أخر الاخبار

خناثة بنت بكار

 خناثة بنت بكار

خلدت العديد من نساء المغرب أسماءهن وحفظ لنا التاريخ أدوارا طلائعية كانت النساء فيها قطب الرحى، نذكر فاطمة الفهرية مؤسسة أقدم وأول جامعة في العالم القرويين، السيدة زينب النفزاوية زوجة يوسف بن تاشفين وما لعبته من أدوار سياسية ودبلوماسية تمكنت من خلالها من ضمان حكم زوجها بنصائحها وعلاقاتها القبلية، نذكر أيضا السيدة الحرة التي قادت الحركة الجهادية بشمال المغرب انطلاقا من تطوان والسيدة خناثة بنت بكار زوجة المولى إسماعيل، فقيهة عالمة أديبة من الأميرات اللاتي أسهمن في حياة المغرب الدولية.

يتعلق الأمر هنا بشخصية مغربية طبعت مسار الأحداث وخلدت حضورها وذكراها في التاريخ السياسي الوطني، خناثة بنت الشيخ بكار بن علي المغافري زوجة السلطان المولى إسماعيل وأم السلطان المولى عبد الله وجدة السلطان سيدي محمد بن عبد الله.
لقد خلدت العديد من نساء المغرب أسماءهن وحفظ لنا التاريخ أدوارا طلائعية كانت النساء فيها قطب الرحى، نذكر فاطمة الفهرية مؤسسة أقدم وأول جامعة في العالم القرويين، السيدة زينب النفزاوية زوجة يوسف بن تاشفين وما لعبته من أدوار سياسية ودبلوماسية تمكنت من خلالها من ضمان حكم زوجها بنصائحها وعلاقاتها القبلية، نذكر أيضا السيدة الحرة التي قادت الحركة الجهادية بشمال المغرب انطلاقا من تطوان ومنه حاربت الإسبان والبرتغال ولمعت صورتها وأخبارها مما دفع السلطان المريني إلى الزواج بها لأسباب سياسية محضة، والسيدة خناثة بنت بكار، حسب ترجمة ابن زيدان والدكتور عبد الهادي التازي، هي بنت الشيخ الأكبر بكار بن علي بن عبد الله المغافري زوجة المولى إسماعيل، فقيهة عالمة أديبة من الأميرات اللاتي أسهمن في حياة المغرب الدولية، وكانت ضيفة على ليبيا صحبة حفيدها محمد الثالث حيث خرجت سيدات طرابلس لاستقبالها والترحيب بها خلال عام 1731-1732م وتوفيت في جمادى الأولى عام 1159ه ودفنت بروضة الأشراف من المدينة البيضاء بفاس الجديد، أما المؤرخ أكنسوس فيعرفها بخناثة أم السلاطين، كانت صالحة عابدة عالمة حصلت العلوم في كفالة والدها الشيخ بكار.
ويعود تاريخ السيدة خناثة إلى مرحلة سياسية دقيقة عاشها المغرب مع ولاية حكم المولى إسماعيل وما تبعها من بعد وفاته من نزاعات بين أولاده على خلافة العرش وهي الفترة التي لن يعرف فيها المغرب الاستقرار حتى يصل حفيد المولى إسماعيل سيدي محمد بن عبد الله إلى العرش· وتعود علاقة خناثة بالمولى إسماعيل إلى سنة 1089 ه، حين غزا صحراء السوس فبلغ كما ينقل الناصري في «الاستقصا» آقاوطاطا وتيشيت وشنكيط وتخوم السودان، حين قدمت عليه وفود العرب من أهل الساحل والقبلة ومن دليم وبربوش والمغافرة ووادي ومطاع وجرار وغيرها من قبائل المعقل الذين أدوا طاعتهم، وكان في ذلك الوفد الشيخ بكار المغافري والد الحرة خناثة التي أهداها إلى السلطان فتزوجها ووصفها الناصري بأنها كانت ذات جمال وفقه وأدب.
لقد كانت سياسة المولى إسماعيل في الحكم تتسم بالانفراد والخصوصية، فقد بنى دولته على ركيزتين عسكريتين مختلفتين، أنشأ جيش البخاري من عبيد المنصور الذهبي السعدي بعد تجميعهم وتزويجهم وأضاف إليهم ما جلبه من خرجاته إلى الصحراء، فأحسن تسليحهم ولباسهم ومراتبهم، وفي المقابل شكل جيش الودايا من أهل السوس والمغافرة باعتبارهم أخواله لأن أم المولى إسماعيل كانت أيضا مغافرية.

وعرف عن المولى إسماعيل أنه كانت له نحو خمسمائة امرأة من بنات المغرب والرقيق السود والأجانب (تركية وإسبانية وإنجليزية وفرنسية) وتشير العديد من المراجع التاريخية إلى أنه بلغ من الأولاد من صلبه خمسمائة من البنين ومثلهم من البنات، وقد وصفه الدكتور حسين مؤنس بأفحل ملوك الإسلام طرا وكان له كاتب خاص بالأولاد يسمى محمد بن علي وكانوا متفرقين مع أمهاتهم، إذ بلغن الثلاثين في سجلماسة بديارهن وعيشتهن الخاصة.

واشتهر المولى إسماعيل بأنه حكم 55 سنة وعرف عنه أيضا أنه كان سيتزوج بأميرة فرنسية فلم يتمكن وتزوج بفرنسية أخرى ساهمت في شهرته لدى الدول الأوربية التي كانت في قمة أمجادها مع كارلوس الثاني ملك إسبانيا وشارل الثاني ملك انجلترا ولويس الرابع ملك فرنسا الذين عاصروه، وقد وصفه القس مويي الفرنسي الذي كان أسيرا بمكناس بأنه في سن الخامسة والثلاثين كان «رجلا أقرب إلى الطول ضخم الهيئة بسبب سعة ملابسه لأن جسده كان نحيلا ووجهه فاتح السمرة وملامحه جميلة إلى حد ما وله لحية طويلة مفرقة الشعر وفي نظراته بعض الرقة»

مع هذا فقد استطاعت السيدة خناثة بنت بكار أن تتميز وسط هذا العدد الكبير من النساء بحظوتها العلمية والفقهية وبنسبها المغافري التي تنحدر منه أيضا أم المولى إسماعيل، وكذلك لأن ابنها المولى عبد الله سيرث العرش في عدة مبايعات بعدما عزل مرات نتيجة للأوضاع السياسية التي سادت بعد وفاة والده وما لعبه أيضا عبيد البخاري من أدوار أبرزها امتلاكهم سلطة البيعة والعزل بسلاحهم وجيشهم.

وبجانب خناثة بنت بكار كانت هناك عدة زوجات للمولى إسماعيل سيصل أبناؤهن إلى عرش الإيالة الشريفة كعائشة مباركة الرحمانية أم السلطان أبو الحسن والسيدة معزوزة مالكية أم السلطان المولى عبد المالك والسيدة عودة الدكالية أم السلطان المولى المستضيء، إضافة إلى الكثير من أمهات الأمراء والأميرات تختلف أنسابهن من حيانية وزعرية وورديغية ودليمية وشاوية وسفيانية وسلاوية وتادلاوية وبخارية وكناوية وحصينية ومنبهية وزمورية ودرعية...
وبوفاة المولى إسماعيل في فبراير 1727م يكون المغرب قد دخل فصلا جديدا، خاصة مسألة وراثة العرش التي سيصل إليها المولى عبد الله بن خناثة بنت بكار بعد الدولة الأولى والثانية للمولى أحمد بن إسماعيل والمولى عبد الملك بن إسماعيل، وعلى إثر وفاة المولى أحمد اجتمع أعيان الدولة واتفقوا على بيعة المولى عبد الله وكان وقتها بسجلماسة وسيبايع ويعزل سبع مرات ما بين 1141ه و1171ه.

وخلال سنة 1143ه بعث السلطان المولى عبد الله ولده الأمير المولى محمد رفقة أمه السيدة خناثة بنت بكار إلى الحج، وكان الأمير سيدي محمد بن عبد الله وقتها لا يبلغ عشر سنين باعتبار مولده في سنة 1134ه، وينقل الناصري والضعيف الرباطي تفاصيل هذا الحدث الذي هيأ له المولى عبد الله جميع ما يحتاج في السفر إلى الحجاز وهو السفر الذي أسلفنا الإشارة إليه عند زيارة خناثة وتوقفها بليبيا.

ونظرا إلى قيمة السيدة خناثة ولأدوارها السياسية التي قادتها رفقة ابنها السلطان المولى عبد الله خلال فترات حكمه وعزله، ستتعرض للعديد من المضايقات والمحن من النفي إلى السجن والمطاردة والسلب، فمباشرة بعد العزل الأول للمولى عبد الله ومبايعة أبو الحسن الأعرج على يد سالم الدكالي أحد كبار قواد جيش البخاري، فإن أول ما قام به السلطان هو إلقاء القبض على السيدة خناثة بنت بكار رفقة حفيدها سيدي محمد بن عبد الله، يقول الضعيف الرباطي: «فبعثت تطلب العلماء بعد أن دخل دارها واستولى على ما فيها... وطلبت أن يتكلموا على شأن حفيدها سيدي محمد على أن يخرج من السجن لأنها امرأة مسنة واتقت أن يتكشف عليها من أجل الضيق، وادعت أيضا أن حفيدها صغير السن 13 سنة وما فعل ذنبا يستحق عليه العقوبة والسجن، وها أنا في السجن حتى يحكم الله بيني وبينه، ثم بعد ذلك تكلموا مع السلطان مولاي علي الأعرج فسرح حفيدها من السجن».
نفس الحدث سينقله الناصري في الاستقصا، يقول: «و لما استقر السلطان المولى أبو الحسن بمكناسة قدمت عليه الوفود ببيعاتهم وهداياهم من جميع البلدان فأجازهم وفرق المال على الجيش إلى أن نفد ما عنده واحتاج فقبض على الحرة خناثة بنت بكار أم السلطان المولى عبد الله فاستصفى ما عندها ثم امتحنها لتقر بما عسى أن تكون أخفته فلم يحصل على طائل، وكانت هذه الفعلة معدودة من هناته عفا الله عنه».

وخلال البيعة الثالثة للمولى عبد الله في 15 من ذي القعدة عام 1152ه، وكان وقتها بمنطقة السراغنة حيث وفدت عليه القبائل بالبيعة من مكناس، حتى الأربعاء 29 من ربيع الأول من عام 1154ه، يوم اتفق عبيد البخاري على خلعه ومبايعة المولى زين العابدين بن إسماعيل· ستعيش خناثة بنت بكار المغافري فصولا أخرى من تقلبات الأحداث السياسية بالمغرب، يقول الضعيف الرباطي: «و في ضحوة يوم الخميس موافق ثلاثين من ربيع الأول عام 1154ه جاءت خناثة بنت بكار هاربة من مكناسة الزيتون ودخلت فاس الجديد خوفا على نفسها من العبيد لما سمعته من عزل ولدها، وفي الغد جاء ولدها السلطان المولى عبد الله من مكناسة هاربا ونزل برأس الماء وخرج إليه الودايا وأهل فاس واستعطفهم كثيرا فأجابوه بنصره وفي القيام معه والقتال دونه وفرح بذلك غاية الفرح جاوز النهاية».

وقبل هذا الحدث بسنة أي في أواخر رمضان من عام 1153ه، لعبت خناثة المغافرية دورا أساسيا في صلح السلطان المولى عبد الله مع قبائل الودايا، ويصف الضعيف الرباطي هذا الحادث ب«الشفاعة» التي طلبتها خناثة من الودايا في حق مصالح ابنها السلطان.
أما الناصري في «الاستقصا» فيخصص فصلا صغيرا عن شغب العبيد على السلطان المولى عبد الله وحكاية فراره هو ووالدته خناثة، يقول: «لما كان شهر ربيع الأول من سنة 1154ه، شغب العبيد على السلطان المولى عبد الله وهموا بخلعه والإيقاع به، فنذرت ذلك أمه الحرة خناثة بنت بكار، ففرت من مكناسة إلى فاس الجديد، وفي الغد تبعها ابنها السلطان... ونزل برأس الماء، فخرج إليه الودايا وأهل فاس وأجلوا مقدمه واهتزوا له، فاستعطفهم السلطان وقال لهم: «أنتم جيشي وعدتي ويميني وشمالي وأريد منكم أن تكونوا معي على كلمة واحدة».

لقد ساهم نفوذ نسب السيدة خناثة الذي يلتقي مع نسب الودايا بمن فيهم أهل السوس والمغافرة كعرب من قبائل المعقل، بالإضافة إلى مكانتها العلمية كأديبة فقيهة سليلة أسرة عالمة من المشايخ والعلماء، وأيضا اقتسامها مع أم المولى إسماعيل دم المغافرة، كل هذا جعلها في واجهة ومسرح الأحداث السياسية بالمغرب خلال بداية القرن الثامن عشر، ويكاد العديد من المؤرخين والباحثين يختزلون الصراع السياسي لتلك الحقبة بين طموحات القوتين العسكريتين والعشائريتين عبيد البخاري والودايا وبين مراكزهم بأعيانها وعلمائها وفقهائها في فاس ومكناسة، وسيشاء القدر أن يتأتى للمغرب الاستقرار على يد حفيد السيدة خناثة وابن المولى عبد الله سيدي محمد بن عبد الله بن إسماعيل، الطفل الذي كان مرافقا لجدته خناثة إلى بيت الله وأدى مناسك الحج رفقتها كما أسلفنا سنة 1143ه.

لقد توفي المولى عبد الله خلال ولايته وبيعته السابعة، وذلك حسب ما نقله الضعيف في ليلة السابع والعشرين من صفر عام 1171ه، ودفن في آخر النهار بمقابر الشرفاء بجوار أمه بفاس، وكانت وفاة السيدة خناثة في سادس جمادى الأول من سنة 1159ه.

وشكل جيش الودايا درعا سياسيا واجتماعيا لمكانة خناثة داخل نظم الدولة قبل وحتى بعد وفاة المولى إسماعيل، حتى إن مكانتها وتميزها جعلا أحد الإنجليز وهو جون ويندهاس يشير إليها في كتاباته سنة 1721 م، مشيرا إلى سبب علاقتها بالمولى إسماعيل وواصفا رجوعها من عرب المعقل بقبائل المغافرة بالساقية الحمراء في موكب سلطاني بعشرين ألف رجل، وأضاف ويندهاس ما كانت تقوم به من تأثير على قرارات السلطان الذي كان يستشيرها في كثير من القضايا إلى درجة وصفها بالوزيرة الخاصة لزوجها المولى إسماعيل.

وقد نقل في هذا الصدد العديد من المؤرخين والكتاب الأجانب الدور الهام والبارز الذي لعبته السيدة خناثة في تثبيت اتفاقية السلام والتجارة التي وقعت بمكناس بين الأيالة الشريفة ودولة انجلترا في شخص سفيرها شارل ستيوارت وكان ذلك في صيف سنة 1721م، نفس السفير كانت له مراسلات مع السيدة خناثة بخصوص طلب دعمها لهذه الاتفاقية وبشأن التدخل لدى السلطان للإفراج عن عدد من الأسرى الإنجليز.

لقد شكلت خناثة المغافرية نموذجا فريدا للمرأة المغربية خلال القرن الثامن عشر، وجعلت العديد من المغاربة والمشارقة والأجانب يقدرون مسارها وينبهرون بما قامت به، على الرغم من أن الدراسات التاريخية عن شخصيتها ظلت بعيدة عن دائرة الضوء.
تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -