أخر الاخبار

القصة الكاملة لحرب (الرمال) 1963 بين المغرب والجزائر

القصة الكاملة لحرب (الرمال) 1963 بين المغرب والجزائر

*كان التزام المغرب ـ ملكا وشعبا ـ بمساعدة الثورة الجزائرية غير محدود ولا مشروط، وحتى في أصعب ظروف المغرب. 
*حمل الملك الحسن الثاني معه في أول زيارة للجزائر 23 سيارة مرسيدس من النوع الكبير لوضعها رهن خدمة الوزراء الجزائريين الـ23 
* لم يضحك بن بلا قط خلال زيارة الملك الحسن الثاني للجزائر فاقترح عليه الدكتور الخطيب اسناد وزارة المواشي الى بومعزة، ووزارة التموين الى بوخبزة ووزارة الفلاحة الى بومنجل ووزارة الشرطة لبوتفليقة .. فابتسم الرئيس 
* عزا الوفد المغربي انقباض الرئيس بن بلا الى ما كان يعج به صدره من هموم بناء الجزائر 
* ذهب الحسن الثاني الى الجزائر يحمل هما واحدا هو مشكلة الحدود المترتبة على إلحاق فرنسا لأجزاء من تراب المغرب بالجزائر يتناول عبد الهادي بوطالب السياسي المغربي المخضرم في هذه الحلقة من حوارات «نصف قرن تحت مجهر السياسة» التي خص بها «الشرق الأوسط» ظروف اندلاع «حرب الرمال» بين المغرب والجزائر. والمحاولات التي قام بها الملك الحسن الثاني مع الرئيس الجزائري احمد بن بلا للحؤول دون اندلاعها. 
ويتحدث بوطالب هنا عن اول زيارة يقوم بها الملك الحسن الثاني الى الجزائر، وقراءته لشخصية الرئيس بن بلا اثناء الزيارة. 
* في سنة 1963 اندلعت حرب الرمال بين المغرب والجزائر. فما هي الأسباب والخلفيات التي أدت إلى حرب الأشقاء؟ 
ـ لم تنقطع إمدادات المغرب للثورة الجزائرية منذ اندلاعها سنة 1954 إلى تتويجها بالانتصار والاستقلال سنة .1962 كنا في الحركة الوطنية نؤمن أن كفاح أقطار شمال افريقيا للتخلص من الاستعمار يشكل وحدة لا انفصام لها، وأن المكافحين في كل من المغرب والجزائر وتونس يوجدون على خط معركة التحرير في خندق واحد. واعتبرنا ـ وقد حررنا بلادنا وشكلنا أول حكومة وطنية ـ أن انتصار المغرب بعودة محمد الخامس من منفاه وإعلان الاستقلال لا يعفي المغرب من مساعدة ما بقي من أقطار المغرب الكبير تحت الاستعمار، وخاصة الجزائر التي ألحقتها فرنسا بها وجعلت منها ثلاث مقاطعات فرنسية. 
ولذلك كان التزام المغرب ـ ملكا وشعبا ـ بمساعدة الثورة الجزائرية غير محدود ولا مشروط، وحتى في أصعب ظروف المغرب. 
كان المغرب غداة استقلاله ما يزال يكمل تحرير ترابه ويكافح لإجلاء الجيوش الأجنبية الفرنسية والإسبانية عن أراضيه، وعن القواعد العسكرية التي سمح الاستعمار الفرنسي بإقامتها فوق ترابه لفائدة القوات الأميركية. وكان المغرب محط الأنظار والمراقبة من طرف الاستعمار الراحل الذي لم يسلِّم بوضع الاستقلال إلا مُرغَما. وظل مع ذلك يتربص به السوء بعد أن أفلت من قبضته، ويخشى من سريان عدوى التحرر إلى الجزائر المجاورة. وكان اضطلاع الملك محمد الخامس بمسؤولية تبني قضية الجزائر المكافحة ودعمها بالمال والسلاح تحديا لفرنسا كان يمكن أن يكون من بين ردود فعله ضرب فرنسا القواعد العسكرية المغربية التي كانت تحتضن الفرق العسكرية الجزائرية وقد بلغ عددها 9.000 جندي. 
وكان المغرب يواجه مشكلة بناء الدولة وتطويرها بما يتطلبه البناء والتطوير من نفقات تضيق عنها ميزانيته، لكن هذه الظروف الصعبة لم تثنه عن مضاعفة دعم الجزائر ماديا، وتوفير السلاح لثورتها، وحماية ظهرها على طول الحدود المغربية التي أصبحت مفتوحة في وجه المكافحين الجزائريين، ومَـمَرّا للعتاد والذخيرة إلى أرض المعركة بالجزائر. 
