أخر الاخبار

مساهمة علماء المغرب في ميدان الطب والتطبيب

مساهمة علماء المغرب في ميدان الطب والتطبيب


يشهد المغرب حالياً نهضة كبيرة في ميدان الطب، بما يوجد فيه من مستشفيات وما فيها من أطباء مختصين وفي الطب العام أيضاً وما يوجد في المغرب من مئات العيادات الطبية الخاصة والعامة، ومئات الصيدليات في كل ربوع المغرب. فالصحة والعلاج متقدمان في المغرب، والعمليات الجراحية الدقيقة تجري عندنا بنجاح، ولا سيما عمليات القلب المفتوح والشرايين والمخ والعصب الشوكي والعمود الفقري ـ وكلها تحتاج إلى دقة في الأداء وخبرة علمية عالية.

        هذا التقدم في ميدان الطب الذي يشهده المغرب المعاصر لم يأت من فراغ، بل كان له مثيل عبر العصور التاريخية التي مر بها المغرب، ولا سيما ما يحتفظ به التاريخ من تفاصيل تخص عصر الموحدين والمرينيين والسعديين وبداية العصر العلوي إلى أواخر القرن التاسع عشر.

        وسنطلع بتفصيل على جملة من الأطباء المغاربة الذين كانت لهم اليد الطولى في العلاج ومعرفة خواص الأعشاب ومقاديرها ومنافعها.

        وكان الطب الإسلامي القديم قد استمد عناصره الأولى من الطب النبوي الذي وردت به أحاديث شريفة اهتم بها العلماء وجعلوها قاعدة للعلاج. وألفت في الطب النبوي تآليف مفيدة من أهمها "أربعون حديثاً في الطب النبوي" للعلامة عبد اللطيف البغدادي المتوفى عام 629 هـ/ 1231 م.

        وعندما اختلطت الأمة العربية بشعوب أخرى بعد انتشار الإسلام، أخذ العلماء المسلمون يهتمون بنقل كتب الطب من اليونانية والفارسية ولغات أخرى إلى اللغة العربية وانكبوا على دراستها. ولم يكتفوا بالنقل فقط، بل أضافوا إلى علم الطب إضافات جعلت العرب والمسلمين فيما بعد أساتذة العالم في هذا العلم وفي غيره. فلا ينكر أحد من الدارسين لتاريخ الحضارة الإنسانية تأثير ابن سينا وابن طفيل وابن النفيس وابن الهيثم والرازي وغيرهم في علم الطب وأستاذيتهم للعالم فيه. كما لا ينكر أحد تأثير ابن رشد وابن سبعين وابن باجة وابن خلدون وغيرهم في علم الفلسفة والاجتماع وأستاذيتهم للعالم فيه.

        وللتدليل على ما نقول ننظر إلى عدد المخطوطات الطبية التي تزخر بها المكتبات المنبثة في العالم الإسلامي، الخاصة منها والعامة. وفي المغرب عندنا مئات الكتب المؤلفة في علم الطب بجميع فروعه وأقسامه لا تزال مخطوطة لم تر النور بعد. وإنما وقعت الإشارة إليها والتعريف بها في ما صدر من كتب تهتم بوصف مخطوطات المكتبات. فإذا نهضت همة مؤسسات النشر بالعمل على نشرها ووجدت من بين العلماء والمحققين والأطباء الدارسين من ينكبّ على تحقيقها، إذن لبرز للوجود بحر زاخر من المعرفة كانت وما زالت تستمتع به الرطوبة والأرضة وحدهما.

        إن معرفتنا بتراثنا يجعلنا نكتشف ذاتنا ونكتشف موقعنا من تاريخ الحضارة الإنسانية وندرك القيمة العلمية لمساهمة علماء المغرب في علم الطب ومهنة التطبيب.

        وسنتبع في هذه الدراسة طريقة الترتيب التاريخي، فنبدأ بعصر الموحدين ثم المرينيين فالسعديين فالعلويين. أما العصر المرابطي، فلم يحفظ لنا التاريخ أعلاماً مميزين ينتمون سليقة إلى المغرب؛ وإنما كانت هناك نهضة طبية في المغرب والأندلس رفع رايتـها أطباء أندلسيون عملوا في المغرب، وأطباء مغاربة تكونوا في الأندلس واستقروا بها.

        عقد الأستاذ محمد المنوني في كتابه عن الموحدين([1]) فصلاً للحديث عن الطب والصيدلة في ذلك العهد، فذكر أن الطب كانت له صولة ودولة، واعتنى الموحدون ـ وبخاصة الخليفة يوسف بن عبد المومن والخليفة يعقوب ابنه ـ اعتناء كبيراً بالطب والأطباء، فبنوا المستشفيات ونظموا هذه المهنة وجعلوا لها رؤساء. وكان الطب ضمن برامج الدراسة على عهدهم وفن الصيدلة هو الآخر كان له ازدهار في عهد الموحدين. وقد وظفوا بمستشفى مراكش وبقصور الخلفاء عدداً من الصيادلة.

        ثم يذكر الأستاذ المنوني بعد ذلك أن رجالات الطب والصيدلة في ذلك العهد كانوا بكثرة وافرة: منهم الخليفة يوسف بن عبد المومن الموحدي، وكان له طموح إلى هذا العلم وحفظ كثيراً من النصوص الطبية؛ ومنهم الطبيب أبو بكر يحيى بن محمد بن عبد الرحمن بن بقي السلوي المتوفى عام 563 هـ/ 1168 م، اشتغل بالطب ونبغ فيه فكان يعيش نفسه من هذه المهنة؛ ومنهم الشريف الإدريسي الجغرافي المشهور الذي ألف في علم الطب كتابه "الجامع لصفات أشتات النبات"، وهو أحد الكتب التي اعتمدها ابن البيطار في كتابه عن النبات، كما ألف كتاباً في الصيدلة.

        ومنهم الطبيب سعيد الغماري الذي عاصر الخليفة يوسف بن عبد المومن بمراكش؛ ومنهم طبيب كبير من المغرب هو أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن محمد السلمي المعروف بالقطب المصري، قتله التتار بنيسابور عام 618 هـ/ 1221 م، وكان قد انتقل إلى مصر وأقام بها لمدة ثم سافر إلى فارس وأخذ عن الإمام فخر الدين الرازي، وألف كتباً في الطب والحكمة منها "شرح الكليات من كتاب »القانون« لابن سينا". والملاحظ أن الخلفاء الموحدين كانوا يستخلصون لأنفسهم نبغاء الأطباء من المغرب والأندلس، فكانت قصور الخلفاء تأوي أطباء مثل ابن زهر وهم أسرة كبيرة كلهم أطباء نساء ورجالاً، ومثل ابن طفيل وابن رشد الحفيد وغيرهم.

        ولنستمع إلى وصف شاهد عيان هو الشيخ عبد الواحد المراكشي([2]) يصف مستشفى بناه الخليفة يعقوب المنصور الموحدي بمدينة مراكش عاصمة الخلافة الموحدية قال:

                 وبنى بمدينة مراكش بيمارستاناً ما أظن أن في الدنيا مثله. وذلك أنه تخير ساحة فسيحة بأعدل موضع في البلد، وأمر البنائين بإتقانه على أحسن الوجوه. فأتقنوا فيه من النقوش البديعة والزخارف المحكمة ما زاد على الاقتراح، وأمر أن يغرس فيه مع ذلك من جميع الأشجار المشمومات والمأكولات وأجرى فيها مياهاً كثيرة تدور على جميع البيوت زيادة على أربع برك في وسطه إحداها رخام أبيض. ثم أمر له من الفرش النفيسة من أنواع الصوف والكتان والحرير والأديم وغيره بما يزيد على الوصف ويأتي فوق النعت. وأجرى له ثلاثين ديناراً في كل يوم برسم الطعام وما ينفق عليه خاصة خارجاً عما جلب إليه من الأدوية وأقام فيه من الصيادلة لعمل الأشربة والأدهان والأكحال. وأعد فيه للمرضى ثياب ليل ونهار للنوم، من جهاز الصيف والشتاء. فإذا نقه المريض فإن كان فقيراً، أمر له عند خروجه بمال يعيش به ريثما يستقل؛ وإن كان غنياً دفع إليه ماله وترك وسببه. ولم يقصره على الفقراء دون الأغنياء، بل كان من مرض بمراكش من غريب حمل إليه وعولج إلى أن يستريح أو يموت. وكان في كل جمعة بعد صلاته يركب ويدخله يعود المرضى ويسأل عن أهل بيت أهل بيت. يقول كيف حالكم وكيف القومة عليكم إلى غير ذلك من السؤال، ثم يخرج. لم يزل مستمراً على هذا إلى أن مات رحمه الله.

        ونقل الأسـتاذ عبد العزيز بنعبد الله عن أحد المؤرخين الفرنسيين أن البروفسور "مي" في كتابه "الموحدون" الذي ألفه عام 1923 م أن هذا المستشفى لا يخلف وراءه مصحات أوربا المسيحية فحسب، بل تخجل منه حتى اليوم مستشفيات باريس. ونقل أيضاً أن "ولتر" ذكر في كتابه "مختصر التاريخ" ما يلي: »ازدهر علم الطب والتداوي عند العرب، على حين كان الأروبيون يجهلون هذا العلم الشريف ويحتقرون أربابه، لأن الكنيسة حرمت الاستشفاء بغير زيارة الكنائس والتمسح بذخائر للقديسين«. وقال "لوكلير" في كتابه "تاريخ طب العرب": »… وقد كان الأروبيون يضطرون إلى اللجوء للمستشفيات العربية. فهذا الملك شانجه توجه إلى قرطبة من أجل العلاج من مرض الاستسقاء« ([3]).

        ومن أطباء هذا العصر أبو الحجاج يوسف بن فتوح بن محمد بن عبد الله القرشيّ. كان طبيباً من أصحاب الدراية الكبرى بخصائص النبات والعشب. ولهذا كان يعرف بالعالم العشاب، لأنه كان يجمع بين العلم بالتفسير وأصول الفقه وتدريسهما للطلبة، وبين الصيدلة وتصنيع الدواء وتقطيره من الأعشاب المختلفة. توفي الطبيب ابن فتوح عام 562 هـ/ 1166 م([4]).

        إن لقب »العشاب« كان يطلق على المختصين بمعرفة الأعشاب وفوائدها الطبية، وهو عادة يكون صيدلياً خبيراً يصف الأدوية الناجعة للأدواء. غير أنه لا يرقى إلى صفة »طبيب«،لأن الطبيب كان ـ زيـادة على معرفتـه بخواص الأعشاب  ـ يقوم بالفصد والجراحة وبتر الأعضاء وغير ذلك من أعمال الجراحة. ويمكن أن نضع مثالاً لهذا في عصرنا بالطبيب الجراح في المستشفى والطبيب المتخرج في الطب العام الذي هو بمثابة الصيدلي القديم.

        ولا يزال إلى يومنا هذا أفراد من الناس لهم دراية بخواص الأعشاب وفوائدها يعرفون بالعطارة منتشرين في المشرق والمغرب. ويقومون بتحضير الدواء وتقطيره وبيعه لمن يحتاج إليه. ولكن مع تقدم الطب وكثرة أنواع الأدوية التي تباع في الصيدليات، قل استعمال الأعشاب لقلة المختصين بمنافعها. ونحن نقرأ اليوم في الصحف والمجلات العلمية عن وجود إقبال كبير في أروبا على استعمال الأعشاب الطبية والتداوي بها وإنشاء صيدليات لبيع تلك الأعشاب بمقاديرها الصحيحة. وهذا يجعلنا نعود بالذاكرة إلى طبنا القديم والكتب التي ألفت فيه ورجوع هؤلاء الأطباء الغربيين إلى تلك الكتب بعد ترجمتها للاستفادة مما تشتمل عليه؛ في حين أهمل أهلونا أطباءهم وعلماءهم القدماء وضربوا بكتبهم عرض الحائط، بينما عرف الغرب قيمتها فاستفاد منها. ولكن الحكام الغربيين لم يكونوا على تسامح مع الأطباء والصيادلة المسلمين: فقد كانوا يضايقونهم ويتعسفون عليهم. ونأتي بمثال على ذلك المرسوم الذي أصدره الملك خوان الثاني في بلد الوليد بإسبانيا سنة 1308 م يمنع بمقتضاه على المسلمين ممارسة عدد من الأمور العامة والخاصة، ومنها منعهم من مزاولة مهنة الجراحة أو العطارة أو بيع المواد الغذائية أو الأدوية ويعاقب من يخالف بدفع غرامة قدرها 2000 مرابطي وبالجلد زائداً على الغرامة([5]).

        ومن أطباء هذه الفترة في عهد الموحدين إبراهيم الأنصاري الأديب النحوي المتوفى عام 581 هـ/ 1186 م. فقد اكتسب خبرة كبيرة في الصيدلة، وكان وهو بمدينة فاس يدرس العلم للطلبة ويقوم ببيع الأعشاب الطبية([6]).

        ومن أطباء هذه الفترة كذلك الطبيب أبو إسحاق إبراهيم بن أبي الفضل المجري المتوفى عام 506 هـ/ 1112 م. كان من أطباء فاس المعالجين، بالإضافة إلى معرفته باللغة والأدب([7]).

        وكذلك علي بن يقظان السبتي الطبيب الأديب الشاعر الذي توجه إلى مصر عام 544 هـ/ 1149 م، ثم إلى اليمن والعراق. وكذلك أبو جعفر عمر بن علي القلعي المتوفى عام 576 هـ/ 1180 م، وكان ماهراً في الأدوية وعلاج الأمراض. كتب ملاحظات على كتب ابن سينا الطبية. رحل إلى دمشق وبها استقر حتى وفاته.

        وفي عصر بني مرين نبغ عدد من الأطباء، منهم أبو الحسن علي بن أبي الحسن المراكشي له كتاب في الأمراض السرية وعلاجها وطبائع النساء وضعه باسم خزانة السلطان أبي الحسن المريني.

        ومنهم أبو العباس الشريشي السلوي الأصل، أخذ الطب في المشرق وتوفي بالفيوم من مصر عام 641 هـ/ 1243 م.

        ومنهم أحمد بن علي الملياني المراكشي المتوفى عام 715 هـ/ 1315 م، كاتب شاعر أخذ بحظ من علم الطب. ومنهم أحمد الجذامي السبتي الطبيب المتوفى بمراكش عام 650 هـ/1252 م.

        وعدد صاحب كتاب "بلغة الأمنية"([8]) و"مقصد اللبيب فيمن كان بسبتة في الدولة المرينية من مدرس وأستاذ وطبيب". وذكر في كتابه هذا المشهورين جداً، وهم:

        1)  الطبيب الماهر الأشهر محمد الشريشي السبتي. كان له تقدم في صناعة الطب ومعرفة بما يرجع إليها من علم وعمل. وكانت مكانته مكينة عند الأمراء والملوك. استدعاه السلطان أبو عنان إلى حضرته بفاس، فاجتمع هنالك مع جماعة من الأطباء ونظر في حاجته فأجزل له العطاء. وكان السلطان أبو عنان يقول بعد ذلك: »اختصت سبتة بأربعة رجال دون سائر بلاد المغرب«. ويعد منهم الطبيب محمد الشريشي. توفي الشريشي عام 771 هـ/ 1369 م.

        2)  الطبيب محمد بن مقاتل السبتي المتوفى عام 764 هـ/ 1362 م.

        3)  الطبيب محمد بن مبارك الأزدي السبتي المتوفى عام 791 هـ/ 1388 م، وهو تلميذ الطبيب محمد بن مقاتل السابق ذكره.

        4)  الطبيب محمد المعز الصنهاجي المتوفى بفاس عام 792 هـ/ 1388 م.

        5)  الطبيبة عائشة ابنة الشيخ محمد بن الجيار محتسب سبتة. قرأت علم الطب على صهرها الشيخ الشهير الشريشي الذي ذكرناه آنفاً ونبغت فيه وكانت عارفة بخواص العقاقير وما يرجع إلى ذلك. اشتهرت عند الأمراء فكانوا يغدقون عليها من عطاياهم لأجل إتقانها لصنعة الطب. وأوصت في آخر عمرها بتوقيف أملاكها في وجوه البر والإحسان.

        فإذا كان هذا عدد الأطباء العلماء المشهورين في بلدة واحدة هي سبتة، فماذا يكون عددهم في بقية المدن وخاصة العواصم كفاس ومراكش؟ لاشك أن هذه الطبقة من العلماء الطبيعيين والرياضيين والفلاسفة ضاعت تراجم الكثير منهم، وضاعت بالتالي أعمالهم العلمية من كتب ونظريات وتجارب. وما بقي منها ووصل إلينا ينطق بصريح العبارة بما كان للمغرب من مدنية ونبوغ وحضارة علمية وتقدم معماري كبير([9]).

        ولنذكر في الفترة نفسها طبيباً آخر نشأ بفاس هو الطبيب اليهودي أبو الحجاج يوسف بن يحيى بن إسحاق المعروف بابن سمعون المتوفى عام 623 هـ/ 1226 م. كان من أشهر الأطباء في بداية القرن السابع الهجري. قال عنه القفطي في "عيون الأنباء في طبقات الأطباء": كان ابن سمعون طبيباً إسرائيلياً وهو من أهل فاس قرأ الفلسفة والطب وظهر نبوغه في العلوم الرياضية. وقد ارتحل إلى مصر واجتمع بالحاخام ابن ميمون الشهير. ثم قصد العراق بصفته تاجراً والهند أيضاً. وأخيراً استقر بحلب فقصده الناس للاستفادة منه. وكان ابن سمعون ذكياً حاد الخاطر، وهما أمران ساعداه على النجاح الكبير في مهنة الطب([10]).

        ومن أطباء القرن الثامن الهجري (ق 14 م) نذكر أبا العباس أحمد بن محمد بن شعيب الجزنائي نسبة إلى قبيلة أجزناية من إقليم الريف. بلده تازة واستقراره كان بمدينة فاس. لا يعرف تاريخ ميلاده، ولكن وفاته كانت بتونس عام 749 هـ/ 1348 م؛ إذ كان هناك صحبة السلطان أبي الحسن المريني. قال عنه ابن الأحمر في كتابه "نثير فرائد الجمان" ما مفاده أن قدمه كانت راسخة في الطب، وله براعة في علم التنجيم والحساب بالإضافة إلى الفقه والأدب. ويتعجب ابن الأحمر من نبوغ الجزنائي في اللغة العربية والأدب مع أنه بربري الأصل. وهذا تعجب في غير محله، لأن كثيراً من نوابغ الفكر الإسلامي والأدبي كانوا من غير العرب([11]).

        وقد نوه ابن خلدون بالطبيب الأديب أبي العباس الجزنائي، فقال عنه: »برع الجزنائي في اللسان والأدب والعلوم العقلية والطب وغيرها. ونظمه السلطان أبو سعيد (المريني) في جملة الكتاب وأجرى عليه رزق الأطباء لتقدمه فيه، فكان كاتبه وطبيبه وكذا مع السلطان أبي الحسن بعده«. انتهى كلام ابن خلدون.

        توفي أبو العباس أحمد الجزنائي في يوم عيد الأضحى من عام 749 هـ/ 1348 م بتونس؛ إذ كان في صحبة السلطان أبي الحسن المريني. وكانت وفاته بسبب الطاعون الجارف الذي عم البلاد في تلك المدة.

        ومن أطباء القرن الخامس عشر للميلاد أبو الحسن علي بن عبد الله بن هيدور التادلي الطبيب الشهير المتوفى عام 816 هـ/ 1413 م. وهو فاسي المولد والنشأة. وكان مشاركاً في فنون كثيرة واشتهر بالطب وألف فيه رسالة سماها "المقالة الحكمية في الأمراض الوبائية". وهي رسالة في حقيقة المرض الناتج عن الوباء وما هي أسبابه وما وسائل علاجه الطبية.

        ومن الأطباء أيضاً أحمد بن محمد بن مهنا السبتي المتوفى بفاس أواخر القرن الثامن الهجري. وهو مؤلف كتاب "الإيضاح والتتميم"، شرح فيه أرجوزة ابن سينا في الطب.

        وفي عصر الدولة السعدية، ولا سيما زمن السلطان أحمد المنصور الذهبي ومن جاء بعده من الملوك السعديين، نبغ طبيب رفع من قيمة العصر الذي عاش فيه هو أبو القاسم بن أحمد بن عيسى المعروف بالغول الفشتالي([12]) نسبة إلى فشتالة القبيلة المعروفة بالشمال والتي أنجبت عدداً من الرجال المشهورين. كان الفشتالي فقيهاً مشاركاً في جملة من العلوم، مبرزاً في الطب متفرداً فيه وفي الهندسة والحساب.

        ألف في الهندسة والحساب كتباً منها "منظومة المخمس الخالي الوسط". وشرح نصوص في كيفية قسم الماء لقواديس الديار. أما في علم الطب الذي يهمنا في هذا المقام، فنشير إلى ما ألفه فيه، منها "منظومة في الجمع بين الأحاديث النبوية وكلام الأطباء والحكماء في الطواعين والأوباء"، وكتاب "حافظ المزاج ولافظ الأمشاج بالعلاج". وهذا الكتاب عبارة عن منظومة رجزية تقع في نحو خمسمائة وألف بيت، مرتب على أربعة وعشرين باباً، فيها الحديث عن وجع الرأس والشقيقة والزكام والقروعة وجرب الرأس وداء الثعلب، وهو الذي نسميه بـ»الثنية«، وختم بالباب الرابع والعشرين الذي تحدث فيه عن أنواع الأشربة والمربيات والأدهان والأوزان والمقادير. ويقول في مقدمة هذا الرجز:

وبعد؛ فاعلم أن علم الطب
لأنه منعش الأبدان
فصغت فيه درراً يتيمه
أدوية وجودها معروف
وكلها في قطرنا ميسر
سـمـيـــتــه بـحـافــظ الـمـــــزاج

علم شريف للخبير الطيب
للعون في عبادة الديان
لم يحوها طالبها بقيمه
يدركها الشريف والمشروف
إلا يسيراً أصله ييسر
ولافــظ الأمـشــاج بـالـعــــلاج

توفي الطبيب الفشتالي عام 1059 هـ/ 1649 م.

        وقد كان للطب في العصر السعدي مزيد اعتناء بأهله واهتمام بشأنه. ومما يدل على ارتقاء شأن الطب في هذا العصر ما وصفه السلطان أحمد المنصور الذهبي في كتابه لولده بمراكش عند ظهور الوباء من أنواع الوقاية والعلاج ونص المراد منه:

                 وإلى هذا ـ أسعدكم الله ـ أول ما تبادرون به قبل كل شيء هو خروجكم إذا لاح لكم شيء من علامات الوباء ولو أقل القليل حتى بشخص واحد، ثم لا تغفلوا عن استعمال الترياق أسعدكم الله، فالزموه إذا استشعرتم بحرارة وتخوفتموها فاستعملوا الوصف من الوزن المعروف منه ولا تهملوا استعماله. وأما ولدنا ـ حفظه الله لمكان الشبيبة ـ فحيث يمنعه الحال من المداومة على الترياق، فها هي الشربة النافعة لذلك قد تركناها كثيرة هُنَالِكُمْ عند التونسي فيكون يستعملها هو والأبناء الصغار المحفوظون بالله حتى إذا أحس ببرد المعدة من أجلها تعطوه الترياق فيعود إليها. والبراءة التي ترد عليكم من سوس أو من عند الحاكم أو من عند ولد خالكم أو من عند غيرهما لا تقرأ ولا تدخل داراً. بل تعطى لكاتبكم هو الذي يتولى قراءتها ويعرفكم مضمنها، ولأجل أن الكاتب يدخل عليكم ويلابس مقامكم فلا يفتحها إلا بعد إدخالها في خل ثقيف (يعني ثقيل) وتنشر فتيبس وحينئذ يقرأها ويعرفكم بمضمنها إذ ليس ياتيكم من سوس ما يستوجب الكتمان ([13]).

        ففي هذا النص الذي كتب زمن الوباء وهو الطاعون نجد أن السلطان أحمد المنصور يوصي باستعمال الترياق وهو ما يستعمل لدفع السم من الأدوية والمعاجين. ويوصي بالاتقاء من العدوى بالنصائح التي تقدمت. وهذا يدل على براعة المنصور في الطب.

        وقد أشار الحسن الوزان المعروف بليون الإفريقي إلى الأمراض التي كانت منتشرة في هذا العصر (القرن العاشر الهجري) نذكر منها الطاعون ثم الصرع أو داء النقطة وحب الإفرنج وهو مرض الزهري المعروف عندنا بالنوار. وداء المفاصل والجرب (الحكة) والقرع، وتضخم الغدة الدرقية وداء الغباوة الناتج عن نقص في البنية. ويكثر ذلك في البداية، وبالخصوص حيث يكثر الفقر والماء الممزوج بالجير وداء الجذام الوراثي. وذكر كودار في تاريخه أن اليهود الأندلسيِّين اللاجئين إلى المغرب هم الذين أدخلوا الأمراض التناسلية مثل الزهري([14]).

        ومن أطباء العصر السعدي كذلك الشيخ الفقيه المحدث المشارك أبو عبد الله محمد بن سعيد المرغيثي السوسي، المزداد بمرغيثة عام 1107 هـ/ 1598 م، ونشأ مكباً على الدراسة حتى ظهر نبوغه في العلوم الدينية والأدب والحساب والتوقيت والطب. وكان هو بمراكش قد تصدر لعلاج الناس مدة، ولكنه اعتزل التطبيب بسبب أن إنساناً حمل إليه قارورة فيها بول مريض وهو بالمسجد؛ فاستاء من ذلك، وقال: إن عملاً يؤدي إلى أن أكون سبباً في دخول النجاسة للمسجد لا أشتغل به. وقد علق الأستاذ عبد الله كَنون على هذا الكلام بقوله:

                 وهذا تشدد منه رحمه الله؛ وإلا فهو يعلم من السنة التي وصف بأنه إمام فيها أن النبي r كان ينصب في مسجده خيمة لعلاج مرضى الصحابة، وأن أعرابياً بال في المسجد فابتدره الصحابة بالتعنيف عليه، فقال لهم r: لا تزرموه، وأمر بإفراغ دلو ماء على مكان بوله. فقال الأعرابي:

                          اللهـم ارحمـني وارحم محمـدا          ولا تــرحـم معـنـا أحـــدا

                          فقال له النبي  في سماحته المعهودة: »لقد حجرت واسعا يا هذا«.
        توفي المرغيثي عام 1089 هـ/ 1678 م.

        ومن العهد السعدي كذلك نذكر أبا علي الحسن بن أحمد المسفيوي([15]) المراكشي الأديب الطبيب المزداد عام 968 هـ/ 1560 م. أخذ علم الطب على شيخه أبي القاسم الوزير الطبيب المشهور، وأخذ المنطق والحساب والهندسة على الشيخ أحمد القاضي.

        وكان المسفيوي على إلمام ببعض اللغات الأجنبية. ولذلك ذكر المقري في "النفح" أنه قام بتعريب بعض الكتب بإذن من السلطان أحمد المنصور الذهبي. غير أنه من المؤسف جداً أن تضيع آثار كثير من علمائنا ومنهم المسفيوي هذا، الذي لم يبق من آثاره إلا بعض القصائد المديحية، مما ينبئ عن إهمال كبير تعرض له تراثنا في هذه الفترة والفترات الأخرى. توفي الطبيب المسفيوي عام 1003 هـ/ 1594 م.

        ومن هذا العصر السعدي نذكر أستاذاً آخر في الطب هو أبو محمد سقين السفياني القصري أحد مشاهير رجال الحديث الشريف، ودرس ألفية ابن سينا في الطب، وعنه أخذها الناس عام 956 هـ/ 1549 م. ومثله الفقيه عبد الواحد بن عاشر المتوفى عام 1040 هـ/ 1630 م وكانت له معرفة بالطب. وأحمد بن عبد الحميد المعروف بالمريد المراكشي المتوفى عام 1048 هـ/ 1638 م كان إماماً في جميع الفنون حكيماً ماهراً في الطب وحسين الشوشاوي السوسي، وهو من أهل القرن التاسع([16]). وابن عزوز المراكشي الذي ألف كتابه "ذهاب الكسوف في طب العيون".

        وأبو القاسم الوزير من أهل فاس وكان اسمه ونسبه كالذي ذكرناه. كان طبيباً ماهراً، اختص به السلطان أحمد المنصور الذهبي من أسرة السعديين فصيره من أطبائه وقربه إليه.

        قال عنه المقري في "نفح الطيب": »العلم الجليل علماً وقدراً العلامة المتفنن، ذو التآليف المفيدة والعلم الغزير الفقيه أبو القاسم بن محمد الوزير الغساني«.

        أخذ الطب عن والده محمد وأخذ العلوم الأخرى عن الشيخ المنجور وأعلام آخرين، ولكنه تفرد بعلم الطب وصار مرموقاً في العاصمتين مراكش وفاس معروفاً بهذه المهنة راسخ القدم فيها. وله في هذا العلم مؤلفات خدم بها البلاط السعدي في عهد أحمد المنصور الذهبي كما تقدم.

        ألف كتاباً سماه: "حديقة الأزهار في الأعشاب والعقار"، وهو المعروف بكتاب "الأدوية المفردة". وفي حق هذا الكتاب يقول المقري:

                 ["حديقة الأزهار في الأعشاب والعقار"] كتاب في بابه لم يؤلف مثله. يذكر سائر الأعشاب والعقاقير بما سميت به في الكتب، ثم يذكر اسمها بلسان العامة (أي بالاسم الذي يعرفه عامة الناس)، ثم يذكر خواص الأعشاب على وجه عجيب وأسلوب غريب.

أتم تأليف هذا الكتاب عام 994 هـ/ 1585 م. ويقع في نحو اثنتين وستين ومئة صفحة ـ مخطوط مرتب على حروف المعجم. يذكر فيه المصطلح الطبي باسمه العلمي المعروف به يونانياً كان أو روسياً أو غيرهما، ويذكر خاصية العقار واسمه بالعربية أو البربرية ثم بالعامية الدارجة كما يذكر بدل ذلك العقار إن لم يكن موجوداً وأحياناً يذكر المكان الذي يجلب منه أو ينبت فيه بالمغرب. هذا هو الكتاب الأول. أما الكتاب الثاني، فهو شرح على نظم ابن عزرون في الحميات الذي ذيل به أرجوزة ابن سينا في الطب.

        وألف كتاباً آخر سماه: "مغني الطبيب". قام أبو القاسم الوزير بترجمته بأمر من السلطان أحمد المنصور الذهبي الذي سلمه هدية من أحد أكابر الروم كان قد تشرف بمقابلة السلطان السعدي المذكور. ولا حاجة إلى الإشارة إلى أن الطبيب أبا القاسم الوزير كان على دراية باللغات الأجنبية، ولعلها اللاتينية القديمة والبرتغالية والإسبانية. وأخيراً، فإن الطبيب أبا القاسم الوزير كان قد ازداد سنة 955 هـ وتوفي بعد سنة 1012 هـ/ 1603 م. ولم يذكر أحد تاريخ وفاته، نظراً لأن الفتنة التي قامت بين أبناء المنصور غطت على وفاة الطبيب فضاع خبره([17]).

        وننتقل بعجالة إلى العصر العلوي، فنتحدث عن أسرة الدراق التي كان منها الأطباء محمد وابنه عبد الوهاب وقريبه أحمد طبيب السلطان سيدي محمد بن عبد الله الذي دخل طنجة في عهد احتلالها من طرف الأنجليز بقصد ملاقاة الأطباء النصارى ورؤية الشخص الذي صوروه لتعليم التشريح معاينة، والطبيب أحمد بن محمد طبيب السلطان مولاي إسماعيل. أصل هذه الأسرة من ناحية سوس واستقروا قديماً بفاس وحازوا بها رياسة الطب([18]).

        وكان الطبيب أحمد المختص بالسلطان مولاي إسماعيل ذا وجاهة وبروز بين أقرانه حظي عند السلطان لخبرته بالأمراض ومعرفته بأدويتها. توفي عام 1116 هـ/ 1704 م.

        ونبغ من هذه الأسرة الطبيب عبد الوهاب ابن الطبيب أحمد بن الطبيب محمد أدراق المتوفى عام 1159 هـ/ 1746 م. له تآليف أغنت الدراسات الطبية بالمغرب منها كتاب "التعليق على النزهة" للشيخ داود الأنطاكي، و"تذييل على أرجوزة ابن سينا في الطب" و"أرجوزة في حب الإفرنج"، وهو المرض المعروف بالنوار، وقصيدة في فوائد النعناع (التازي في جامع القرويين) وكتاب "هز السمهري على من نفى عيب الجذري".

        ويعد الطبيب عبد الوهاب من أكبر رجال هذه الأسرة قدراً وأشهرهم اسماً. انتهت إليه رياسة الطب في زمنه وبلغ في هذه المهنة مكانة عالية([19]).

        ومن التلاميذ المتخرجين على علماء أدراق نذكر طبيباً من أنبغ تلاميذ الشيخ أحمد بن محمد أدراق هو أبو محمد عبد القادر بن العربي المنبهي المدغري المعروف بابن شقرون المكناسي. كان عالماً مشاركاً في فنون شتى، ولكنه امتاز ببراعته في علم الطب واشتهر به فصار من أعلامه.

        نشأ بمدينة مكناس وأخذ عن جماعة من شيوخها علوماً كثيرة، غير علم الطب الذي تلقاه بمكناس على شيخه إبراهيم بن القائد علي وكان طبيباً. وبفاس تلقى على الطبيب أحمد بن محمد أدراق. ولما ارتحل إلى مصر، أخذ على الشيخ أحمد الزيداني مسائل كثيرة من كتاب ابن النفيس الذي اختصر فيه "القانون" لابن سينا.

        ووصفه الأديب محمد بن الطيب العلمي في كتابه "الأنيس المطرب". فمما قاله:

                 ضم إلى علم الأديان علم الأبدان. فركب الأدوية، وانتشرت له بين الحكماء ألوية، وعرف الأمراض، وأرسل سهام الرقى فأصاب الأغراض. رحل إلى الشرق فأدى فرضه، ثم رجع قاصداً أرضه، فناهيك من علم اجتلب، ومن دُرِّ نظم وَدَرٍّ احتلب.

        من مؤلفاته في علم الطب كتاب سماه "النفحة الوردية في العشبة الهندية". وقد وصف أستاذنا عبد الله كَنون هذا الكتاب فقال:

                 وهي (أي "النفحة الوردية") رسالة صغيرة تقع في كراسة من 15 صفحة، ولكن قيمتها العلمية كبيرة؛ إذ أنها بحث مستوفى في هذه العشبة المعروفة بالمغرب والتي كثيراً ما كانت هي الدواء الأخير الذي يرجع إليه الناس في عدة أمراض عندما ييأسون من الشفاء.

        ويصف لنا المؤلف هذه العشبة الهندية بأنها لم تكن معروفة عند قدماء الأطباء، وإنما تفطن لها المتأخرون من أهل الهند الجنوبي فجربوها فوجدوا لها نفعاً عظيماً.

        قال الأستاذ عبد الله كَنون: »وتأليفه هذا يدل على طول باعه في مهنته ومعرفته بعلم النبات وخصائصه، لأنه بحث يكاد يكون مبتكراً وناسجاً على غير منوال سابق«.

        ومن تآليفه أيضاً منظومته الطبية المسماة بـ"الشقرونية"، نسبة إلى اسمه العائلي. تقع هذه الأرجوزة في نحو 700 بيت نظمها جواباً لسؤال من تلميذه الشيخ صالح بن المعطي. ومضمنها شرح فوائد المآكل والمشارب المتداولة بين الناس.

        نذكر نموذجاً منها يتعلق بأكل اللحم مشوياً:

     خير الشواء ما على الجمر شوي       بـلا دخان في قضــيب يلتـوي
     يــفـتـح للصحــة ألــف بـــاب     وهـو الـذي يعـرف بالكـباب

        وألف نظماً آخر في منافع النعناع معروفاً ومشهوراً، وكتاباً في منافع الأطعمة والأشربة والعقاقير.

        وألف في غير الطب كتاب "شرح البسط والتعريف"، وهو منظومة في علم التصريف للعلامة أبي زيد عبد الرحمن المكودي.

        لا يعرف تاريخ ولادة هذا الطبيب ابن شقرون ولا تاريخ وفاته. غير أنه كان حياً سنة 1140 هـ/ 1727 م. فهو من مخضرمي القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريين([20]).

        ومن أطباء القرن التاسع عشر العربي بن عبد القادر بن علي المشرفي الغريسي المتوفى سنة 1895 م. له كتاب "أقوال المُطاعين في الطعن والطواعين"، يبحث في الأمراض الناتجة عن وباء الطاعون، ويشرح معنى الطاعون ويعين الوقت الذي يغلب وقوعه فيه ثم يعرض لوسائل الوقاية والعلاج. وقد ازدان هذا الكتاب بفوائد تاريخية عن الأوبئة التي اجتاحت بعض جهات المغرب ومات بسببها خلق كثير([21]).

        ونختم هذا التقديم المختصر للأطباء المغاربة عبر العصور بطبيب نعتقد أنه خاتمة هؤلاء القدامى المذكورين، هو الشريف سيدي عبد السلام العلمي المتوفى بفاس عام 1323 هـ/1905 م. فإنه بعد أن أتم دراسته بالقرويين بفاس وتصدر لتدريس علم التوقيت بها، انتدبه السلطان مولاي الحسن الأول لدراسة الطب بمصر. فالتحق بمستشفى القصر العيني وصار يدرس الطب على علماء من مصر وإسبانيا وفرنسا وحضر تشريح نحو 1600 جثة من مخلفات ثورة عرابي الشهيرة. ولما عاد إلى بلاده، فتح عيادة صغيرة قرب حرم مولاي إدريس بفاس؛ ولكنه لم يستمر طويلاً، إذ أصيب بشلل في نصفه الأسفل أرغمه على ملازمة داره والاكتفاء بإفادة الطلبة الواردين عليه.

        وألف في علم الطب تآليف هي كالتالي:

        1  ـ "ضياء النبراس في حل مفردات الأنطاكي بلغة فاس":

        وهذا الكتاب ـ كما هو ظاهر من عنوانه ـ يهتم بذكر الأسماء المغربية لما ورد في "تذكرة" الأنطاكي الضرير المتوفى عام 1008 هـ/ 1599 م. و"التذكرة" كتاب مشهور يتناول أوصاف بعض الأدوية وخواصها وتركيباتها. فالعمل الذي قام به الطبيب سيدي عبد السلام العلمي هو عمل علمي كبير، حيث قرب النفع بما ورد في كتاب "التذكرة" لعموم المهتمين بخواص الأعشاب في المغرب بأن جعل أمام الأسماء المشرقية للنباتات أسماءها المغربية مرتبة حسب الحروف الهجائية. ولم يكتف الطبيب العلمي بذلك فقط، بل إنه حاول في كتابه هذا توضيح كيفية تقطير بعض الأعشاب الطبية مصوراً بالأشكال الهندسية الجهاز المستعمل لهذه الغاية.

        وقد أهدى المؤلف كتابه هذا للسلطان مولاي الحسن اعترافاً منه بالجميل الذي أسداه إليه بإرساله في بعثة دراسية إلى مصر. وطبع هذا الكتاب على المطبعة الحجرية بفاس في حياة المؤلف في أواخر القرن التاسع عشر.

        2  ـ  "البدر المنير في علاج البواسير":

        وهو مطبوع مع كتاب "ضياء النبراس" الذي تحدثنا عنه آنفاً. وقد رتب كتابه هذا على مقالات وفصول، تحدث في المقالة الأولى الفصل الأول منها على العلامات التي يتميز بها دم البواسير من دم الكبد ومن دم الأمعاء؛ وفي الفصل الثاني تحدث عن دم البواسير بوصفه دم علة وفساد وأن خروجه من الجسم خير من احتباسه؛ وخصص الفصل  الثالث لما ينبغي لصاحب هذه العلة من التحفظ وفيما يناسبه من الأغذية وما لا يناسبه منها. أما الفصل الرابع، فهو لكيفية معالجة البواسير.

        والمقالة الثانية في كيفية تركيب الأدوية المأخوذة من الطب القديم والجديد النافعة للبواسير، وفيها فصول: الأول فيما يسكن ألم البواسير عند الأقدمين؛ والفصل الثاني فيما يسكن ألم البواسير في علم الطب الجديد. وهكذا الفصول الثالث والرابع والخامس والسادس ـ وكلها تختص بمرض البواسير وكيفية قطع دمها ومسقطها ومعالجتها بالكي.

        3  ـ  منظومة رجزية في علم التشريح سماها "مفتاح التشريح":

        تقع في ثمانية وسبعين بيتاً طبعت بهامش "ضياء النبراس". وفي هذه المنظومة يتحدث عن تركيب الهيكل الجسمي للإنسان وتفصيل أسماء العظام وأنواعها وذكر منها 8 للجمجمة و13 للوجه و64 للأطراف العليا و60 للأطراف السفلى و53 للجذع. ثم جهاز البصر والسمع والأنف وأعضاء العنق والصدر والأمعاء والبطن والجهاز البولي والجهاز التناسلي عند المرأة والرجل. وبذلك يتأكد لنا أن الرجل كان في عصره إطاراً طبياً مهماً: لو اسْتُغِلَّ أحسن استغلال، لكانت النتائج حميدة.

        4  ـ  "الأسرار المحكمة في حل رموز الكتب المترجمة":

        فسر في هذا الكتاب مصطلحات الكتب الطبية الأجنبية التي ترجمت إلى اللغة العربية في عصره.

        5  ـ  "التبصرة في سهولة الانتفاع بمجربات »التذكرة«":

        لقد رتب في هذا الكتاب "تذكرة" الأنطاكي المشار إليها ترتيب الأمراض، بدلاً من الحروف كما فعل في كتابه "ضياء النبراس". وذلك ليسهل البحث لمن يطلب علاج مرض من الأمراض.

        وبالإضافة إلى ما ذكرناه من التآليف الطبية نزيد عليها بذكر جملة أخرى منها:

        فهناك كتاب "الاكتفاء في طلب الشفاء" الذي ألفه محمد بن يحيى العزفي السبتي المتوفى عام 768 هـ/ 1366 م. وهو كتاب اختصر فيه مصنفاً مطولاً في الأدوية، وهو يبحث في الأدواء التي تصيب الإنسان في جميع أجزاء جسمه، كما يتحدث عن أمراض النساء والأطفال ويصف الحميات ويذكر وسائل العلاج والأدوية وخصائصها، كما يبحث في علم الزينة والتجميل. كل هذه المعلومات في عشرين باباً من الكتاب([22]).

        وألف العلامة عبد الرحمن بن محمد الفاسي المتوفى عام 932 هـ/ 1525 م كتاباً في تفسير أسماء الأعشاب والعقاقير المعروفة عند الأطباء. وهي بطبيعة الحال غير الأسماء التي يعرفها بها العوام، فيشرح معناها وكثيراً ما يأتي بمقابلها في اللهجة الدارجة أو في اللهجة الأمازيغية.

        كما ألف العلامة أحمد بن محمد بن حمدون بن الحاج الفاسي المتوفى عام 1317 هـ/ 1899 م كتاباً أسماه "الدرر الطبية المهداة للحضرة الحسنية" (يعني السلطان الأول)، وهو كتاب جامع في الطب مقسم إلى ثلاثة أقسام مع مقدمة عن تاريخ الطب والصيدلة وأسماء المشاهير من الأطباء ومؤلفاتهم. وهذا الكتاب يقع في خمسة أجزاء([23]).

        وألف العلامة أحمد بن صالح بن إبراهيم الدرعي المتوفى عام 1147 هـ/ 1734 م كتاباً سماه "الدرر المحمولة على الهدية المقبولة في حلل الطب مشمولة"، وهو كسابقه يتعرض في بداية الكتاب لعلم الطب ومكانته ثم يدخل في صميم موضوعه فيشرح الأمراض ثم الأدوية التي
تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -