان لرد فعل وزير الخارجية أثره المحمود الذي أعطى الحكومة مهلة لتصفية بوحمارة، ولو سكت آنذاك.. لربما كان قد حصل العكس.
حكومة بوحمارة الجزائرية
كان الناس قد بدأوا ينظرون إلى بوحمارة وهو يسجل الانتصارات المتوالية نظرة تعجب واستغراب، ولم يكن أحد يجرؤ على فتح عينيه على الحقيقة المجردة، وهي أن بوحمارة الثائر النشيط المتحرك ليلا ونهارا، والمسنود بمخطط استعماري وسند مادي وعسكري فرنسي وإسباني، إنما يواجه حكومة عزلاء منهوكة القوى الاقتصادية داخلة في عدد المأكولات التي سيلتهمها غول الاستعمار، وبوحمارة إنما هو بصدد مزاولة دور المروض الذي يملأ جسم الثور بالطعنات ازديادا لاستنزاف دمه قبل أن يسلم نفسه المقهورة وقواه المنخورة إلى الطعنة القاضية.
بينما تسلسل الأحداث وضع بوحمارة أمام الاضطرار إلى كشف بعض أوراقه، وأهمها أوراق كشفت جانبين أساسيين: أولهما أنه لا يتوفر على سند شعبي ولا تواطؤ محترم، وثانيهما أنه يعمل في خدمة القوة الأجنبية.
وهكذا، وعندما اضطر لتشكيل حكومته وتعيين وزرائه وقواد جيشه، لم يجد إلا المرتزقة الأجانب..
فأول من انضم إليه وحصل على لقب استخلافه، ذلك الجاسوس الفرنسي الارتباط الجزائري الجنسية، والذي حاربه الملك العظيم الحسن الأول عندما جاء لأقاليم الصحراء الشرقية يدعو سكانها باسم الدين إلى الاستسلام، ألا وهو بوعمامة الذي أصبح نائبا لبوحمارة.
أما قيادة الجيش، فقد أسلمها بوحمارة لضابط فرنسي التكوين جزائري الأصل، تخرج من الجيش الفرنسي الذي عمل فيه، وهو عبد المالك محيي الدين، حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، وكان الجميع يعرف دور عبد المالك في محاربة المقاومة الجزائرية والعمل مع الجاسوسية البريطانية.
ولم يكن ثالث رجل في “دولة” بوحمارة بأنظف ملف من سابقيه، فهو دجال يدعي النبوة ويجلس على الحصيرة، جاء من السعودية بعد أداء مناسك الحج وعرج على الجزائر حيث انتحل شخصية السلطان المولى عبد العزيز، مدعيا أنه هرب من فاس، وعندما جاء وقت العمل كشف “بوحصيرة” هذا عن اسمه الحقيقي: عبد القادر العتيقي، وأصبح مساعدا لبوحمارة، وعندما فشل بوحمارة عاد بوحصيرة من حيث أتى.. عاد إلى الجزائر.
أما الصدر الأعظم أو الوزير الأول في حكومة بوحمارة، فقد استقدمه من الجزائر أيضا، ويسمى صالح السفاج، تعرف عليه بوحمارة في تلمسان واختار بوحمارة أحد أصحاب المقاهي في تلمسان ويسمى عبد القادر التلمساني، كان خرازا ثم قهوجيا، وأصبح وزيرا للخارجية، أما وزارة الحرب والقيادة العليا للجيش، فإن بوحمارة لم يسندها لنفسه كما يفعل كل قادة الحركات الانفصالية، وإنما عين على رأس جيوشه ضابطا فرنسيا من كبار ضباط المخابرات الفرنسيين الذين كانوا يتواجدون في القصر السلطاني أيام الحسن الأول وبعده، وهو غابرييل ديلبيريل، الذي يعتبر نفسه عنصرا أساسيا في كيان المناورات الاستعمارية ضد السيادة المغربية، وهو نموذج للمجموعة التي كانت تحرك ثورة بوحمارة، وهي غنية عن كل تعليق.
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.