التاريخ المحاصر ـ 3 ـ .. الإيمان بالحرية سلاح عبد الكريم ورفاقه
تقدم جريدة هسبريس لقرائها الأوفياء، داخل المغرب وخارجه، كتاب “عبد الكريم الخطابي، التاريخ المحاصر” لمؤلفه الدكتور علي الإدريسي، في حلقات، خلال شهر رمضان الكريم.
هذا الكتاب، الذي تنشره هسبريس بترخيص من مؤلفه الدكتور علي الإدريسي منجما على حلقات، لقي ترحابا واسعا من قبل القراء المغاربة ولا يزال، إلى درجة أن الطبعتين الأولى والثانية نفدتا من المكتبات والأكشاك؛ بالنظر إلى شجاعة المؤلف في عرض الأحداث، وجرأته في تحليل الوقائع بنزاهة وموضوعية.
الكتاب من أوله إلى آخره اعتمد الوثائق النادرة في التأريخ للزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي بأفق وطني يتسع لجميع المواطنين المغاربة، على عكس الطريقة التي “اعتاد عليها أولئك الذين حاولوا احتكار الوطنية وتأميم مستقبل المغرب، والتحكم في مصير أبنائه قرونا أخرى”، يضيف على الإدريسي في تقديم الكتاب.
الحلقة الرابعة
سلاح عبد الكريم ورفاقه هو إيمانهم بالحرية والكرامة
بعد أن تبادلت فرنسا وإسبانيا وألمانيا الاتهامات بتقديم السلاح لحركة التحرر في الريف، جاء دور اتهام بريطانيا بالتهمة نفسها من قبل الفرنسيين. فقد ذكر “بيير فونتين” في كتابه “الظاهرة الريفية العجيبة” أن المخابرات البريطانية «كانت تدعم عبد الكريم الخطابي». هذا في الوقت الذي أكدت فيه كتابات إسبانية، سبقت الإشارة إليها أعلاه، أن إسبانيا الولهانة إلى استرجاع مجدها الاستعماري، رضيت أن تقوم بدور كلب الحراسة لدى الإمبريالية البريطانية.
وإذا كان توزيع هذه الاتهامات بين الدول الأوروبية الاستعمارية يعبر عن تناقض المصالح فيما بينها، ويحاول تزوير التاريخ، ويرمي في الوقت نفسه إلى إخفاء الجروح العميقة التي ألحقت بالكبرياء الاستعماري من جراء الهزيمة التي ستشتهر في التاريخ بهزيمة ” أنوال” على يد حفنة من المغاربة الريفيين البسطاء، وبقيادة رجل ريفي من أيث وايغر، (بني ورياغل) لم يمارس في حياته سوى مهنة الكتابة والقضاء، ولم يسبق له أن درس في كلية حربية، ولم يكن له أي زاد إلا زاد الإيمان بحقه وحق الشعب المغربي في أن يعيش حرا فوق أرض حرة، فإن ما يثير السخف حقا أن يردد بعض الكتاب ورجال السياسة والوطنية المغاربة، في كتاباتهم ومذكراتهم، الروايات الفرنسية التي تزعم أن عبد الكريم كان يخدم المصالح الألمانية وأنه كان يتلقى مساعداتها، دون أن يسأل هؤلاء الذين خدعهم ولاؤهم المطلق لفرنسا أنفسهم: كيف يمكن لألمانيا أن تسلح إسبانيا بالغازات السامة لتقضي بها على الذي يفترض أنه يدافع عن مصالحها في المغرب؟!
ويحلو للبعض أن يستدل على العلاقة الألمانية- الريفية بعلاقة «مجموعة الإخوة مانسمان» مع القاضي عبد الكريم وولده محمد! وينسى هؤلاء، أو يتجاهلون، أن هذه المجموعة التي كانت تريد التنقيب عن المعادن في منطقة الريف؛ كانت قد حصلت «على 2027 ترخيصا للتنقيب عن المعادن واستغلالها في مجوع التراب المغربي» من قبل السلطان.
انتصار أنوال ومليلة المنهارة، وقرار الخطابي
وإذا تركنا لحكم التاريخ إظهار حقيقة تلك الاتهامات وإبراز حيثياتها، نتساءل عن جريان الأحداث بين المغاربة المنتصرين في مثلث إغريبن وادهار أوبرَان وأنوال، (مثلث التحرر) والإسبان المنهزمين، وبخاصة في مدينة مليلة التي فقدت حصانتها الدفاعية. وعن موقف عبد الكريم من مسألة استردادها بعد أن وصل المجاهدون إلى أبوابها؟
سنحاول التعرف، ولو بعجالة، على الجو النفسي العام الذي ساد المدينة، بعد أن تأكد سكانها الإسبان بأن جيش إسبانيا المتجه لفتح بني ورياغل قد أبيد عن آخره. وتفيد التقارير التي كتبت في تلك اللحظات بأن «الرعب كان يسيطر على المدينة، وكان دخول عبد الكريم منتظرا من حين لآخر»، وكتب شاهد عيان ما يلي: « في صباح 23 يوليوز 1921، وأثناء إقامة القداس الديني المعتاد في كنيسة القلب المقدس للمسيح، كان الخوف والهلع يسكنان القلوب، وما أن جرت شائعة تقول: إن المغاربة يزحفون نحو المدينة، وإنهم يستعدون للدخول إليها، وتحولت الإشاعة إلى خبر انتشر في كل أرجاء المدينة، كما تنتشر النار في الهشيم، وجرى الناس في الأزقة طائشين قاصدين ملجأ القلعة القديمة، هاجمين على ثكنات الجيش للاحتماء بها، وكنت ترى أمواجا من البشر يهربون ويصرخون في الشوارع، وكأن المغاربة قد دخلوا المدينة فعلا، وفي غمرة هبوط همة السكان كانت هنالك مشاهد فضيعة.»
أما فرانكو فقد سجل في مذكراته التي سماها “يوميات سرية” ما يلي: «لم يتبق من القيادة العامة لمليلة أي شيء، فالجيش مهزوم، والمدينة مفتوحة وطائشة وحبيسة الرعب.»
هذه هي مليلة، إذن، وهذا هو حال سكانها الإسبان، ولم يكن حال سكانها المغاربة بأحسن حال. فقد رأى الكثير من الإسبان، وفي مقدمتهم زوجة الجنرال “نافارو” الأسير عند الخطابي، «أن يعدم السكان المغاربة، الموجودون داخل المدينة، رميا بالرصاص.» فماذا كان موقف المنتصرين والخطابي من أمر مليلة؟
كان سكان مليلة يعيشون هلعهم إذن، وكان المجاهدون ينتظرون قدوم الخطابي لاتخاذ القرار الملائم، بعد أن يفرغ من دفن آلاف الجثث الإسبانية، ومن جمع السلاح وكل العتاد الحربي واللوجستيكي الذي أفاضت به معركة أنوال وتداعياتها، وتعيين المسؤولين المسيرين للمرحلة الجديدة، ومن وضع وتحديد منهجية التعامل مع الأسرى.. وبعد إتمام تلك المهام المستعجلة، التحق بالمجاهدين المحاصرين للمدينة «وأصغى طوال يوم كامل إلى القادة وأعضاء المجالس، وكل منهم يطرح ويؤيد هذا القرار أو ذاك، حتى إذا قال الجميع كلمتهم نهض عبد الكريم ليتكلم ويصدر أمره بكل هدوء، وهو يتوقع أن يطاع». وكان هذا الأمر باختصار: «لا يدخل المجاهدون مدينة مليلة»، ثم وضح أسباب ذلك بقوله: «إن رجالنا مفتقرون، حتى الآن إلى الانضباط، وسوف يقضون على المدنيين.» ثم أضاف: «مهما يكن من أمر فليست تلك طريقتي في خوض الحرب.»
لم يدخل عبد الكريم، إذن، مدينة مليلة، على الرغم من أنه لم يكن هناك أي مانع مادي من دخولها بسهولة تامة. فهل كان الرجل يجهل حقيقة الأوضاع الدفاعية للمدينة؟ قد لا تكون الحقيقة كذلك؛ بالنظر إلى معرفة عبد الكريم الشخصية بدقائق مدينة مليلة، وبغياب القدرات والوسائل الفعلية للدفاع عنها في حالة تم استرجاعها. خاصة أن المغرب انسحب منذ الموحدين من البحر. إضافة إلى المعلومات التي يكون قد حصل عليها من الأسرى الإسبان، والأصداء التي تجمعت عند المجاهدين الذين كانوا يراقبون المدينة عن كثب عند أبوابها البرية.
علق كثير من المؤرخين مقيّمين ذلك القرار، وربما رأوا فيه أنه كان وراء خسارته الحرب؛ والخطابي نفسه يعترف بذلك «لأنه وفر للإسبان رأس جسر استطاعوا انطلاقا منه أن يجتاحوا الريف، لكنه لم يندم قط على قراره»، وكان سعيدا برفاقه الذين نفذوا القرار على الوجه الأكمل.
ويجدر بنا أن نذكر أن حالة الخطابي في أمر مليلة لم تكن حالة فريدة أو استثنائية، في تاريخ شمال إفريقيا. فيوسف بن تاشفين، أمير دولة المرابطين، لم يلب دعوة الأندلسيين لاستضافة جيشه في مدنهم والاحتفاء به على إثر انتصارهم في معركة “زلاقة” الشهيرة. وقبله بقرون، لم يسمح حنا بعل لجنوده من دخول روما. وعند التمعن في الأسباب جميعها نجد أنها ذات صلة وثيقة بالحفاظ على العمران البشري، ومنع قتل العزل من الناس، باعتبار ذلك مخالفا للقيم الحضارية. ونستحضر بهذه المناسبة حادثة رواها المفكر الفرنسي رجاء غارودي ∗ في كتابه “من أجل حوار الحضارات”، حيث ذكر أنه أثناء اعتقاله في معسكر بناحية الجلفة بالجزائر سنة 1942، بسبب مشاركته في المقاومة ضد الاحتلال النازي لبلده فرنسا، قرر ورفاقه أن يعدوا استقبالا واحتفالا رمزيا لرفيق لهم سينقل إلى معسكرهم بعد أن ألقي القبض عليه. لكن قائد المعسكر توعدهم بأن أي مظاهرة من هذا النوع ستقابل بإطلاق النار عليهم، وأصدر أوامره إلى سرجان جزائري بتنفيذ ذلك التهديد. غير أن السرجان الجزائري لم يطلق النار على أولئك الذين استقبلوا الوافد الجديد بمظاهر احتفائية وبشعارات معادية للنازية وحكومة فيشي؛ فتعرض الجندي الجزائري من جراء ذلك للسجن وتجريده من رتبته العسكرية.
فبقي غارودي ورفاقه مندهشين مستغربين سلوكه؛ ولم تزل دهشتهم واستغرابهم حتى تم تحرير الجميع، بُعَيد سيطرة قوات الحلفاء على الجزائر، فتوجهوا إليه عساهم معرفة السر الذي أقلقهم، والذي بفضله بقوا على قيد الحياة، فأفادهم الجندي «بأن الأمر بسيط؛ فنحن معشر المسلمين سكان الصحراء لا نقتل العزل من السلاح لأن عقيدتنا لا تخول لنا ذلك.»
هكذا تتناسخ القيم وتتواصل في التاريخ. وتلكم كانت السمات الأولى لقيادة عبد الكريم الخطابي: إنها العمل بالإيمان بالتحرر والعدالة والكرامة، والمثابرة من أجل نشر ثقافة التآخي، بدل الضغائن والممارسات الانتقامية والثأرية، وتوسيع قاعدة التحالف (اللف) عوض الفرقة والانقسام؛ إنها الاستعمال الحكيم للإمكانات المتوافرة، بل هي استجابة لإرادة البقاء التي هي أقوى من أي سلاح، وتنفيذ لمبدأ القيام بالواجب نحو الوطن من أجل العيش في حرية بين شعب حر وفوق أرض حرة.
بين قيم الاستعمار وقيم الحرية والعدالة
ومن يكتشف ركائز قيادة الخطابي بين ركام ثقافة النسيان المغربية، يدرك عمق القيم التي كان الرجل يُجسّدها، ويستطيع أن يفهم لماذا عامل الأسرى بالاحترام؟ ولم يفكر أبدا في معاملتهم بنفس الطريقة التي كانت إسبانيا تعامل بها الأسرى المغاربة، أي المعاملة بالمثل؟، ويستخلص العبرة من عدم الموافقة على دخول قواته مدينة مليلة، أو تازة وفاس لاحقا؛ فلو فعل، ربما حقق له ذلك انتصارا عسكريا، ولكن بالتأكيد كان سيمثل له انتكاسة أخلاقية.
إن الانتصار بالنسبة لأصحاب القيم يعني الحرية والتحرر. ولا يمكن للإنسان أن يتحرر باستعباد الآخرين وحرمانهم من حقوقهم في العيش بكرامة، ولا معنى للحرية في غياب العدل، وهما توأمان. وقد أوجز دافيد هارت قيادة الخطابي قائلا: «لكنه لم ينس أبدا أنه كان قاضيا»، وإلى مثل هذا ذهب ” وارد برايس”، مراسل جريدة ” الدايلي ميل”، الذي زار الريف سنة 1924، حين كتب يقول: « لقد سمعت أن الإسبانيين عزوا إلى زعيم الريف أعمالا تتصف بالقسوة والوحشية، لكن شيئا في مظهره أو تصرفاته لم يكن يومئ بأي استعداد همجي عنده، كان الانطباع الذي يعطيه بالأحرى انطباع البديهة الحاضرة، وكان في تصرفه الهادئ، البعيد عن الادعاء والتكلف، الشيء الكثير من الثقة بالذات». وقد أورد هذه الانطباعات وهو يسجل للخطابي تصريحه لجريدة “دايلي ميل” الذي افتتحه بقوله: «إننا سيئو العدة بالمقارنة مع الإسبانيين، لكن قوتنا الأخلاقية تعدل الفارق في السلاح، ومع ذلك فإننا لا نريد الحرب».
ولخص مراسل “دايلي ميل” لقرائه وللرأي العام البريطاني، أن أحد أهدافه من المقابلتين الصحافيتين اللتين أعدهما بعد إقامته بين المجاهدين الوطنيين في الريف، ومقابلته الخطابي هي تدمير «الأوهام الأكثر رومانتيكية عند الرأي العام البريطاني. فقد ظل الروائيون طوال سنوات يحصلون الثروات من وراء هذا الوهم الذي ينتشر إحساسه الزائف عبر ما يكفي من الأفلام السينمائية: أي خديعة الشيخ، هذا الشخص القاسي، المتهور، العاشق، العنيف الإغراء، الأنيق اللباس، الواثق من نفسه، المتصف بالرجولة، الزائف والوهمي بكليته، الذي يختطف فتاة إنجليزية جميلة، متكبرة، ذكية، على جواد أصيل حاملا إياها إلى خيمة تغص بالبسط الحريرية والأشربة المحلاة، ويكسب هناك حبها رغما عنها، بجلدها المرة تلو المرة بسوط ذي قبضة ذهبية مرصعة.»
وفي الجهة المقابلة كان القادة الإسبان يتصرفون بأساليب الاستعلاء والاحتقار ضد المغاربة وجنودهم، على حد سواء؛ فالجنرال سلفستري، الذي كلفه الملك ألفونصو الثالث عشر بتحطيم المأزق المغربي، كان «سريع الثأر ومتهورا إلى درجة الجنون… يزدري أهل الريف، يسميهم جنود التنورة، وتعهد بأن يقصم ظهورهم قبل أن يتمكنوا من تعبئة أنفسهم»، كما أنه لم يكن يقيم أي وزن للقادة الإسبان الآخرين. ويؤكد أحد العارفين بخبايا القيادة العسكرية الإسبانية، آنذاك، «أن معظم الضباط يبعثون على النفور». أما قائد «التريسيو»( اللفيف الأجنبي)، «فكان رجلا مهووسا، ساديا، يتلذذ بتعذيب رجاله، مجنونا شغوفا بالقتل». ولا تزال صور التمثيل برؤوس الشهداء المغاربة، من قبل جنود وأشخاص إسبانيين، تثير التقزز والاشمئزاز في النفوس، لكنها تؤكد “قيم” الاستعمار، منذ عهد روما إلى عهد بوش.
ويؤكد الصحافي الأمريكي نزعة القتل، غير المبررة، عند الإسبان حين يستحضر ما جرى أثناء مرافقته للجيش الإسباني، وهو ينسحب من مدينة الشاون سنة 1924؛ فقد كان قائد المدفعية يمطر القرى الآمنة بقنابل مدفعية ببرودة دم، وعندما سأله لماذا يفعل ذلك؟ أجابه بأنه شيء جميل أن يرى «القنابل تصطاد القرويين عند الغروب وهم وهم راكعون للصلاة”
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.