وإلى قاعدة مكناس العسكرية المغربية كان يرد السلاح الروسي المقتنَى من الثورة الجزائرية، وضِمْنه الطيران العسكري الذي كان يتدرب عليه بالقاعدة المغربية ربابنة جزائريون. وكان المغرب يساهم من ميزانيته في شراء السلاح ونقله إلى الجزائر. كما ساعد الجزائر ماليا على اقتناء الباخرة «سانت بريفال SAINT BRIVAL » التي اشتهرت باسم الأطوس lathos وغصت مدينة وجدة على الحدود الشرقية بالمهاجرين الجزائريين، واستقبلت مستشفياتُها الجرحى لعلاجهم، وآوت القيادةَ الجزائريةَ السياسية التي أصبحت تُعرَف في ما بعدُ بمجموعة وجدة، والتحقت بالجزائر عند استقبالها لتدير دفة الحكم. 
* لكن المغرب أدى ثمنا غاليا بسبب ذلك خاصة في علاقته بفرنسا؟ 
ـ نعم، أدى المغرب غاليا ثمن هذا الدعم، خاصة خلال تسعة أشهر قطع خلالها علاقته مع فرنسا على إثر اختطافها الطائرة المغربية التي كانت تُقِل الزعماء الجزائريين الخمسة الذين جاءوا إلى المغرب وحلوا ضيوفا على الملك محمد الخامس، وكانوا يُردِفونه على الطائرة المختطَفة ليحضروا بجانبه في زيارته تونس تلبية لدعوة رئيسها الحبيب بورقيبة. وكان من بين هؤلاء الزعماء أحمد بن بلا الذي سيصبح رئيس الحكومة الجزائرية فرئيس الدولة الجزائرية في فجر الاستقلال. 
* وما هي الخسائر التي نتجت عن قطع العلاقات مع فرنسا؟ 
ـ خلال فترة القطيعة مع فرنسا تحمل المغرب صعوبات وأضرارا مادية تجلت خاصة في فقده المعونة الفنية الفرنسية التي كان في أمس الحاجة إليها لتطوير بنياته الأساسية. 
وكان طبيعيا ـ والحالة هذه ـ أن يعيش المغرب عرسا كبيرا طافحا بالأفراح يوم استقلت الجزائر، فهذا الاستقلال كان يكمل استقلاله ويوطد له قواعد الأمن والسلامة، ويؤشر لمستقبل أسعد لشعبين كل شيء يؤلف بينهما ويوحدهما في مصير مشترك. وكان يخلق للمغرب ظروف المزيد من الاستقرار والانصراف إلى بناء نفسه بعد أن تحرر من أعباء إسناد الثورة الجزائرية. 
لكن استقلال الجزائر لم يكن نهاية متاعب المكافحين، بل فجَّر داخل الجزائر ما كانت تجيش به من تناقضات لئن صَهَرها مؤقتا هدف التحرير فإن الاستقلال لم يَقوَ على احتوائها. 
* وماذا كان موقف المغرب من تلك التناقضات الداخلية؟ 
ـ أريد أن أشير إلى انقسام الصف القيادي لجبهة التحرير الجزائرية، وبروز تكتلات سياسية لجأ بعضها (وعلى رأسها الزعيم آيت أحمد) إلى التمرد العسكري بمنطقة القبائل على الحكومة الشرعية. وقد وقف الملك الحسن الثاني إزاء الأزمة الداخلية الجزائرية موقف المناصر للحكومة الجزائرية. لقد كان مؤمنا بأن هذا الخلاف العارض لا يشكل إلا اجتهادات في الرأي بين أبناء الجزائر الواحدة، وبالتالي فواجب المغرب أن يُعرِض عن الخوض فيه، وأن يقوي عرى التعاون بينه وبين الحكم الشرعي مشخَّصا في حكومة الجزائر التي كان يقودها آنذاك الرئيس أحمد بن بلا. 
وهذا بعض ما استهدفه الملك الحسن الثاني من مسارعته للقيام بزيارته الرسمية للجزائر، تلبية للدعوة التي وجهها إليه الرئيس بن بلا ونقلها لجلالته وزير خارجية الجزائر آنذاك المرحوم الخميستي. وكان الملك قد وقَّت زيارة إلى الولايات المتحدة تلبية لدعوة الرئيس الأميركي، لكنه أخرها وأعطى الأسبقية لزيارة الجزائر. 
* كيف كانت هذه الزيارة التي رافقتم فيها الملك الحسن الثاني؟ 
ـ رافقته بوصفي وزير الإعلام والشباب والرياضة. وأتاحت لي هذه المرافقة أن أتعرف على الجزائر لأول مرة ـ ككثير من زملائي في حكومة المغرب ـ وأن أتصل أيضا لأول مرة بالرئيس بن بلا. 
وكنت قد حاولت مرة في بداية الخمسينيات ـ والمغرب تحت الحماية الفرنسية ـ أن أزور الجزائر قادما إليها من مدينة وجدة، فأرجعتني الشرطة الفرنسية من الحدود، لأن جوازي لم يكن يحمل تأشيرة دخول إلى ما وراء الستار الحديدي. وكنت أعرف بعض وزراء حكومة الرئيس بن بلا وقيادات جبهة التحرير قبل استقلال الجزائر، حيث جمعتنا في باريس ـ التي اخترناها بَلد منفَى ـ ظروف التحرير المشتركة، وخاصة منهم من كانوا ينتمون إلى حزب البيان الجزائري بزعامة عباس فرحات الذي كان يتعاطف معنا في حزب الشورى والاستقلال، بينما لم تُتَحْ لي قبل الزيارة الملكية فرصة للتعرف على رئيس الجزائر. 
أعدّ الملك الحسن الثاني كل ما يلزم لتعكس زيارته مشاعر المودة والأخوة والتعاطف المتأصلة بين شعبي المغرب والجزائر، وحرص على أن يحس القادة الجزائريون بدفء حرارة العواطف المخلصة التي يكنها لهم ملك المغرب، ففجر منها شحنات دافقة بالعطف، وأطلق للإعراب عنها يده سخية مِعطاءة حيث حمل معه متنوع الهدايا، وكان من بينها 23 سيارة مرسيدس من النوع الكبير جاءت من مصانعها بألمانيا إلى المغرب ليلة الزيارة، فوضعها في خدمة الوزراء الجزائريين الثلاثة والعشرين الذين كانوا يشكلون حكومة بن بلا. كما حمل معه أسلحة مغربية آثر بها جيش الجزائر على جيشه. 
* وكيف مرت الزيارة بين وفد المغرب والحكومة الجزائرية؟ 
ـ بدا لي طيلة الزيارة أن الملك الحسن الثاني كان ـ وهو يحاور بن بلا ـ كمن يُجهِد نفسَه لفتح قُفْل مغلق ضاع مفتاحه. فالرئيس الجزائري كان يبدو صعب المراس، لم يضحك قط ولا ابتسم، إلا مرة واحدة خلال لقاء لم يحضره الملك الحسن الثاني تحلَّق فيه حوله الوفد المغربي والوفد الجزائري في جلسة استراحة واسترخاء، فإذا بعضو الوفد المغربي وزير الدولة في الشؤون الأفريقية الدكتور عبد الكريم الخطيب يبادر الرئيس بنكتة في شكل سؤال: «ألا تفكرون فخامة الرئيس في إدخال تعديل على حكومتكم أعتبره منطقيا، إذ به تضعون الرجل الصالح في المكان الصالح، فتسندون وزارة تربية المواشي إلى الوزير بومعزة، ووزارة التموين إلى الوزير بوخبزة، وتضعون الوزير بومنجل في وزارة الفلاحة، والوزير بوتفليقة في الشرطة؟». وكانوا جميعهم على رأس وزارات أخرى. فتوزعت مشاعر الرئيس ـ وهو يفاجَأ بهذه النكتة ـ بين كبح سَوْرة الغضب واستطابة بلاغة النكتة، فاحمر وجهه، وتزحزحت شفتاه في مشروع ابتسامة لم تقْوَ على شق طريقها. 
وقد كانت طبيعة العلاقات الحميمة التي قامت أثناء حرب تحرير الجزائر بين الدكتور الخطيب وبين قادة الجبهة الجزائرية تسمح له هو وحده بأن يداعب الرئيس بهذه النكتة التي لم يَسْتسِغها مع ذلك الرئيس الجزائري، خاصة وقد نطق بها الدكتور الخطيب أمام الوزراء الجزائريين.
* ما هي أسباب انقباض الرئيس بن بلا؟ 
ـ عزا الوفد المغربي انقباض الرئيس الجزائري إلى ما كان يَعِجُّ به صدره من هموم بناء الجزائر، وإلى ما كان يتهدد الجزائر من انقسام صف قادتها، وإلى معاناة الرئيس الجزائري من معارضة بعض رفقائه في الكفاح لسياسته، ومناهضتهم لبسط حكمه، وإلى الخلاف الذي أخذ يطبع علاقات الرئيس بالمجلس الوطني الجزائري (البرلمان) الذي كان يريد أن يلعب دور المجلس التشريعي المراقب للحكومة، لكن الرئيس الجزائري كان يرفض مراقبته على المكتب السياسي لجبهة التحرير الوطنية الذي كانت الحكومة تتألف منه. 
* وما هو الهدف الأساسي لزيارة الملك الحسن الثاني إلى الجزائر يوم 13 مارس (آذار) 1963؟ 
ـ لقد جاء الملك الحسن الثاني على رأس وفد المغرب يحمل هما واحدا : هو مشكلة الحدود المغربية ـ الجزائرية التي ترتبت على إلحاق فرنسا لأجزاء من تراب المغرب بالجزائر في عملية حسابية سياسية استعمارية عندما كانت تراهن على إدامة احتلالها للجزائر كجزء لا يتجزأ من التراب الفرنسي، فتقتطع من المغرب أرض الحماية (المؤقتة) وتضيف إلى (التراب الفرنسي الدائم) مناطق لا جدال في مغربيتها.
ومع ما كان يحمله الملك من هم الحدود حمل لمحاورِه بن بلا ملفا جيدا حافلا بالحجج التاريخية التي تثبت مغربية الأراضي التي ألحقتها فرنسا بالجزائر،كان ضمنه وثائق وخرائط ومعاهدات دولية. لكن كان الملف يحمل أكثر من ذلك اعترافَ فرنسا وحكومة الجزائر المؤقتة التي تأسست قبيل استقلال الجزائر بمغربية الأراضي المغتصبة، هذه الحكومة التي أمضى رئيسها عباس فرحات مع الملك الحسن الثاني بتاريخ 6 يوليو (تموز) 1961 اتفاقية تضمنت التنصيص على أن الجزائر تعترف بأن مشكلة الحدود بين المغرب والجزائر موجودة وقائمة، وأن واقع الحدود إنما تم فرضه من لدن فرنسا بتعسف وظلم. وتتعهد بأن تدخل حكومة الجزائر المستقلة في مفاوضات مع المغرب لتسوية المشكلة. كما تضمنت الاتفاقية التنصيص على أن ما قد يُبرَم من أوفاق بين الجزائر وفرنسا لا يمكن أن يكون حجة على المغرب في ما يخص ضبط الحدود الجزائرية ـ المغربية. 
* لكن لماذا رفض المغرب التفاوض مع فرنسا على تلك الحدود قبل استقلال الجزائر؟ 
ـ كانت حكومة فرنسا عرضت على حكومة المغرب الدخول معها في مفاوضات لتسوية مشكلة اقتطاع الأراضي المغربية لفائدة الجزائر، وذلك أثناء حرب التحرير الجزائرية، لكن المرحوم محمد الخامس المعروف بمثاليته وإخضاع سياسته لأخلاقياته رفض التفاوض المباشر مع فرنسا، وفضل ترك المشكلة إلى حين استقلال الجزائر، معتبرا أن التفاوض مع فرنسا طَعنٌ لظهر الجزائر المكافحة وإخلال بسندها الذي التزم به أمام نفسه وأمام ربه. 
وفي الاجتماع الذي جرى على انفراد بين الملك الحسن الثاني والرئيس أحمد بن بلا أثناء الزيارة طلب هذا الأخير من الملك أن يؤخر بحث موضوع الحدود إلى حين استكمال الجزائر إقامةَ المؤسسات الدستورية، وتسلُّمَه مقاليد السلطة بوصفه رئيس الدولة الجزائرية المنتخب، مخاطِبا بالأخص الملك بهذه العبارة الحافلة بالدلالات : «ثقوا أن الجزائريين لن يكونوا بطبيعة الحال مجرد وارثين للتركة الاستعمارية في موضوع الحدود المغربية ـ الجزائرية». 
وقد اطمأن جلالة الملك لهذا التعهد الصريح، خاصة وقد كان الرئيس بن بلا أعلن في خطاب تنصيبه أن حكومته تحترم وتضمن تطبيق جميع ما أبرمته الحكومة المؤقتة الجزائرية من أوفاق. 
وكنت ضمن الوزراء المغاربة الذين أطلعهم الملك الحسن الثاني إثر اجتماعه بالرئيس الجزائري على ما راج بينهما في موضوع الحدود، فأبدى بعضنا تشككا وارتيابا في حسن نية الرئيس الجزائري الذي اعتبرْنا تسويفه معالجةَ المشكلة تهرُّبا وتملُّصا. لكن الملك قال: «إنه لا يشاطرنا رأينا، وإنه لا يتصور أن يلجأ الرئيس الجزائري إلى الأسلوب الملتوي، وأنه يثق في حسن نيته، إذ لا يُعقَل أن يكافئ المغربَ على سنده الموصول للجزائر بالعمل على إدامة مشكلة الحدود قائمة، وبالأحرى أن يكون همه هو الاحتفاظ بأراض وأقاليم مغربية انتُزِعت من المغرب لدواع استعمارية يعلمها الرئيس الجزائري حق العلم ولا ينازع فيها». 
وعدنا إلى المغرب لتتلاحق الأنباء الواردة علينا من الجزائر بشن الحكومة الجزائرية حملة تشهير وقذف على المغرب، متهمة إياه بإسناده ثورة القبائل الجزائرية، وبالسعي لزعزعة الاستقرار الجزائري. 
* وما هي أسباب تلك الحملة ضد المغرب؟ 
ـ كنت أتابع ـ من وزارة الأنباء ـ تطورات هذه الحملة التي لاحظت أنها لا تنحصر في وسائل الإعلام الجزائري، بل تجد لها صدى واسعا إن لم أقل تواطؤا مدروسا من لدن وسائل الإعلام المصري الذي كان يتبنّى الأطروحة الجزائرية ويضيف إليها ما يوحي به الخيال. 
وكان معروفا تعاطف مصر مع الجزائر، وما كان يجمع الرئيس عبد الناصر والرئيس بن بلا من وشائج، إذ كان الأول يراهن على أن يحمل الثاني في منطقة المغرب العربي لواء القومية العربية الناصرية امتدادا للنظام المصري الذي كان يبحث عن مدخل له لهذه المنطقة. وكان الرئيس بن بلا يؤهل نفسه للعب هذا الدور الريادي، ويهتدي في توجهاته وشعاراته بهدي فلسفة الثورة المصرية. 
* وكيف تعامل الملك الحسن الثاني معها؟ 
ـ عمل الحسن الثاني على احتواء الأزمة بالحد من تطورها نحو الأسْوأ، وكلف سفيره بالجزائر السيد محمد عواد بالاتصال بالرئيس الجزائري لدحض التهم المفتعَلة، وإعطاء تأكيدات جديدة للرئيس بامتناع المغرب عن كل ما يسيء إلى جارته، وبتطلعه إلى عهد من الوئام والصفاء. وقبِل الملك أن يجتمع وزير خارجية المغرب السيد أحمد رضا جديرة بوزير خارجية الجزائر السيد عبد العزيز بوتفليقة في وجدة ليصدر عنهما بلاغ مشترك أُطلِق عليه «بلاغ الوفاق». ولم يتجاوز الوفاق استبعاد السلبيات بتعهد كل طرف بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للطرف الآخر، وبامتناع كل دولة عن الإضرار بالدولة الأخرى. ولم يثر البلاغ مشكلة الحدود والأراضي المغربية المغتصبة. 
ولم يطل حلم الوفاق، وإنما استيقظنا على دَويّ أنباء عن مهاجمة الجيش الجزائري غدرا لمركزي «حسي بيضا» و«تينجوب» على الحدود المغربية الجزائرية ولم يكن حولهما نزاع، بل كانا أثناء الهجوم خاضعين للسلطة المغربية وتحت الحراسة المغربية. 
وقد شرح الملك الحسن الثاني نفسُه في مؤتمر صحافي عقده بمراكش ظروف هذا الهجوم فقال: «لم يترك المهاجمون الجزائريون للمغاربة الموجودين بالمركزين المعتدَى عليهما أي حظ للخروج منهما قبل قصفهما واحتلالهما. وفعلوا ذلك بدون إشعار مسبق، ولا إلفات لنظر السلطة المغربية إلى أن للجزائر مطلبا ما في الأرض، وأن على من فيها أن يغادروها». وأضاف ملك المغرب: «أمام هذا الهجوم الغادر لم يكن لديّ سوى خيارين: أن يتسم رد فعلي بالقلق والانفعال، أو بالتعقل والاتزان. ووضعت رأسي بين يدي متسائلا: من المستفيد من هذه الجريمة؟ هل يُعقل أن يعمد الرئيس بن بلا إلى القيام بمبادرة الهجوم على المغرب ويخلق لنفسه مشاكل خطيرة وهو الذي يعاني من مشاكل داخلية من كل نوع؟ 
* متى قرر المغرب هجومه المضاد للهجوم الجزائري؟ 
ـ تلاحقت الأحداث بسلوك الجزائر سبيل التصعيد، فلم يمر إلا يوم واحد على لقاء وزيري خارجية المغرب والجزائر بوجدة وصدور بلاغ الوفاق حتى عرف إقليم وجدة المغربي الممتد شرقا إلى التراب الجزائري هجوما مباغتا قام به الجيش الجزائري هذه المرة بكيفية سافرة على مركز «إيش» العسكري الواقع على بعد خمسين كيلومترا من شمال شرق مدينة فيكيك بإقليم وجدة. وكانت تحرسه قوات مغربية لم تكن تتوفر إلا على سلاح خفيف، بينما كان المهاجِمون الجزائريون يشكلون قوات نظامية مجهزة بالأسلحة الثقيلة. والأدهى من ذلك أن الطيران العسكري الجزائري شارك بدوره في الهجوم على منطقة «تيندرارة» (في إقليم وجدة أيضا). وجميع هذه المناطق لم تكن موضوع نزاع بين الدولتين، لأنها تقع في التراب المغربي الذي ظل تحت سلطة المغرب طيلة الحماية الفرنسية وإلى حين إعلان الاستقلال، ولم تقتطعه فرنسا من المغرب أبدا. كما أن هذه المناطق تبعد بألف كيلومتر عن مركزي «حسي بيضا» و«تينجوب» فلا يمكن اعتبار الهجوم عليها مجرد حادث حدود. 
وبمعنى آخر، إن الجيش الجزائري أصبح يقوم برحلات سياحية يستعرض فيها عضلاته داخل التراب المغربي برا وجوا، مخترقا حرمة السيادة المغربية، وسامحا لنفسه باستعراض عضلاته للإرهاب والتخويف، الشيء الذي دفع بالملك الحسن الثاني إلى إرسال برقية صارخة مؤثرة للرئيس بن بلا احتج فيها على العدوان الجزائري، واسترعى نظر الرئيس الجزائري إلى خطورته وعواقبه وختمها مناديا ضمير الجزائر مخاطِبا السيد بن بلا بقوله: «بوصفكم المسؤول الأول عن مصير الجزائر ومستقبل شعبها، لا يمكنكم أن لا تقدروا حجم العدوان المرتكَب، وأن لا تحسُبوا عواقبه. إن الاتجاه الذي يبدو أن الجزائر تسير في وجهته والذي تجلى في أعمال عدوانية على التراب المغربي لن يساعد بكل تأكيد على خلق جو ملائم للبحث عن حل لمشاكلنا عن طريق التفاوض والحوار المباشر. لذا نناشد مرة أخرى المسؤولين الجزائريين أن يرتفعوا فوق الاعتبارات العاطفية، ويتحكَّموا في انفعالاتهم، وأن يأخذوا بعين الاعتبار أن الأجيال الحاضرة والمقبلة محكوم عليها ليس فقط بالارتباط بعلاقات تطبعها السلم، ولكن أيضا بالارتباط بعلاقات التعاون الأخوي لتشييد مستقبلنا المشترك. ذلك أن قرننا (القرن العشرين) يقوم على علاقات المجاملة، ويلتزم بمقتضيات الأوفاق والمواثيق الدولية التي تفرض على جميع الدول المحترِمة لنفسها أن تستبعد اللجوء إلى العنف. نقول هذا ونضيف أن المغرب على استعداد لمواجهة جميع الاحتمالات وجميع الأوضاع بجميع الوسائل الملائمة». 
* وماذا كان رد فعل الرئيس بن بلا؟ 
ـ بعد هذه البرقية التي أصَرَّ الرئيس ابن بلا على تجاهلها فلم يَرُدّ عليها ولم يكلف نفسه على إثرها عناء إرسال مبعوث إلى الملك لشرح موقف الجزائر، استمر الحسن الثاني متمسكا بالحوار، ومستنفدا وسائل التفاهم بالحسنى، فبعث إلى الرئيس بن بلا وفدا مركبا من الحاج أحمد بلافريج وعبد الهادي بوطالب لكننا لم نجد من الرئيس استعدادا لحوار بناء. وعدنا لنخبر الملك الحسن الثاني بفشل مسعانا فالرئيس كان يعتبر المغرب المسؤول وحده عن تطور أحداث الحدود. ثم عاد الملك فأرسلني مرة أخرى إلى الرئيس ابن بلا وبرفقتي مدير ديوانه العسكري الكومندان محمد المذبوح في مهمة تستهدف تحسيس الرئيس الجزائري بخطورة الموقف وحَمْله على إيقاف مسلسل الاعتداءات والتحديات. وعن ذلك ، قال الملك الحسن الثاني في مؤتمره الصحافي: «استدعيت وزيري في الإعلام السيد عبد الهادي بوطالب ومدير ديواني العسكري وقلت لهما: «اذهبا للتحدث باسمي لدى الرئيس بن بلا وأطْلِعاه على الخريطة. وقولا له إن «حسي بيضا» و«تينجوب» كانا دائما ترابين مغربيين لا نزاع عليهما». 
وقسَّم الملك الحسن الثاني الأدوار بيننا، فكان دور المذبوح الحديث لدى الرئيس الجزائري عن ظروف العدوان والسلاح المستعمل فيه، وتجهيزات الفرقة العسكرية الجزائرية المداهِمة. وحدد دوري في ما أعلن عنه في المؤتمر الصحافي وجاء فيه: «كلفت السيد بوطالب أن يشرح للرئيس ما جرى، وأن يقول له بالنيابة عني إنني لا أملك أن أتصور لحظة واحدة أنه قد أعطى الأمر بمهاجمة المغاربة، وأنني أعتقد أن العدوان مدبَّر من لدن عناصر لا تراقبها حكومة الجزائر، وأن الرئيس وُضِع لا محالة أمام الأمر الواقع، وأنني أناشده أن يقتصَّ بالعدل من مرتكبي العدوان». 
وأقلَّتْنا طائرة (دس3) من مراكش إلى الجزائر في رحلة استمرت ما يقرب من خمس ساعات توقفنا خلالها بوجدة توقفا تقنيا، إذ هذا النوع من الطائرات كان في الستينات في حاجة إلى التزود بالوقود حتى في المسافات المتوسطة. 
وابتدأ الحديث مع الرئيس بن بلا في جو متشنِّج. وكنت أحاول أن أُلطِّف حدَّته شكلا دون تساهل في العمق. «فالمغرب متشبث بترابه المدمَج من فرنسا في التراب الجزائري وبالمطالبة بإرجاعه طبقا للحجج المؤيدة له، ولكن عن طريق التفاوض والحوار. والمغرب يعتقد أن حوادث العدوان مُفتـعَلة من عناصر جزائرية، ويأمل أن لا يكون العدوان من عمل الحكومة الجزائرية وبإرادتها. والمغرب يعتبر أن ما وقع خطير، ولكن قد توفر خطورتُه الجو الملائم للإسراع بالدخول في المفاوضات، إذ تَرْك الحال على ما هي عليه مؤذن بتفجير أحداث أخرى قد لا يسهل احتواؤها». 
وانتظرت وأنا أحاول أن أفتح أقفال الرئيس أن يسلك من أحدها إلى تجاوز الأحداث بإعطاء تطمينات عن نوايا الجزائر والوعد باحترام التزاماتها في المستقبل، فلم يُسعِفني الرئيس ببارقة مهدئة لجو التشنج الذي كانت تبدو ملامحه فوق وجهه، واندفع يطلق لسانه بما يفضح طوايا صدره. 
* لكن ما هي القشة التي قصمت ظهر البعير؟ 
ـ لم يقدم الرئيس اعتذارا عما حصل، ولم يقل كلمة واحدة عن ضحايا العدوان المغاربة، ولم يطلب مني أن أنقل لجلالة الملك أية عبارة للمواساة والعزاء في الضحايا، بل في انفعال مثير قال: «إن مشكلة الحدود مشكلة وهمية ويجب السكوت عنها في الوقت الحاضر لتجاوزها فيما يستقبل». وزاد يقول: «على النظام الملكي المغربي أن يواجه مشاكله الداخلية، وأن يعلم أن النظام الجزائري حصين منيع، ولا يملك النظام الملكي المغربي النيل منه». 
وكانت هذه الفقرة من الحديث خاتمة الجدل، تعطلت معها لغة الكلام، مما صحَّ معه قول الشاعر العربي القديم : 
وإن النار بالعُودَيْـــن تُذْكَــــــــــى وإن الحرب أولـهـــــا الكــــــــــلامُ ووجدتُني مضطرا لأن أدخل مع الرئيس في ملاسنة حفظتُ فيها كرامة المغرب ووضعتْ حدا للحوار العقيم. 
* وما ذا بعد ذلك؟ 
ـ عدت إلى مراكش لإطلاع جلالة الملك على وقائع المهمة التي وكَلَها إليَّ رفقة مدير ديوانه العسكري الذي لم يعلق الرئيس الجزائري على تدخله أثناء استقبالنا عندما كان يفتح أمامه الخرائط ويشرح له مواقع العدوان ومنطلقاته. ولم يعد شرح الكومندان مدبوح في حاجة إلى تعليق بعدما نطق الرئيس بن بلاّ بما أقفل به حديثنا. 
وفي المؤتمر الصحافي وصف جلالته مهمتي لدى الرئيس بالمهمة السلبية المأسوف عليها وخاطب الصحافيين قائلا: «سأترك بعدي لوزيري في الإعلام السيد بوطالب أن يحدثكم عن أهم ما راج بينه وبين الرئيس الجزائري». 
وقلت للصحافيين ما كان يمكن قوله مما يبرهن على سلبية المهمة لعدم توفر الاستعداد لتقبلها من الجانب الجزائري دون أن أدخل في التفاصيل، ولا سيما ما جاء في حديث رئيس الجزائر من تقييم مقارَن بين نظامي البلدين. 
ووجد الملك الحسن الثاني نفسَه مضطرا لسلوك الطريق الذي لم يجد له منفذا سواه، بعد أن استنفد وسائل الحوار الهادئ، فنشِبت حرب الرمال التي استمرت ثلاثة أيام، استرجع فيها المغرب بالقوة بعض ما أخذته الجزائر بالقوة والعدوان، وتوغل الجيش المغربي يقوده الضابط العسكري الكبير العقيد إدريس بن عمر حتى أصبح على بعد 26 كيلومترا فقط من مدينة تيندوف المغربية التي تحتلها الجزائر. كما أعلنتُ عن ذلك في مؤتمر صحافي كنت أعقده مساء كل يوم بمراكش حيث كان يقيم جلالة الملك عن سير العمليات العسكرية. ثم توقفت الحرب وتراجع المغرب إلى حدوده المفروضة تلبية لنداءات، وعملا بوساطات، فدخل المغرب مسلسل العمل على إرجاع ترابه بالإلحاح في المطالبة، بينما تشبثت الجزائر بموقفها. 
وأود هنا أن أخرج ورقة من مذكراتي عن هذه الفترة لأقول إن الجيش المغربي قَبِل على مضض أن يتوقف القتال طبقا لأمر جلالة الملك. وأنني حضرت مشهدا دراميا عندما جاء إلى مراكش قادما من الجبهة الكولونيل( العقيد) إدريس بن عمر الذي كان على رأس الجيش المغربي واستقبله جلالة الملك بحضور الحاج أحمد بلافريج وأحمد رضا كديرة وعبد الهادي بوطالب فخلع الكولونيل «جاكيتته» التي كانت تحمل أوسمته العسكرية ووضعها جنب الملك الحسن الثاني في إشارة منه إلى الاستقالة وقال : «مولاي لا يُقبل في المنطق الحربي والتقاليد العسكرية أن يعود جيش منتصر إلى منطلقاته الأولى كجيش منهزم». وطالب بأن تبقى وحدات الجيش المغربي حيث كانت إلى حين تسوية مشكلة الحدود. ولكن الملك الحسن الثاني صاح في وجهه أن يرتدي «جاكيتته» وأن يمتثل لأمر القائد الأعلى للجيش فتراجع الضابط العسكري الشهم، ورجع جيش المغرب إلى قواعده الأولى. وكان موقف الملك الحسن الثاني يعبر عن رغبته الصادقة في أن يعاد مدُّ الجسور بينه وبين الجزائر، وأن لا يُقطَع الطريق على إقامة المغرب العربي (الخيارِ الاستراتيجي الدائمِ للمغرب). وبالفعل حضر الملك الحسن الثاني الاجتماع التاريخي في باماكو (مالي) أواخر أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1963 وطُوي الملف المغربي ـ الجزائري إلى حين.
* وكيف تُقيِّم سياسة الرئيس بن بلا إزاء المغرب؟
الرئيس بن بلا كانت السياسة عنده خاضعة للايديولوجية ومتكيفة بمقتضياتها. فمن الخلاف على الحدود قفز الرئيس إلى خلاف النُّظُم، ومن خلاف النظم سلك سبيله إلى خلاف التحالفات، فعقَّد المشكلة الجزائرية ـ المغربية وقذف به في طريق مسدود، معتقدا أن هذا التعقيد هو الحل الطبيعي، عملا بمبدأ «كم من حاجة قضيناها بتركها». لكن الرئيس الجزائري رجل الخلافات الخارجية لم يصمد أمام ما أثير بينه وبين رفاقه مكافحي جبهة التحرير من خلاف داخلي عصف به بقيام انقلاب العقيد هواري بومدين الذي نـحّـاه عن الرئاسة ووضَعَه تحت الاعتقال..
 المنتدى الدكالي
تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -