أخر الاخبار

Henry de castries الدراسة الاستشراقيّة الفرنسيّة في المغرب من خلال "هنري دو كاستري"


 دوكاستري…وتاريخ المغرب

الدراسة الاستشراقيّة الفرنسيّة في المغرب من خلال "هنري دو كاستري"

الباحث : اسليماني رضوان
اسم المجلة : دراسات استشراقية
العدد : 33
السنة : شتاء 2023م / 1444هـ
تاريخ إضافة البحث : March / 20 / 2023
عدد زيارات البحث : 1484
الملخّص
حظي المغرب بنصيب كبير في الدراسات الاستشراقيّة، ليس فقط لأنّه غني بما يزخر به مِن تراث حضاري هائل، لا سيّما أنّ مركزه الجغرافي المهمّ وضعه بين الأمم الأخرى وجعل منه بلدًا أفريقيًّا عربيًّا وبلدًا مسلمًا، له حضور قويّ في القارة الأوروبيّة، وله حضور في ذهن الأوروبيّين، ومِن ثمّة كان محلّ اهتمام مِن طرف الذين تشغلهم أفريقيا بالغ الانشغال، وممّن اهتمّوا بالعالم العربي والإسلامي، والذين يولون عنايتهم للعلاقات الحضاريّة والسياسيّة التي شدّت القارة الأوروبيّة بالقارة الأفريقيّة عمومًا، والقارة الأوروبيّة بالمغرب خصوصًا، فقد بدأ الفكر الاستشراقي يبحث عن نفسه وسط صدام حضارتين كتب لهما أنْ تنشآ، وأنْ تزدهرا في رقعة جغرافيّة متقاربة.

بالتالي، يعتبر الاستشراق الفرنسي أحد ثمار الحركة الاستشراقيّة الأوروبيّة المعاصرة المنبثقة عن وشوك أوروبا الانتهاء مِن إحياء تراثها، وفضولها العلمي وتطوّر أساليب بحثها، فقد أخذ الجيل الأوّل للاستشراق الفرنسي المعاصر على عاتقه مهمّة التعرّف على الآخر -كما سبقت لنا الإشارة- فقد امتاز بالحزم والعزم والمنطقيّة والموضوعيّة وطول النفس، فكان مِن جملة أهدافه إخراج التاريخ الأوروبي مِن دائرته الضيّقة عن طريق فتح آفاق التعرّف على النوع البشري، ودراسة الحضارة الشرقيّة، ودراسة شعوب الشرق تكملة لجدول، والفكر الاستشراقي معًا، بغضّ النظر عن الخلفيّات والدوافع التي وجّهت نشاط المستشرقين تجاه الحضارة العربيّة الإسلاميّة وتجاه الثقافة الشرقيّة والمغاربيّة على حدّ سواء. بالموازاة مع هذا، فقد كان للمغرب حظّ وافر مِن الدراسات الاستشراقيّة والإنتاجات الاستشراقيّة الفرنسيّة.

الكلمات المفتاحية: الدراسات الاستشراقيّة – هنري دو كاستري – القول المأثور – الشيخ عبد الرحمان المجذوب.

المقدّمة
تشغل الدراسات الاستشراقيّة دورًا كبيرًا في التّعريف بالحضارات العربيّة الشرقيّة من خلال مجموعة مِن المواضيع المتعلّقة بالدين الإسلامي، الحضارة العربيّة الإسلاميّة، المجتمعات الشرقيّة من خلال الاجتماعي والثقافي والعلمي واللغوي، كما اضطّلعت هذه الدراسات الاستشراقيّة حتّى بمجتمعات المغرب العربي، وأكثر تدقيقًا مجتمعات شمال أفريقيا، فلقد نشر الرحّالة والمستشرق الفرنسي كونت هنري دو كاستري (Comte Henry deCastries) سنة 1896م كتابًا حول المأثورات الشعبيّة لعبد الرحمان المجذوب، حاول مِن خلالها التعرّف على الروح العربيّة والأبعاد السيكولوجيّة للشخصيّة العربيّة. وقد فضّل أنْ يخوض هذه التجربة مِن خلال الذهاب إلى ملاقاة الرواة، ليأخذ عنهم مباشرة ما يحفظونه مِن هذه المأثورات، وذلك بعدما أصيب بالإحباط -حسب رأيه- مِن الكتب والمصنّفات التي اطّلع عليها، ولم يجد فيها هذه الروح العربيّة التي يبحث عنها. فهل وفّق في مساعيه البحثيّة والتوثيقيّة؟ وقد كان هدفه الأساس هو معرفة السيكولوجيّة العربيّة والأبعاد النفسيّة للروح العربيّة غير المنفتحة على الأوروبيين، وذلك باستنباطها مِن الرباعيّات التي رصد المجذوب مِن خلالها الأوضاع العامّة للحياة التي حياها ويحياها العربي في تقلّباتها وألوانها؛ الاجتماعيّة والدينيّة والتربويّة. لكنَّ الباحث المستشرق وقع في أخطاء مرتبطة بعمليّة جمع المأثورات، إذ أقحم في كتابه رباعيّات لم يثبت أنَّ عبد الرحمان المجذوب هو قائلها، خصوصًا وأنَّها أقرب في لهجتها إلى اللهجة الجزائريّة، وهو الأمر الذي دفعنا للتّساؤل عن الأسباب التي دفعته إلى عدم الرجوع إلى الرواة في الموطن الأصلي للشيخ عبد الرحمان المجذوب، أي المغرب، الأمر الذي يجعلنا أمام إشكاليّة حول مدى دقّة التوثيق العلمي لثقافتنا الشعبيّة من طرف المستشرقين/ الرحّالة، ومدى نجاعة الخلفيّة المنهجيّة المعتمدة لإعادة كتابة وتدوين هذه الثقافة.

اهتمّ المستشرق الفرنسي «هنري دو كاستري» بالموروث الثقافي المغربي مِن خلال دراسته لرباعيّات «سيدي عبد الرحمان المجذوب»، وما تحمله مِن معانٍ مختلفة باختلاف الدوافع والأوضاع التي أدّت به إلى نظمها. ثمّ إنَّ كتـاب (Les gnomes) يحمل بين دفّتيه صيغتين مختلفتين مِن الكتابة على مستوى اللغة، فقد جاءت الرباعيّات بالعربيّة كما تلفّظ بها «سيدي عبد الرحمان المجذوب»، وكذلك باللغة الفرنسيّة بعد ترجمتها ونقلها إلى اللغة الفرنسيّة.

بالتالي، هل استطاع الكونت هنري دو كاستري مِن خلال كتابه المحافظة على روح المعاني كما في أصلها العربي بعد إخضاعها للترجمة؟

1- الدراسات الاستشراقيّة الفرنسيّة: النشاطات والخصائص
تنبع دراسات المستشرقين مِن بيئات مختلفة وثقافات متعدّدة، ومِن بلدان عديدة، الأمر الذي يساهم في ظهور التباين بين الأعمال، وخاصّة إذا علمنا أنَّ هؤلاء المستشرقين يتأثّرون، وهم يدرسون العربيّة، بالحركة العلميّة والفكريّة في بلدانهم مستعملين وسائلها. وقد سارت بحوث المستشرقين اللغويّة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في ضوء المنهجين التاريخي والمقارن، وفي القرن العشرين مال بحثهم إلى استعمال المنهج الوصفي، كما أنَّهم انطلقوا في أغلب الأحيان مِن المناهج التي تدرَّس بها لغاتهم، أو مِن خلال تأثّرهم الكبير بتلك المناهج[2].

1.1 الاستشراق الفرنسي: نشاطاته وخصائصه
لقد ظهر الاستشراق كنتاج فكري غربي، فهو ظاهرة قديمة بدأت منذ القرن العاشر ميلادي مِن خلال العناية بتاريخ العرب وحضارتهم عامّة، والشرق خاصّة، وهذا مِن خلال ما تميّز به مِن منارات علميّة وثقافيّة وأدبيّة، والتي قام بتأريخها جملة مِن العلماء والمستشرقين عبر العصور، فلقد تطرّق الاستشراق إلى جميع مناحي الحياة الشرقيّة والإسلاميّة، ولم يترك مجالًا إلّا وأدلى فيه بدلوه، ولم يدع شاردة إلّا وقال فيها كلمته. فالاستشراق يعتبر مِن الأساليب الاستعماريّة التي يعتمد عليها العالم الغربي إلى جانب الأساليب المسلّحة والأساليب الأخرى، التي كانت تهدف إلى بسط السيطرة على الشعوب المستعمرة وطمس هويّتها، بحيث انصبّ اهتمامهم على دراسة النصوص الشرقيّة، خاصّة وأنَّها تعتبر بمثابة الصورة الناطقة لشتّى مناحي الحياة الثقافيّة والأدبيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، وكذلك الدينيّة، وترجمة بليغة لأفكار الحضارة الإنسانيّة الشامخة، فكان الهدف منها هو فهم ثقافة هذه الشعوب واستيعابها والإحاطة بها مِن كلّ الجوانب بغاية استغلالها فيما يفيد وفيما قد يفيد.

لقد ظلّت فرنسا محور العلاقات الثقافيّة بين الشرق والغرب، فالنتائج الثقافيّة لهذا الصدام لم تتأخّر، بل وإنَّ نشأة ما عرف فيما بعد بالأدب الفرنسي، ربَّما كانت مدينة لهذا الصدام، فلقد تعدّدت الدراســات الاستشراقيّة، واختلفت مدارسها وتوجّهاتها، وقد اعتبرت المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة مِن أُولى المدارس التي اهتمّت بهذا المجال، التي انشغلت بالدراسة والبحث في التراث العربي والإسلامي، سواء دول المشرق أو المغرب، وقد برز اهتمامها أكثر بدراسة الثقافة المغاربيّة، بحيث سخّرت لها كلّ الوسائل والإمكانات مِن أجل بلوغ الأهداف المرجوّة مِن كلّ هذا الجهد والعناء، فما كان لهم (أي المستشرقين) إلّا الخوض بهذه الدراسات بكلّ ما أوتوا مِن حماس.

نشأة الاستشراق الفرنسي: يصعب تحديد زمن تلك الصلات التي تمّت بين الشرق الإسلامي وفرنسا، ومع ذلك، فقد اتّفق بعض الدارسين على أنَّ هذه الصلات تعود إلى تاريخ قديم، فهناك مَنْ يعتبر الحملة الفرنسيّة على مصر هي البداية، وقد تسلّل إليها عدد كبير مِن المستشرقين الذين قاموا بعمل دراسات مختلفة في هذا السياق، وكذلك مِن خلال فتح قناة السويس، والانتداب الفرنسي في سوريا ولبنان، وقد كانت تلك الصلات متعدّدة ومتنوّعة ومتعاقبة، اختلط فيها الحرب والسلم والتجارة والثقافة[3]. وهناك مِن الباحثين مَنْ يذهب إلى أنَّ بدايات الاستشراق الفرنسي تعود إلى القرن الثامن بعد فتح الأندلس على يد العرب والمسلمين سنة 711م، حيث أصبحت الأندلس حاضرة العلم والعلماء، فتوجّهت أنظار الغرب إليها لمعاشرة الوافدين الجدد إليها بغية التعرّف على طريقة تفكيرهم وترجمة علومهم وآدابهم، وبشكل خاصّ بعدما انتشرت المدارس والجامعات عبر العالم الإسلامي، وذاع صيتها في الدول الأوروبيّة، كهولندا وإنجلترا وفرنسا، التي قامت بإرسال البعثات العلميّة إلى بلاد الأندلس لدراسة العلوم والفنون في المعاهد، فقد كانت مِن أوائل البعثات العلميّة، البعثة الفرنسيّة برئاسة الأميرة إليزابيث، وكذلك لقد كان للملك فرانسوا الأوّل (1 Froncois) دور مهمّ في زيادة اهتمام فرنسا بالدراسات الشرقيّة، خصوصًا العالم الإسلامي منها، ففي عهده أسّس (معهد فرنسا Collège de France) سنة 1530م، الذي أُعِدّ فيه كرسيّان للعبريّة واليونانيّة، أضاف إليهما الملك هنري الثالث كرسيًّا للعربيّة سنة 1587م[4].
ولقد صدرت في فرنسا مجلّات مهتمّة بالتراث العربي والإسلامي والتعريف به، فقد استطاع هذا الأخير (الأدب العربي) أنْ يؤثّر في الأدب الفرنسي، وانتشرت بعض الكتب الأدبيّة العربيّة في فرنسا، كما تأثّر بعض المفكّرين الفرنسيّين بما اطّلعوا عليه مِن التراث الشرقي وفلسفته مِن أمثال ابن رشد وابن خلدون والنزعات الصوفيّة، فقد استعملوا كثيرًا مِن المصطلحات الدينيّة التي كانت سائدة في التراث العربي الإسلامي[5].

ب. أوجه النشاط الاستشراقي الفرنسي: تتعدّد مظاهر الاستشراق الفرنسي بتعدّد نشاطات المستشرقين، إذ كان للاهتمام باللغة العربيّة النصيب الأوفر مِن ذلك، بحيث أنَّ فرنسا، وعلى اعتبارها مِن أكبر الدول تمثيلًا واهتمامًا بالدراسات اللغويّة، عنيت بدراسة اللغة العربيّة واستخدامها كوسيلة لنشر الديانة المسيحيّة وثقافتها. وقد تجلّى هذا النشاط مِن خلال مجموعة عديدة من المظاهر:

كراسي اللغات الشرقيّة: لقد طلبت فرنسا الثقافةَ العربيّة مِن مدارس الأندلس وصقلية، ثمّ أنشأت لها منذ القرن الثاني عشر مدرسة (رميس Rrims) بأمر مِن البابا سلفستر الثاني، قبل هذا بقليل ازداد إقبال طلبة العلم والمعرفة ورجال الدين على المدارس والمعاهد العربيّة والإسلاميّة في الشرق قبل العودة لوطنهم، بما يحملونه مِن زاد علمي وفكري أمام كلّ هذا الاهتمام والإقبال الثقافي في الشرق، ثمّ أنشئت المدرسة الوطنيّة للغات الشرقيّة الحيّة في باريس سنة 1795م Ecole National Des Langues Orientales Vivantes, paris للسفراء والقناصل والتجّار الذاهبين إلى بلدان الشرق أسوة بالمدرسة التي أنشأتها الإمبراطورة «ماريا تريزيا» في فيينا، فلمّا تولّى العلامة دي ساسي تدريس العربيّة والفارسيّة فيها، أصبحت كعبة الطلّاب، يتوافدون عليها مِن ألمانيا وإيطاليا وإنجلترا والسويد وإسبانيا وفنلندا...، ليتخرّجوا عليه بهما، ويعلّموهما في بلدانهم[6].
المكتبات الشرقيّة: نجد «مكتبة باريس الوطنيّة» (Bibliothéque Nationalde Paris) سنة 1654م، وهي تحتوي ستّة ملايين مِن الكتب والمخطوطات، متضمّنة فيها نحو سبعة آلاف مخطوط عربي، بينها نفائس علميّة وأدبيّة وتاريخيّة ونوادر قلّما توجد في غيرها. تضمّ هذه المكتبة الكثير مِن المخطوطات النفيسة ونوادر النقود والأوسمة والأختام والخرائط، وعددًا كبيرًا مِن الكتب العربيّة، ولا سيّما ما طبع في أوروبا منذ أوائل فنّ الطباعة.
نجد مجدّدًا مكتبات شمال أفريقيا؛ فلقد قام المستشرقون بفهرسة بعض المكتبات التي وجدت في شمال أفريقيا، ونجد منهم رنيه باسييه الذي فهرس مكتبة آل عظوم بالقيروان، وفهرس كذلك المخطوطات العربيّة في مكتبة فاس ومكاتب الزوايا. وفانيان الذي فهرس المخطوطات العربيّة والتركيّة والفارسيّة في مكتبة مدينة الجزائر الوطنيّة. وجورج سالمون الذي فهرس مخطوطات مكتبة خاصّة في طنجة. وليفي بروفنسال الذي فهرس المخطوطات العربيّة في مكتبة الرباط[7].

المطابع الشرقيّة: بدأت الطباعة الشرقيّة بالعبريّة في باريس 1519م، وحذت فرنسا حذو إيطاليا بتأسيس المطابع الشرقيّة، وأفادت مِن مطبعة دي بريف التي تمّ نقلها مِن روما إلى باريس، وكذلك جلب نابليون مطبعة وعددًا كبيرًا مِن العلماء والباحثين، الأمر الذي دفع إلى القول بأنَّه بداية الاستشراق الفرنسي[8].
المجلّات الشرقيّة: لفرنسا مجلّات خاصّة بالاستشراق أو وثيقة الصلة به تصدر في باريس والشرق الأدنى وشمال إفريقيا منذ عهد بعيد، تعنى جميعها بالعرب في تحقيق تاريخهم وجغرافيّتهم وأنسابهم، والبحث في أديانهم وشرائعهم ومذاهبهم وأخلاقهم، ودرس لغاتهم وعلومهم وآدابهم وفنونهم، فاطّلع الغرب على أصالة الشرق وخصائصه وتطوّره من خلالها، ونجد مِن أهمّ هذه المجلّات «المجلّة الآسيويّة 1722م» التي تصدرها الجمعيّة الآسيويّة الفرنسيّة في باريس، «مجلّة تاريخ الأديان 1880م»، «نشرة الجمعيّة اللغويّة 1905م» (Bulletin de la Société deLinguistique, Paris) التي تصدر في باريس كلّ ثلاثة أشهر، «نشرة الجماعة اللغويّة للدراسات الحامية السامية 1931م» (Bulletin de Groupe Linguistique d’études Chamito-sémitiques)[9].

خصائص الاستشراق الفرنسي: يتّسم الاستشراق الفرنسي عن غيره مِن الدراسات الاستشراقيّة الأخرى بمجموعة كبيرة مِن الخصائص نجملها في العناصر الآتية[10]:

العلاقة الوثيقة التي تربط فرنسا بالعالم العربي والإسلامي، قديمًا وحديثًا.
وجود فرنسا مِن خلال الاستشراق الفرنسي في معظم علاقات العرب بأوروبا.

الاستشراق الفرنسي مِن خلال التاريخ السياسي المتواصل الذي جعل فرنسا مِن أوائل الدول الأوروبيّة التي عنيت بالدراسات العربيّة والإسلاميّة للاستفادة منها وترجمة آثارها وإنشاء كراس علميّة لتدريسها.
معهد اللغات الشرقيّة أهمّ مكان ترعرع فيه الاستشراق الفرنسي.
يعتبر الاستشراق الفرنسي بمثابة المرجعيّة الأوروبيّة.
تعدّ المدرسة الاستشراقيّة في فرنسا مِن أبرز وأهمّ المدارس الاستشراقيّة، وأغناها فكرًا، وأخصبها إنتاجًا، وأكثرها وضوحًا.
ولعلّ أهمّ ميزة طبعت الحركة الاستشراقيّة الفرنسيّة هي التخصّص؛ إذ جاءت أبحاثهم وأعمالهم في مجلّات منظّمة ومدروسة، فكان أبرز هذه المجالات، مجال اللغة، فقد اهتمّ المستشرقون الفرنسيّون باللغة العربيّة الفصحى، إذ كان مِن الضروري إتقانها للتمكّن مِن الاطّلاع على مخطوطات وكتب الدولة المستعمَرة، فبعد دخول الاحتلال الفرنسي إلى الجزائر على سبيل المثال، لاحظ المستشرقون أنَّ هناك لغة أخرى تجاري أهميّتها اللغة العربيّة الفصحى، وهي اللغة العاميّة أو الدارجة، التي يستعملها أفراد المجتمع في حياتهم اليوميّة، فركّزوا، بالتالي، جهودهم لحصر اللهجات، ومعرفة الأصول اللغويّة والعرقيّة للسكان، ومدى تأثير لهجة ما على ما يجاورها. لذلك فقد اهتمّوا، بالإضافة إلى تعلّم اللغة العربيّة، بتعلّم اللغة العربيّة العاميّة للتوغّل في أعماق المجتمع، وتسهيل التواصل معه لإحكام السيطرة عليه.

كانت اللغة العربيّة، سواء الفصحى أو العاميّة، بالنسبة للمستشرقين الفرنسيّين لغة وظيفيّة وأداة لمعرفة أفكار وتاريخ المجتمع، كما أنَّها كانت وسيلة الاتصال بالأهالي. وبالتالي، فقد رأى هؤلاء مدى أهمّية تعلّم اللغة العربيّة الفصحى والعاميّة مِن خلال إعداد مناهج تعليمها للفرنسيّين[11].

2.1 المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة
ظهر الاستشراق الفرنسي بقوّة مع مطلع القرن السادس عشر، واكتملت في هذه الفترة ملامحه، فقد شكّل هذا الأخير لوحة كبيرة رسمت ملامحها بشكل واضح. وتعدّ المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة مِن أهم المدارس الأوروبيّة التي قامت بمجهود مهمّ حول الدراسات الشرقيّة، وخاصّة مع إنشاء «مدرسة اللغات الشرقيّة الحيّة» سنة 1795م، والتي ترأسّها المستشرق الفرنسي «سلفستر دي ساسي» (Silvestre de Sacy)، الذي يعدّ عميد الاستشراق الأوروبي في النصف الأوّل مِن القرن التاسع عشر دون منازع، فاسمه لا يرتبط ببدء الاستشراق الحديث أو المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة لمجرّد أنّه كان أوّل رئيس للجمعيّة الآسيويّة التي أسّست عام 1882م، بل لأنَّ عمله بصورة فعليّة وضع أمام هذه العمليّة (الاستشراق) جسدًا كاملًا منتظمًا مِن النصوص والممارسة التربويّة والتراث البحثي[12].

إنَّ علاقة فرنسا بالشرق كانت قائمة على التطاحن، وعلى مصالحها في الشرق وما يعود عليها مِن جرّاء تعاملها معه. فلقد تعاظم اهتمام الفرنسيّين بالشرق منذ أنْ تعاظم الدور البريطاني في الهند، ذلك الدور الذي ألهب حماس الفرنسيّين وجعلهم يبحثون عن دور مماثل في مواقع أخرى مِن ذلك الشرق المترامي الأطراف، ونتيجة لذلك نمت الدراسات الاستشراقيّة في فرنسا وتطوّرت يومًا بعد يوم[13].
لم يترك الاستشراق الفرنسي مجالًا إلّا واقتحمه بداية بالقديم وصولًا إلى الحديث مِن لغة وشعر وتراجم ورحلات ودين وتاريخ، فقد صدرت في فرنسا مجلّات اهتمّت بالتراث العربي والإسلامي والتعريف به، كما استطاع الأدب العربي أنْ يؤثّر في الأدب الفرنسي، بحيث انتشرت بعض الكتب الأدبيّة العربيّة في فرنسا، كما تأثّر بعض المفكّرين الفرنسيّين بما اطّلعوا عليه مِن تراث العرب وفلسفتهم، من أمثال ابن رشد وابن خلدون والنزعات الصوفيّة[14].

أ. نماذج مِن المستشرقين الفرنسيّين
هي بعض الأسماء الخاصّة بالمستشرقين الفرنسيّين الذين كان لهم دور مهمّ في تطوير عمليّة الاستشراق الفرنسي مِن خلال العناية بالمخطوطات والكتب العربيّة بالدراسة والعمل على إخراجها إلى حيّز الوجود، الذين كان مِن شأنهم هم الآخرون أنْ يؤلّفوا وأنْ ينشروا ويغنوا المكتبة الفرنسيّة بالعديد مِن المؤلّفات والكتب التي تخصّ البقعة الجغرافيّة الشرقيّة، فكان لهذا الأمر بالغ الأثر على العالم الشرقي وعلى العالم العربي، ومِن هؤلاء كلّ مِن سلفستر دي ساسي، ليفي بروفينسال، لويس ماسينيون، ليكور شارل، هوداس أوكتاف، بلاشير ريجي، لويس برنييه، وأرنيست رينان...

ب. الدراسات الاستشراقيّة الفرنسيّة بالمغرب
في سياق الدراسات الاستشراقيّة الفرنسيّة، سنحاول قدر المستطاع إبراز ملامح وخصائص هذه الدراسات الاستشراقيّة، وأهمّ ما تكتنزه مِن معلومات عن الثقافة العربيّة بشكل عام، وسنحاول مِن خلال دراستين اثنتين، الأولى في علاقة بالمستشرق الفرنسي لويس برنييه مِن خلال الاستشراق الفرنسي في الجزائر وتأثيراته على الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة، والثانية مِن خلال هنري دي كاستري الذي استطاع إنجاز وتحصيل كتاب مهمّ، عنونه على النحو الآتي (les gnomes de sidiabd er-rahman el-mejedoub)، كلا هاتين الدراستين سنحاول إبراز أهمّ النقاط المفيدة على مستواها، وأهمّ ملامحهما على مستوى ما قدّماه في دراسة المواضيع التي تناولتهما بالبحث.

ج. الاستشراق الفرنسي مِن خلال كتاب «les gnomes» للكونت هنري دو كاستري
اهتمّت الدراسات الاستشراقيّة الفرنسيّة بعدّة موضوعات في مرحلة محدّدة مِن التاريخ الاستعماري، ومنها دراسة هنري دو كـــــــــاستري الذي أنجز كتابًا بعنوان «les moralistespopulaires de l’islam»، حول رباعيّات عبد الرحمان المجذوب، المتصوّف المغربي، ولإنجاز عمل كهذا انتقل دو كاستري إلى الجنوب الجزائري ملاحقًا الرواة الذين تحتفظ ذاكراتهم بمأثورات المجذوب، فرغم رحلته إلى تونس والمغرب، فهو لم يذكر أنَّه جمع مِن هذين البلدين أيّ مادّة بخصوص الرباعيّات، فكتابه هذا ضمن الدراسات الاستشراقيّة، التي تناولت الشعوب العربيّة عامّة، والمجتمع المغربي خاصّة، فلقد اتّبع دو كاستري منهجًا يرتكز على التنقّل مباشرة إلى جنوب الجزائر بحثًا عن رواة يحتفظون برباعيّات عبد الرحمان المجذوب دون الاعتماد على الكتب والمصنّفات التي تهتمّ بالموضوع ذاته؛ لأنَّها في نظره تفتقد إلى معرفة السيكولوجيّة العربيّة والأبعاد النفسيّة للروح العربيّة المنغلقة على الذات الأوروبيّة.

3.1 الكونت هنري دو كاستري (Comte Henry de Castries)
الكونت هنري دو كاستري (Comte Henry de Castries) (1929-1858): مستشرق فرنسي ولد سنة 1850، وتوفّي سنة 1929، كاتب مسيحي عاش في الجزائر زمنًا طويلًا، فقد كان مقدّمًا بالجيش الفرنسي في الجزائر، ومِن هنا جاء اهتمامه بالإسلام مِن خلال مطالعته لأحوال المسلمين والتأمّل فيما يراه، والسؤال عمّا يعنّ له، ويُعدّ الكونت هنري دو كاستري مِن أكثر المستشرقين الأجانب إنصافًا للإسلام.
مِن آثاره أنّه تعاون هو ودي سنيفال على إصدار مجموعة بعنوان «مصادر غير منشورة عن تاريخ المغرب» باريس 1905، ومِن مباحثه في مجلّة هسبريس «الأشراف السعديّون» 1921، و«مصكّ النقود في المحمّديّة» 1922، و«فتح المنصور السودان عام 1591»، و«سادة المغرب السبعة» 1924، و«رحلة الهولندي إلى المغرب، 1926»، و«الدانمرك والمغرب من 1750 إلى 1767» سنة 1926 [15].

أ. في كتاب الكونت هنري دو كاستري
يُعتبر كتاب هنري دو كاستري مِن بين أهمّ الدراسات الاستشراقيّة التي تناولت الثقافة العربيّة بشكل عام، والثقافة المغاربيّة بشكلّ خاص، فهنري دو كاستري قد جمع فيه رباعيـــّـات «سيدي عبد الرحمان المجذوب» (les gnomes de sidi abd er-rahman el-medjdoub) وقد اتّخذ له عنوان (les moralistes populaires de l’islam)، وكترجمة أوّلية له نقول «العقلاء الشعبيّون للإسلام»، تمّ نشره سنة 1896 بعد عشرين سنة مِن العمل على جمع محتوياته وترجمتها، فقد بدأه بمقدّمة ذكر فيها أسباب جمعه للرباعيّات ومبتغاه مِن هذا العمل.

أوضح هنري دو كاستري مِن خلال مقدّمة الكتاب أنَّه رغب مِن خلال عمله التعرّف على الروح العربيّة والأبعاد السيكولوجيّة للشخصيّة العربيّة وأبعادها النفسيّة، كما أوضح أنَّه، ولأوّل مرّة عند مجيئه إلى الجزائر، قرأ العديد مِن الكتب العربيّة بنيّة الإلمام بالمستويات العامّة لشمال أفريقيا.

Quand j’arrivai pour le première fois en Algérie, il y a vingt ans, j’avais lu avec avidité les livres et les brochures traitant des moeures et des usages de arabes, dans l’espoir d’y trouver la psychologie de cet esprit sémitique[16].

وحكى لنا أيضًا عن تجربته الميدانيّة التي خاضها في الجزائر، وما ميّزها مِن استغراب واكتشاف لموروث جديد وأنماط عيش مختلفة عن بلده فرنسا،كما قد قام مِن خلال بعض الصفحات بتعزيز مقدّمته ببعض الأمثال والألغاز (sentences et proverbes)[17].

ب. متن الاشتغال لدى الكونت هنري دو كاستري
يتكوّن الكتاب من 164 صفحة، كما يضمّ في طيّاته 156 رباعيّة مترجمة للفرنسيّة مِن بعض الشروحات الهامشيّة لبعض الكلمات والجمل. هاته الرباعيّات تتعارض أحيانًا كثيرة مع ما جمعه المختصّون العرب، وترجمة هذه الرباعيّات قليلًا ما تفي بالغرض؛ كونها تعتبر تزييفًا وخيانًة للغة الأصل؛ لأنَّها لا تنقل الأفكار والذهنيّات كما نطقت بها.

يقول هنري دو كاستري مِن خلال مقدّمته إنَّه اعتمد في جمع للرباعيّات على أفواه الرواة والحفظة بعدما استعان في أوّل الأمر ببعض الكتب التي لم تلبِّ رغبته، فهو لم يقبل الاعتماد على الكتابات القديمة لكي لا يقع في التقليد، وما عمله هذا إلّا للتميّز وإضفاء طابع الخصوصيّة على بحثه[18].

ج. إشكاليّة توثيق مأثورات المجذوب لدى هنري دو كاستري
يؤكّد الكونت في مقدّمة كتابه أنَّه اعتمد منهجيّة البحث الميداني في جمعه لمأثورات عبد الرحمان المجذوب، ولذلك قضى سنوات طويلة في الجنوب الجزائري، وهذا الأمر يدعونا إلى طرح مجموعة مِن التساؤلات ترتبط بعمليّة الجمع والتوثيق لهذه المأثورات، فما هي الأسباب التي حالت دون جمع مأثورات المجذوب مِن المغرب بحكم أنَّه مغربي الموطن؟ فهل للعامل التاريخي دور في ذلك؟ على أساس أنَّ صدور الكتاب كان سنة 189، إذ إنَّ المغرب كان في تلك الفترة مستقلًا، في حين أنَّ دو كاستري دخل المغرب بعد الحماية الفرنسيّة مِن خلال رحلاته، وكذا المهام الكبيرة التي كلّف بها من قبل الإدارة الكولونياليّة بالمغرب[19].

اهتمّت الدراسات الاستشراقيّة الفرنسيّة بأفريقيا بداية في الدين الإسلامي الذي كان محطّ اهتمام كبير؛ كونه الدين المنتشر بكثافة في أغلبيّة المستعمرات الفرنسيّة بجنوب الصحراء، الأمر الذي أكّده الحاكم العام الفرنسي لمستعمرة السينغال «ويليام بونتي» بقوله: إنَّ مِن واجبنا دراسة المجتمع المسلم في مستعمراتنا بكلّ تفاصيله... سوف نجد في هذه الدراسة الأسس الثابتة والتوجّهات الأكثر ملاءمة لخططنا وقراراتنا تجاه المسلمين1[20]. هذا أدّى بالضرورة مِن خلال طموحات المستشرقين الفرنسيّين إلى فهم وإتقان اللغة العربيّة في سياقها الرسمي وغير الرسمي، الأمر الذي حتّم عليهم دراسة الأشكال الشفهيّة الشعبيّة قصد الإحاطة باللهجات، التي مِن شأنها تحصيل المعرفة وتحصيل التعرّف على الخلفيّات المضمرة عن الشعوب العربيّة بشكل عام، والبلدان المغاربيّة بشكل خاصّ، هذا الأمر يخصّ المغرب والجزائر بشكل أكثر تدقيقًا، بمبرّر أنَّ دراستنا لكتاب هنري دو كاستري (les gnomes de sidi abd er-rahman el-mejdoub) في علاقته بالمأثورات الشفهيّة (الرباعيّات) الخاصّة بسيدي عبد الرحمان المجذوب، تُعتبر كأنموذج لهذه الدراسات الاستشراقيّة الفرنسيّة.

1.2 أسباب قدوم دو كاستري إلى شمال إفريقيا
تتمثّل أسباب قدوم هنري دو كاستري مِن خلال عنصرين أو دافعين أساسيين، الأول تمثّل في استعمار فرنسا للجزائر، والثاني مِن خلال إنجاز مهمّة علميّة واستخباراتيّة.

فاحتلال فرنسا للجزائر سنة 1830م أدّى إلى تكثيف وجودها في شمال أفريقيا ككل، وفي هذا السياق، بدأت فرنسا في البحث عن وضع يدها على جميع الدول الموجودة في المنطقة، فبعد معركة إسلي 1844م، وجدت فرنسا ذريعة لاحتلال المغرب، فبحكم شساعة الأراضي التي احتلّتها فرنسا مِن أجل السيطرة على السكان والأرض، أصبحت في حاجة ماسّة إلى المزيد مِن العسكريّين والقوات الفرنسيّة، ومِن هنا كان هذا سبب ذهاب هنري دو كاستري إلى الجزائر بحكم مهنته العسكريّة، فالسلطات الفرنسيّة هي مَنْ قامت ببعثه، وليس رغبة منه، وذلك مِن أجل معرفة واكتشاف خبايا المنطقة المقصودة، فرتبته العسكريّة هي السبب في بعثه إلى الجزائر.
فمِن هنا يتّضح أنَّ اهتمام هنري دو كاستري بدراسة عدّة موضوعات في مراحل الاستعمار، وذلك بعد تعرّفه على سيكولوجيّة الشخصيّة العربيّة، واحتكاكه بالثقافة الجزائريّة، جاءته مِن خلال كلّ هذا فكرة دراسة المأثورات الشفهيّة التي تعكس ثقافة الجزائريّين والمغاربة، إذ قام بتأليف كتاب يترجم ويشرح فيه رباعيّات سيدي عبد الرحمان المجذوب.


1.1.2 أسباب التأليف
جاء اهتمام دو كاستري بالإسلام والعرب بسبب عمله في الجيش الفرنسي بالجزائر ومِن خلال مطالعته لأحوال المسلمين والتأمّل فيما يراه. فكان مِن بين أسباب هذا الاهتمام، معرفة الإنسان العربي؛ أي التعرّف على طريقة تفكيره وعدم انفتاحه على الإنسان الأوروبي، فلمعرفة هذا، ذهب إلى جنوب الجزائر وعاشر الأهالي هناك، واستطاع أنْ يتعرّف على عاداتهم وتقاليدهم في جميع المناسبات، وكذلك التعرّف على ثقافتهم الشفهيّة مِن خلال سماع ما يتردّد على ألسنتهم، وكذلك مِن خلال تصحيح الأفكار المغلوطة عن الإسلام، فهنري دو كاستري مِن بين المستشرقين المدافعين عن الإسلام والمسلمين بصفة عامّة.
في هذا السياق يصرح دو كاستري بأنَّ غاية ما يرمي إليه، هو إطلاع مواطنيه (الفرنسيّين) على الصورة الصحيحة للإسلام، حتّى يحاطوا بأصدق المعلومات عن العقيدة التي يعتقدها بعض رعاياهم في القارة الأفريقيّة، ممّا يسهّل لهم التفاهم والسيطرة عليهم[21]. وكذلك مِن خلال دعوته إلى معرفة الدين الإسلامي، فقد كان دو كاستري يدعو الدولة الفرنسيّة إلى التعرّف على رعاياها، وذلك مِن خلال عدم الذهاب في سياق تنصير الشعب الجزائري، بحيث لا يكفي لأمّة مسيحيّة متمدّنة أنْ تحترم دين المسلمين مِن رعاياها، بل يجب عليها أنْ تسعى إلى معرفة ذلك الدين كما ينبغي[22].

أمّا على مستوى تأليف هنري دو كاستري لكتابه (les gnomes de sidi abd er-rahman el-mejdoub) فهو يتمثّل في وفرة المعطيات التي جمعها عن رباعيّات الشيخ عبد الرحمان المجذوب، وإحصائه لهذه الرباعيّات، وكذا الاختلاف الحاصل بين لهجة المغرب -عبد الرحمان المجذوب ابن المغرب وذي انتماء مغربي وثقافة مغربيّة- ولهجة الجزائر، بالإضافة إلى اكتشافه لبعض هذه الرباعيّات التي نظّمت في شكل الكلام النابي -إلى حدّ ما- والتي تختلف عمّا تداوله الجزائريّون.

2.1.2 الأوضاع العامّة في المغرب
قبل الاستعمار الذي طال المغرب، الذي كان يعيش وضعًا اجتماعيًّا شبه مستقرّ، فبالرغم مِن سيادته آنذاك، إلّا أنَّ الوضعيّة الاجتماعيّة اتّسمت بنوع مِن التردّي والفقر والتهميش وانعدام التطبيب والاستعانة بشتّى الوسائل البدائيّة في بعض إذا لم يكن كلّ المجالات.كانت السلطة الحاكمة هي المسيطرة على الثروات، وشيوخ القبائل هم مَنْ كانوا يسهرون على إخضاع الناس بالترهيب الديني مِن طرف الفقهاء الموالين للسلطان، وبالعنف تارة إنْ اقتضى الأمر. كما كان الوضع الاقتصادي هشًّا؛ كون المغرب، وبعد هزيمته بتطوان (معركة إسلي)[23]، فرضت عليه ضرائب قاسية من طرف الإسبان والفرنسيّين أثقلت خزينته، ولجأ النظام إثر ذلك إلى فرض رسومات ضريبيّة مرتفعة على السكان، ممّا أجّج غضبهم وزاد مِن تمرّدهم (السيبة)، وكذلك دخول المغرب في منعطفات خطيرة جرّاء تزايد حدّة الفقر وظهور المجاعات وانتشار الأوبئة؛ أي إنّه كان في وضع لا يحسد عليه، كلّ هذا سيسهّل على المستعمر احتلاله بسهولة في وقت لاحق.

3.1.2 القول المأثور (les gnomes) قراءة في المتن
لقد اهتمّت الدراسات الاستشراقيّة مدفوعة بحبّ الاستطلاع تارة، وبدوافع كولونياليّة تارة أخرى، بعدّة مواضيع في مرحلة محدّدة مِن تاريخ الاستعمار للمغرب، فدراسة الكونت دو كاستري قد تمحورت حول الواعظ صاحب الرباعيّات الشهيرة، التي استعرضها بالشرح والتحليل محاولًا تقريب الصورة لنا عن الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة، التي سادت المجتمع المغربي خلال القرن 16. وسنحاول في هذا السياق أنْ نعرج على مجموعة مِن النقاط الأساسيّة، مِن خلالها سنستبصر محتوى المقدّمة ومحتوى الكتاب، وأهمّ الدواعي وراء جمع دو كاستري لأشعار المجذوب، وكذا دراستها، وشخصيّة هذا الأخير من زاوية نظر دو كاستري، وأهمّ السمات الموضوعيّة والشكليّة لهذه الأشعار، بالإضافة للمصادر التي أسعفت دو كاستري في بناء كتابه.

2.2 قراءة في مقدّمة الكتاب
بهذا الصدد يمكن تقسيم متن مقدّمة كتاب (les gnomes de sidi abd er-rahman el-mejdoub) بحسب المعيار الموضوعاتي إلى ثلاثة أقسام، عمل دو كاستري مِن خلالها على تناول عنصر معيّن من داخل كلّ قسم، فقد حرص في المرحلة الأولى على استعراض الأسباب والدواعي التي دفعته لجمع وشرح هذه الرباعيّات، قبل أنْ يعرج إلى التعريف بصاحب الرباعيّات وبعض السمات الشخصيّة والمشتركة بين الوعّاظ المجاذيب الذين عرفتهم الثقافة الشعبيّة العربيّة، ليختم هذه المقدّمة باستعراض أهمّ السمات المضمونيّة والشكليّة التي تميّز وتمتاز بها أشعار المجذوب، فقد أوضح دو كاستري مِن خلال مقدّمة كتابه أنَّه ألّفه رغبة في التعرّف على الروح العربيّة والأبعاد السيكولوجيّة الشخصيّة العربيّة، وقد أوضح أيضًا أنّه، ولأوّل مرّة عند مجيئه للجزائر، قرأ واطّلع على العديد مِن الكتب العربيّة بنيّة الإلمام بمستويات العامّة لشعوب شمال أفريقيا.

L’auteur de l’engime suppose les deux derniers jours de la semaine accouplés entre eux. Dans ce couple, le vendredi, appelé en arabe par abréviation الجمعة, est regardé comme la femelle parce qu’il du genreféminin; le samedi السبت, était du genre masculin, représente le nul on sait que le vendredi représente le jour religieux des musulmans et le samedi est celui des juif...».

Féminin = Pluriel = Vendredi

لقد استعان دو كاستري بقواعد الإعراب والتركيب لتغيير بعض الأمثال والرباعيّات بقصد ضبط كنه اللغة وحمولاتها الفكريّة[24].

1.2.2 محتوى الكتاب (les gnomes)
يضم الكتاب 156 رباعيّة مترجمة للغة الفرنسيّة مع بعض الشروحات الهامشيّة لبعض الكلمات والجمل. هاته الرباعيّات تتعارض أحيانًا كثيرة مع ما جمعه المختصّون العرب، فهي تتميّز بلهجة حادّة، وتتضمّن كلمات نابية وساقطة موجّهة للمرأة بشكل خاصّ، وهذه الرباعيّات تمّ ترجمتها، والترجمة قليلًا ما تفي بالغرض؛ كونها تعتبر تزييفًا وخيانًة للغة الأصل؛ لأنَّها لا تنقل الأفكار والذهنيّات كما نطقت بها، فاللغة حمّالة فكر ومعنى ومغزى، مغزاها ينطلق من ذهنيّة المخاطب بها، ويتمّ صياغة الحمولات النفسيّة والفكريّة بالمرادفات التي ترعرع الفرد على سماعها وتلقّيها وتداولها حين التمكّن منها.
كما يمكن القول إنَّ دو كاستري، وخاصّة في الجانب المتعلّق بترجمة الرباعيّات، ينزاح عن الروح العميقة لهذه الرباعيّات، إذ تكشف لنا ترجمة المستشرق الفرنسي في أغلبها عن تفسيرات للرباعيّات أكثر منها ترجمة خالصة لبعدها الإبداعي، ممّا يتأكّد معه أنَّ الترجمة خيانة للنصّ الأصلي؛ أي خيانة لروح الفكرة في أبعادها الاجتماعيّة والدينيّة والفلسفيّة والتربويّة، وانزياح للغة المترجم إليها بثناياها: لغة المبدع/ الذات، ولغة المترجم/ الآخر، واللغة والفكر، واللغة والسياقات الثقافيّة، واللغة والمتلقّي أو انتظارات التلقّي[25].

2.2.2 دواعي جمع ودراسة أشعار المجذوب
يستهلّ دو كاستري مقدّمة الكتاب بالحديث عن رحلته إلى الجزائر، وقراءته الشرهة للكتب والمجلّدات التي تعالج عادات العرب وميولاتهم، متوخّيًا الاشتغال على استعمالاتهم اللغويّة المدوّنة بهدف استخلاص السيكولوجيّة المميّزة للإنسان العربي أو السامي ولثقافته. هذه المحاولة كشفت له عن معطيات عديدة، منها غياب المعنى في الكتب الأدبيّة، وزيف في غرائبيّتها، وتضمّنها لوقائع لا توجد إلّا في مخيّلة مَنْ كتبها مِن المستشرقين الغربيّين، فمجموع هذه الإنتاجات قد أفقدتها الترجمة قدرتها المجازيّة وصورها البلاغيّة وانزياحاتها الكلاميّة.

3.2.2 شخصيّة المجذوب حسب دو كاستري
يذكر دو كاستري في مقدّمة الكتاب أنَّ شخصيّة مجذوب عبد الرحمان، شخصيّة يسهل رسم ملامحها مِن خلال ما أبدعه صاحبها في رباعيّاته، كما أنّ شخصيّته لا تختلف في شيء عن باقي المجاذيب الذين عرفتهم الثقافة الشعبيّة، والتي مِن سماتها المبالغة في الحكمة إلى درجة العته، وصفاء الروح إلى درجة الحمق، والجرأة التي تصل حدود الوقاحة، وعفويّة القول وسخريّته اللّتان تبلغان مبلغ السلاطة، وينضاف إلى ذلك الملبس المتواضع والخشن والترحال في البلدان والنأي بالنفس عن الاستقرار.

3.2 السمات الموضوعيّة والشكليّة لشعر المجذوب
يستعرض الكاتب في مقدّمته بعض السمات المضمونيّة وبعض الثيمات التي تعالجها أشعار المجذوب، فشعره قائم على الارتجال وعفويّة القول باعتبارهما موضة التأليف في الحقب البدائيّة، لايتيحان له الانتقال المنطقي والمتدرّج بما يفضي إلى وحدة في الموضوع، وهي خصّيصة لطالما ميّزت الشعر العربي عمومًا، وأتاحت له التعبير الحرّ عن الأفكار دون تقيّد صارم لمنهجيّة في الأشعار. أمّا المواضيع التي نالت حظًّا وافرًا مِن اهتمام المجذوب، فما تخرج في مجملها عن الوعظ والإرشاد وطابع التحذير مع بعض المثالب والصفات المجتمعيّة الدميمة، الخيانة، احتقار الفقير )واتّصفت أساسًا بالهجاء والنقد اللاذع الذي اتّخذت منه المرأة الحظّ الوافر)[26].

أمّا مِن حيث الشكل، فقد قدّم دو كاستري وصفًا لشعر المجذوب العامّي القائم على نظام مزدوج (كلّ رباعيّة تتكوّن مِن بيتين، وكلّ بيت يتكوّن مِن شطرين)، والذي لا يؤدّي فيه البيت الأوّل المنفصل موضوعيًّا عن الذي يليه سوى دور تهييئي للبيت الثاني الذي يتمّ إفراغ الشحنة الدلاليّة كلّها فيه، يضاف إلى ذلك الاستعانة بالمحسّنات، كالجناس والطباق والسجع، التي تشترك الرباعيّات فيها مع الشعر العربي عمومًا، الذي يحتفل بالموسيقا الداخليّة والخارجيّة والتقابلات والتوازي بين الجمل الشعريّة أكثر مِن اهتمامه بالموضوعات.
يتيح لنا سياق الحديث عن الدراسات الاستشراقيّة بشكل عام، والدراسات الاستشراقيّة الفرنسيّة بشكل خاصّ، القول بأنّ كلّ هذه الدراسات وحسب انتمائها لكلّ موضوع) العقيدة، الدين، تاريخ، الأنثروبولوجيا، واللغة (أنَّها تتوسّل مناهج في البحث والتنقيب عن المعلومات، وهذا ما نلمسه على مستوى دراسة الكونت هنري دو كاستري مِن خلال كتابه (les gnomes de sidi abd er-rahman el-mejdoub)، فالباحثة فاطمة كدو في هذا السياق، لاحظت أنَّ الكونت دو كاستري وقع في أخطاء منهجيّة ارتبطت على الأقلّ بعنصرين اثنين:

أولّهما؛ مرتبط بعمليّة التوثيق وجمع المأثورات، حيث أقحم في كتابه رباعيّات لم يثبُت أنَّ عبد الرحمان بن المجذوب هو قائلها، خصوصًا أنَّها أقرب في لهجتها إلى اللهجة الجزائريّة، وهو الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل عن الأسباب التي دفعته إلى عدم الرجوع إلى الرواة في الموطن الأصلي لعبد الرحمان المجذوب (المغرب)، الأمر الذي يجعلنا أمام إشكاليّة حول مدى دقّة التوثيق العلمي للثقافة الشعبيّة المغربيّة مِن طرف كثير من المستشرقين، ومدى نجاعة الخلفيّة المنهجيّة المعتمدة لإعادة كتابة هذه الثقافة.
إنَّ دو كاستري عندما جمع كلّ مأثورات المجذوب مِن الجنوب الجزائري،لم يقدّم مقارنة بين المتن الجزائري والمتن المغربي، وهذا الأمر يطرح إشكاليّة كبيرة تتعلّق أوّلًا بالأسباب التي منعته مِن جمع المأثورات مِن المغرب بحكم موطن عبد الرحمان المجذوب، وبحكم قيامه بمجموعة مِن الرحلات إلى المغرب، زيادة على أنَّه كان مكلّفًا بمهام كثيرة مِن طرف إدارة الحماية الفرنسيّة بالمغرب، كما تتعلّق أيضًا بتجاهل ذكر السبب الذي دفعه للاكتفاء بجمعها من غير مصدرها الأصلي، وبتفادي الحديث عن الطرق التي وصلت بها هذه المأثورات إلى الجزائر، وما اعترى هذا النقل والتنقّل مِن تغيرّات بالإضافة أو الحذف أو التحوير، مع التنبيه إلى أنَّ ما جمعه مِن مأثورات، به فعلًا إضافات غير موجودة بالنسخ الأصليّة التي تمّ تجميعها مِن قبل المغاربة، خصوصًا تلك الأدبيّات التي حملت إيحاءات جنسيّة وأوصافًا تخدش الحياء (عند العامّة)، والتي تتنافى مع التربية الصوفيّة التي يتشبّع بها الشيخ عبد الرحمان المجذوب.
ثانيهما؛ مرتبط بترجمة الرباعيّات، إذ تحضر نفس الباحثة بقوّة خلال قولها إنَّ ترجمة المستشرق الفرنسي دو كاستري قدّمت في غالبيّتها تفسيرات للرباعيّات أكثر منها ترجمة خالصة لمحتويات الرباعيّات، الأمر الذي يترك بابًا مفتوحًا على مصراعيه لإشكاليّة الترجمة، خصوصًا دور أو أدوار جديدة للترجمة، فينقل الإبداع إلى لغات أخرى دون خيانة التركيبة الأصليّة للمتون الإبداعيّة، وبخصوص إشكاليّة التوثيق العلمي لثقافتنا الشعبيّة، بحيث أدّت مناهجهم المعتمدة في تجميع هذه الثقافة إلى خلط كبير في المعلومات، وبالتالي، تمّت مِن خلال هذا إعادة كتابة هذه الثقافة بالإضافة والحذف، وذلك ما نلمسه مع رباعيّات عبد الرحمان المجذوب، الذي أضيفت إلى مأثوراته رباعيّات لم يكن قائلها، خصوصًا وأنَّ صياغتها باللهجة الجزائريّة كانت عوضًا عن اللهجة المغربيّة[27].
يتّضح مِن خلال ما سبق أنَّ الكونت هنري دو كاستري قد اعتمد على مستوى كتـــــــــاب (les gnomes de sidi abd er-rahman el-mejdoub) المنهج الإحصائي الذي توسّله بقصد، ومِن خلال جمعه لمأثورات الشيخ عبد الرحمان المجذوب، الذي عمل به على إحصاء الرباعيّات الخاصّة بهذا الشيخ عن طريق المشافهة (الشفهية) مِن خلال مقابلته للأهالي الجزائريين جنوب الجزائر، الأمر الذي مكّنه مِن نقل هذه المأثورات وتحبيرها في الكتاب المعني، لكنَّ هذا المنهج لم يسعفه إلى حدّ ما في اختيار صدق أو كذب هذه المأثورات، الأمر الذي دعا إلى طرح أكثر مِن سؤال بهذا الخصوص.
وكذا توسّله بالمنهج المقارن الذي اشتغل به في مقارنة تلك المأثورات فيما تحمله مِن دلالات ومعان مع ما هو موجود في فرنسا، لكنَّ الأهم هو أنَّ دو كاستري، كما ذهبت الباحثة فاطمة كدو، لم يقارن رباعيّات المجذوب بما هو سائد ومتعارف عليه في فرنسا، بل تمثّل هذا المنهج مِن خلال شرحه وتفسيره لتلك الرباعيّات ممّا يسهل فهمها للفرنسيين، الأمر الذي أدّى به إلى السقوط في بعض الأخطاء المنهجيّة، والتي تتمثّل في مصداقيّة عمليّة التوثيق، ومدى جودة الترجمة.

1.3.2 الاستعمالات اللهجيّة في كتاب (les gnomes)
يحضر الاستعمال اللهجي في كتاب (les gnomes de sidi abd er-rehman el-mejdoub) بشكل واضح جدًّا، لأنَّه قد أُلّف في بيئة جزائريّة خالصة، بمعنى أنَّ اللهجة الجزائريّة تتضمّن في مجمل هذا الكتاب، الذي صاغه الكونت هنري دو كاستري، كما نلمس أيضًا وجود اللهجة المغربيّة على مستوى هذا الكتاب، وبالتالي، فكلّ مِن اللهجة المغربيّة والجزائريّة حاضرتان في كتاب الكونت دو كاستري.

2.3.2 حضور اللهجة المغربيّة في كتاب (les gnomes)
يتّضح منذ البداية أنَّ كتاب (les gnomes de sidi abd er-rahmen el-mejdoub) يضمّ مجموعة كبيرة مِن استعمالات اللهجة المغربيّة، وهذا الحضور يحكمه دافعان أساسيّان، فالدافع الأوّل يتحدّد مِن خلال كون هذا الكتاب يتناول الأقوال المأثورة الخاصّة بالشيخ عبد الرحمان المجذوب، التي نظمت بالصيغة اللهجيّة/ العاميّة، والتي لم تنظم بالصيغة المعيار، بمعنى أنَّ هذا النظم اللهجي سيحضر في متن الكتاب بحضور هذه المأثورات، وعلى مستوى هذا الكتاب نفسه، والدافع الثاني؛ يتحدّد مِن خلال كون الشيخ عبد الرحمان المجذوب مغربي الأصل والمحتد، وهذا معناه أنَّ اللهجة المغربيّة تنعكس في الاستعمال اللغوي، وتلك الرباعيّات هي محتوى ذلك الكتاب، بالتالي، فحضور اللهجة المغربيّة واضح مِن خلال كتاب الكونت دو كاستري، وإنْ كان بشكل غير مساو لحضور اللهجة الجزائريّة.


Les fourberies des femmes sont deux fourberies.
Je me suis sauvé pour y échapper.
Elles se ceignent avec des cérastes.
Et s’agrafent avec des scorpions

بهت النساء بهتيــن *** منبهتهم جيـت هـارب
يتحزموا باللفـاع *** ويتخـلوا بالعقــارب

Marché de femmes, marché de larrons.
O vous qui y entrez, prenez garde à vous!
Elles vous feront, voir comme une affaire d’or.
La perte du plus clair de votre bien[28].

سوق النسـوروك من الربـح قنطار*** الدرو راس مال

3.3.2 حضور اللهجة الجزائريّة في كتاب (les gnomes)
كما اتّضح لنا حضور اللهجة المغربيّة من داخل متن كتاب (les gnomes de sidi abd er-rahmen el-mejdoub)، وذلك راجع إلى دافعين أساسيين: فالدافع الأوّل يتحدّد مِن خلال إنتاج هذا الكتاب على أرض الجزائر، وبحكم أنَّ هنري دو كاستري استقرّ في الجزائر، وبالتحديد في الجنوب الجزائري، الأمر الذي فرض عليه تعلّم اللغة العربيّة، وكذا اللهجة الجزائريّة. أمّا الدافع الثاني، فهو يتمثّل في أنَّ المصادر التي اعتمدها الكونت دو كاستري تجلّت في النقل عن أفواه الرواة والحفظة الجزائريين؛ بمعنى أنَّ تلك العمليّة الشفهيّة تنعكس على مستوى الأقوال المأثورة التي نقلها الكونت دو كاستري، وبالتالي، فحضور اللهجة الجزائريّة من داخل متن هذا الكتاب ناتج عن ثقافة ولهجة الرواة والحفظة الذين نقل دو كاستري عنهم مأثورات المجذوب.

Parcourir un paijs est un plaisir:
On connait les ravins, on les évite.
L’amitié des femmes est un avilissement,
L’amit’ié des hommes est un trésor.

تحواس البلاد نزاهــة *** تعرف شعاب وتجــوز
محبة الناس سفلة *** محبة الرجـال كنوز

O toi,à cheval sur deux branches.
Prends bien garde de choir !
Il te suffit de l’ainoitr de deux femmes ;
N’en prends quune si tu veux avoir lapaix.

يا راكب بين عرشين ***سايس لا تطيح
يزيك مـن محبة اثنين ***خذ غير واحد تريح


4.3.2 الثيمات الدلاليّة الحاضرة في كتاب (les gnomes)
تتضمّن دراسة الكونت هنري دو كاستري مدخلًا مهمًّا يتكوّن مِن 28 صفحة، يحتوي على جانب مهمّ مِن الهوامش والإحالات، يبلغ عددها 55 إحالة، استعملها مِن أجل تفسير كلّ ما يمكن أنْ يكون غامضًا على المتلقّي الغربي بالخصوص، حيث قدّم تفسيرات لمجموعة مِن المصطلحات العربيّة، مستندًا في ذلك إلى ثقافة ملمّة بالموروث الثقافي العربي الإسلامي، إذ اشتغل في دراسته مِن خلال مجموعة مِن المؤلفات العربيّة التي اهتمّت بالحكم والأمثال، كمجمع الأمثال للميداني الذي ترجمه فريتاغ Freytag سنة 1838م، وكذا كتاب المستظرف، وغيرهما مِن أمّهات الكتب، وقد أبان مِن خلال ذلك على حرفيّة ومهارة في تتبّع اللغة العربيّة الفصحى وقواعدها اللغويّة قبل أنْ يمرّ إلى دراسة الثقافة الشفهيّة. ولقد حاول الكونت دو كاستري مقارنة هذه الأشكال التعبيريّة (الرباعيّات) مع نظيراتها الغربيّة، فخلص إلى أنَّ أشكال التعبير في المشرق تأتي في جمل شعريّة غير مترابطة ومتتالية، ومِن خلال الاطّلاع على الرباعيّات التي جمعها دو كاستري مِن أفواه الشيوخ والرواة الجزائريين، والتي بلغ عددها 156 رباعية.
ثيمة المرأة: تحمل أقوال الشيخ عبد الرحمان المجذوب مجموعة مِن المضامين المستمدّة مِن التجارب الحياتيّة اليوميّة التي عاشها، أو التي تسامع بها الناس، وكذا الأحداث التي طبعت عصره وأثّرت فيه، تجارب تعكس لا محالة الواقع المعيش بكلّ تلاوينه خلال القرنين العاشر الهجري والسادس عشر الميلادي، اتّسمت هذه الفترة بالنقص الجذري لعدد النساء العاملات جرّاء التهميش الذي طالهنّ مِن طرف الفقهاء، رغم المكانة التي منحها لهنّ الإسلام، مِن خلال هذا يمكننا تقديم بعض النماذج مِن الرباعيّات الخاصّة بثيمة المرأة.

الرباعيّات
الثيمة
الدلالة
بهـت النساء بهتين *** من بهتهم جيت هـارب
يتحزموا باللفـاع *** ويتخللوا بالعقارب
الموعظة

لقد شكّلت المرأة مادّة دسمة للمجذوب في رباعيّاته، حيث جعلها تلبس ثوب المكيدة والخديعة، حتّى أصبحت أقواله عن النساء صورًا نمطيّة يستدلّ على مصداقيّتها مِن بعض الوقائع التي تحدث في الحياة اليوميّة، خاصّة علاقة المرأة بالرجل، وتصبح بذلك قواعد مترسّخة في أذهان العديد مِن الأشخاص، سواء أكانوا رجالًا أم نساء. وتصوّر رباعيّات الشيخ عبد الرحمان المجذوب المرأة في لباس الدهاء والمكر والكذب والخيانة، فعبد الرحمان المجذوب مِن خلال مقاربتنا لحياته ورباعيّاته في هذا السياق، تتّضح نظرته الدونيّة للمرأة وموقفه المعادي لها في أغلب الأحيان، فقد صوّرها مقرونة بالمراوغة والاحتيال بناء على تمثّلات المجتمع لها.

سوق النساء سوق مطيـار*** يا داخل رد بالك
يوروك لك من الربح قنطار*** ويدويو لك راس مالك
لحت حجر إلى السماء *** وتـلقيتها بعودي
حتى واحد ما غشـاش *** كالمرأة واليهودي
القوبع طارت وتعـلات *** نزلت عــلى عود راشي

ثيمة المعاناة الشخصيّة: شكّلت ذاتيّة الشيخ المجذوب حضورًا وازنًا على مستوى أقواله المأثورة، بحيث أنَّنا نجد على الأقلّ 21 رباعيّة تناولت ذاته، حاكية تجاربه مع النساء ومع السلطة ومع ديناميّة الحياة اليوميّة والمعيش بشكل عام، فنظرته الدونيّة للمرأة، كما سبق الإشارة، نابعة بشكل محض مِن نفسيّته المتدهورة، وناتجة عن خلفيّته الأيديولوجيّة التي يتبنّاها. نورد بعض الرباعيّات الدالّة على ذلك، مِن خلال الجدول الآتي، والذي سنحاول إحصاء الرباعيّات ذات ثيمة المعاناة الشخصيّة.

الرباعيّات
الثيمة
دلالتها
كسبت في الدهر معــزة *** وجبت كلام رباعي
ماذا من اعطاه ربي*** ويقول اعطاني ذراعي

الموعظة
لقد كانت حياة الشيخ المجذوب يطبعها اللااستقرار، بحيث أنَّه كان دائم التنقّل والتجوال، ممّا ساهم في تكوين شخصيّة متشعّبة بجملة من التجارب والخبرات، التي انعكست على مواقفه تجاه الحياة، وقد كانت عقدة فقدان الأم في سنّ مبكرة عاملًا مؤثّرًا هو الآخر في تشكيل شخصيّته، بحيث أنَّه عاش الحرمان واليتم الذي زاد من تشدّد مواقفه تجاه المرأة، ففي الرباعيّات أعلاه يتّضح أنَّ الشيخ المجذوب ذو مواقف صارمة وجادّة في مجموعة من المواضيع في علاقته بالحب والمرأة والمعاناة والسلطة والصبر.

شـافوني كحل مهلف *** يحسبوا مــا في دخيرا
وانـا كالكتاب لمؤلف *** فيه منـافع كثيرة
شفيتني يا المسكين *** او شفيني حــالك
الزين مـا تخذه *** والدين مـ ينعطى لك
رميت حجرة لسمـا *** ورميت عيني معاها
شفت ما يهلكني إلا كرشي *** والمدلي معـاها
أنا الي كنت ثقيل ورزين *** وخفيت بعد الرزانـة
مشيت إلى الرماد عامين *** ندور فيه السخانـة
عميت وصميـت *** وخفيت بعد الرزانــة
واش كانون عاميـن *** نتسنى فيه السخانـة

ثيمة الموعظة: يتبدّى لنا منذ البداية أنَّ الأقوال المأثورة تتطرّق للكثير مِن الموعظة، إذ لم نقل أنَّ جلّها يتعرّض لهذا الأمر، ولعلّ الخلفيّة الفكريّة والمنحى الأيديولوجي الذي ينتمي إليه الشيخ عبد الرحمان المجذوب، بحكم كونه ذا توجّه صوفي، والمتصوّفة يميلون في معظم حديثهم إلى الوعظ والإرشاد.

الرباعيّات
الثيمة
دلالتها
نصيك يا حـارث الشيح *** والشيـح فيه المرار
الي تظن تقطــع عليه *** تاتيك منـه الضرور
الموعظة

يتّخذ طابع الوعظ من رباعيّات الشيخ المجذوب قدرًا مهمًّا، لما له من أهمّية على مستوى المواضيع التي يتناولها هذا الأخير مِن خلال أقواله المأثورة، فرباعيّاته تنمّ عن حسن الوصاية والإرشاد والموعظة في مجموع مواضيع هذه الرباعيّات، من حب وزواج ودين وحياة اجتماعيّة وعلاقات النساء بالرجال، بهذا المقتضى يمكننا القول إنَّ صوفيّة المجذوب وتصوّفه عامل أساسي ومركزي في انعكاس الوعظ والنصح.

نصيك يـا حارث الدوم *** والدوم كثرو نـفاعه
الدم مــا ينفع الدم *** يا ويح من خانوا دراعـه
فـاعلي الشر مقبض *** فــاعلي الخير سالك
بـالك بـالك *** بدراهمك جبتهالك
الشر لا يظلم أحد *** غير من جبد لراسه
فـي الشتا يقول البرد *** أو في الصيف يغلبه نعاسه
لا تجري لا تهقهق *** وامشي مشية موافقة
مـا تدي غير الي كتب لك *** لو كان تموت بالشقاء
لا تخمم لا تدبر *** لا ترفد الهم دايما
الفلك ماه مسمر *** وإلا دنيا ما له مقيما
لا تخمم في ضيق الحال *** شف عند الله ما وسعها
الشدّة تـهزم الأرذال *** أمـا الرجال لا تقطعها

ثيمة الحكمة: في سياق ثيمة الحكمة، يمكننا القول إنَّ عبد الرحمان المجذوب يتأرجح بين ثنائيّة الجنون والحكمة، بالتالي، هل يستقيم الجنون والحكمة في شخصيّة الشيخ عبد الرحمان المجذوب؟ مِن هنا يمكننا القول إنَّ ثيمة الحكمة تحصيل حاصل لما يتّبعه الشيخ المجذوب في تعامله مع جميع المعطيات، وموقفه تجاه مجموعة من الأمور هو السبب الرئيس خلف حضور هذه الثيمة من داخل رباعيّاته.

الرباعيّات
الثيمة
دلالتها
الصمت حكمة *** ومنه تتفرق الأحكيم
لـ ما نطق ولد الايمامة *** ما يجيه ولد الحنش هايم
الموعظة

يتّضح مِن خلال الرباعيّات الخاصّة بثيمة الحكمة أنَّ الشيخ عبد الرحمان المجذوب حكيم على مستوى إرشاداته ومواقفه التي يصرفها في مجموع المناسبات والأحداث التي صادفها وعاشها على حدّ سواء، فهو يوصي ويرشد الغافل، يفقه الساذج ويشبّه بالحكمة وينصح، فهو شخصيّة تعطي وتهب الحكمة، حكمة كانت نتيجة تجارب وخبرات حياتيّة وطرائف ومصائب معاشة، غير متخيّلة. إنَّه سجل ينضح بالحكم، يفيض بالنصائح، على كلّ المستويات وكلّ المجالات.

الصمـ والذهـب المشجـر *** والكام يفـد المسألة
إن شفـت لا تخــبـّ *** وإذا سـألوك قـد لالا
كـل مسوس دواي *** ويجيب الهليكة لراسه
من صب له ضربة بموس *** غير إذا بانوا ضراسه
حيط الرمل لا تعلي *** يـعلا يرجع لالساس
ابن الغير لا تربي *** يكبر ويرجع إلى الناس
ولـ ابن أدم لا تربيه *** بعد ما تربيه نـدم
يا السائلني على الغول *** الغول ه ابن أدم

ثيمة المال والسلطة: شغلت ثيمة المال والسلطة حيّزًا لابأس به مِن مضامين مأثورات المجذوب، فهذا الأخير وبشكل من الأشكال صرّح بمواقفه في جميع المواضيع، ومِن بين هذه المواضيع نجده قد صرّح في علاقته بالسلطة والمال. في هذا السياق نجده يعطي مواقف ثابتة وواضحة لما كان يعكسه الوضع الاجتماعي في علاقته بكلّ مِن السلطة والمال.

الرباعيات
الثيمة
دلالتها
سافر تعرف النــاس *** وكبير القوم طيعـه
كبير الكرش والراس *** هداك بنص فلس بيعـه
المال والسلطة

لقد ساح عبد الرحمان المجذوب في ربوع المغرب، التي عبّر عنها من خلال رباعيّاته الزجليّة التي تضمّنت حكمه وأقواله المأثورة المتجلّية أساسًا في الدفاع عن المظلوم والحثّ على مكارم الأخلاق، وانتقاد القائمين على أمور البلاد والعباد، بلغة زجليّة في عصر كان للكلمة المرويّة تأثير أكبر مِن الكلمة المكتوبة، واللغة العاميّة/ اللهجة الشفهيّة تأثير أكثر مِن اللغة العربيّة الفصحى/ المعيار، بحيث أنَّه يعطي مواقفه الصريحة تجاه الفوضى التي تعمّ السياسة والمجتمع.

راجل بلا ماـل محقور *** في الدنيا ما يسوى شي
المشرار كالدلو المعقور *** يوصل المــاء ويرجع خاوي
نخدم على المالونطيح *** والمل بين الطناخــة
راجل بلا مال فالريح *** مشرار يبغي الشياخة
نجري على المال *** والمـال فيه النفخة
نفخة بلا مال كالريح *** مشرار يبغي الشيـاخة
المال يا المال *** إليه البنات مالو
الي ما عنده شي المـال *** لا يعمل حتّى كلبي بحاله
ما كان دونيا بلا مال *** يا ويح من قل ماله
المشرار ما يوجد لسلف *** بنعمته ما تعطى له

ثيمة الدين: إنَّ الحديث عن رباعيّات الشيخ المجذوب وتصنيفها ضمن حقل موضوعاتي معيّن، لا يعني بحال مِن الأحوال أنَّ الرباعيّات الأخرى التي انتظمت وفق ثيمات خاصّة هي بعيدة عن الدين؛ لأنَّ الخلفيّة الدينيّة شكّلت مصدرًا أساسيًّا لكلّ رباعيّات الشيخ المجذوب. لقد كان للفكر الديني حضور وازن، حيث اعتبر أنَّ الدنيا هي ملك لله وحده، وعلى الإنسان أنْ يصبر ويتحمّل صعاب الحياة، والخضوع لقضاء الله وقدره ومشيئته، والمجذوب في هذا الصدد ذو شخصيّة صوفيّة متشبثّة بالقيم الدينيّة الإسلاميّة.


الرباعيّات
الثيمة
دلالتها
الطالب مجراه صفي *** اصفا من كل غيارة
يا لزاير كل والي *** فالطالب خطاتك الزيــــارة
الدين

بالإضافة إلى الخلفيّة الفكريّة التي تنتمي إلى الحقل الديني، إنَّه يدافع عن الدين الإسلامي بشكل مباشر وبدون غموض أو قيود، كما توسّل في هذا السياق مخاطبة العامّة في الفترة الزمنيّة التي عاشها، مخاطبة تدلّ على غيرة عميقة متوسّلًا كذلك الرموز الدينيّة (الطلبا، الأرض فدان ربي، عزرائل، يوم القيامة).

الـي حب الطلبا نحبوه *** ونعملوه فوق الراس عمامة
والي كره الطلبا نكرهوه *** حتّى إلى يـم القيامة
رجب نضحك ونـعب ***شعبان كثروا همومـ
رمضان يتخلط لرب ***يا ويح من فيه تال
الأرض فدان ربـي *** والخلق مجموع فيــها
عزائل حصـد فريد *** مطمره في كل جيـها

ثيمة التراتبيّة الطبقيّة: تتوسّل هذه الثيمة أنَّ الشيخ المجذوب ينتقد الأوضاع الاجتماعيّة، ويسلّط الضوء على الأحوال الاجتماعيّة التي سادت المغرب خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر مِن خلال الفقر والتشظّي الاجتماعيين اللذين عاشهما المغاربة آنذاك.

الرباعيّات
الثيمة
دلالتها
المصبط ما داري بالحافي *** والراسـي يضحك على الهموم
اللي راقعد على قطيعة دافي *** والعريان كيف يجيه النوم
التراتبيّة الطبقيّة

يخبرنا الشيخ عبد الرحمان المجذوب مِن خلال بعض الثيمات التي تدل على التراتبيّة الطبقيّة، أنَّ خصلة التكافل الاجتماعي لم تحضر المجتمع المغربي، بحيث أنَّ الغني لا ينصرف مِن خلال تعامله إلى مساعدة الفقراء، وأنَّ الاوضاع الاجتماعيّة في حالة يرثى لها، بحيث أنَّ أبسط الأمور أمست أثمن مِن ذي قبل.

اللفت ولات شحمــة *** وتتبع بالسوم الغــالي
القلوب ما بقات رحمة *** شف حالي يا العــالي
الشاشية تطيع الراس *** الوجه تضويه الحـانة
المكسي يقعد مع الناس *** العريان نـوض من حدانه
اللي علينا حنـا درناه *** والي على الله هو به اذرى
رجل لا مال محقور *** في الدنيا ما يسوا شـي

مكّنت هذه الرباعيّات مِن خلال ثيماتها المتنوّعة بين المرأة والمعاناة الشخصيّة والموعظة والحكمة والمال والسلطة والدين وكذا التراتبيّة الطبقيّة، مكّنت الكونت هنري دو كاستري مِن التعرّف عن قرب على الروح العربيّة، التي مِن خلالها يتفاعل العربي مع عالمه الخاصّ ومع محيطه الاجتماعي والروحي والسياسي، مشكّلًا بذلك شخصيّته المتميّزة في التعبير عن هذا التفاعل بأقوال تحاكي الواقع مِن خلال تجارب الذات والآخر، بحيث يغدو المشترك الإنساني بأفراحه ومآسيه وبكلّ ألوانه القزحيّة الخيط الرابط والناسج للحمة الرباعيّات.
يقول دو كاستري في نفس الصدد: إنَّ بسيكولوجيا الفكر العربي الموثّقة في الحال، والهواء الطلق، أو تحت الخيام، هي التي اشتغلتُ على ضبطها على امتداد سنوات قضيتها بجنوب الجزائر وأثناء رحلاتي إلى تونس والمغرب، وحيثما حللت اجتهدت في تسجيل ما اعتبره مهمًّا، وجمعتُ كلّ ما سمعته: مِن أغاني الأمهات التي هدهدت بكاء الأطفال، وكذا أنشودات الطفلات وهنّ يلعبن، وأغاني الفلاحين، وكذلك الحكم والأمثال والألغاز والأحجيات (المحاجيات)، بمعنى هذا أنَّ دو كاستري كان حريصًا كلّ الحرص على دراسة العرب والشمال الإفريقي على وجه خاصّ.

خاتمة
يتّضح أنَّ اهتمامات المستشرقين قد انصبّت في البداية على اللغة العربيّة مِن خلال مجموعة مِن العلوم العربيّة مِن قبيل الدراسات الصوتيّة، بحيث اهتمّ هؤلاء بالقرآن الكريم مِن خلال تلاوته وقراءته وتفسيره وشرح غريب مفرداته، بالإضافة إلى الاهتمام بكلّ مِن أصالة البحث الصوتي العربي وكيفيّة إنتاج هذه الأصوات، وأهمّ العمليّات المتحكّمة في ذلك، كما الاشتغال على المعجم العربي مِن خلال نقدهم له، وهذا النقد في أغلب الأحيان كان نقدًا منهجيًّا تمثّل في طريقة وضع المعاجم وترتيب المادة اللغويّة وتنظيمها، الأمر الذي دعا البعض منهم إلى محاولة إنتاج معجم يراعي فيه ما أغفلته المعاجم العربيّة، بحيث نرى أنَّ أوجيست فيشر في معجمه «المعجم اللغوي التاريخي»، ولتفادي هذا النقص، وجب مراعاة ضرورة وضع قاعدة ثابتة لعمليّة الترتيب.
كما شملت دراسات هؤلاء المستشرقين الأدب العربي، بحيث أنَّ المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة من أهمّ وأقدم المدارس التي اهتمّت بالدرس الأدبي العربي، لما لهم مِن ذوق أدبي ولذّة معرفيّة في هذا الصدد.لقد كان للاستشراق الفرنسي خصائص عديدة، نذكر منها: العلاقة الوطيدة التي تربط فرنسا بكلّ مِن العالم العربي والإسلامي، قديمًا وحديثًا، ووجود فرنسا من خلال الاستشراق الفرنسي في معظم علاقات العرب بأوروبا، وأوّل دولة عنيت بالدراسات العربيّة والإسلاميّة للاستفادة منها وترجمة آثارها وإنشاء كراس علميّة لتدريسها.
ويبدو أنَّ هذه الدراسات الاستشراقيّة قد لعبت دورًا بحركة الاحتلال والاستعمار، ولعلّ دراسة الكونت هنري دو كاستري مِن خلال كتابه (les gnomes) كانت دليلًا دامغًا على قولنا هذا، فقد أخذ هذا الأخير بدراسة المجتمع المغربي مِن خلال ثقافته الشعبيّة، واختار الأقوال المأثورة الخاصّة بالشيخ عبد الرحمان المجذوب كعيّنة بحث ودراسة، فهو يصرّح في مقدّمة كتابه أنَّه رغب في التعرّف على الروح العربيّة والأبعاد السيكولوجيّة للشخصيّة العربيّة، فكتابه هذا يضم 156 رباعيّة تعود حسب قوله لعبد الرحمان المجذوب، لكنَّ الحقيقة تنفي هذا، بمبرّر أنَّ عدد الرباعيّات التي جمعها المختصّون العرب في هذا الصدد، تتحدّد في 130 رباعيّة؛ أي أنَّ 26 رباعيّة أضيفت إلى الأصل، فحينما قمنا بمقارنة الرباعيّات التي جمعها الكونت هنري دو كاستري مع التي ثبتت عند عبد الرحمان المجذوب وثبُت أنَّه قائلها، وجدنا أنَّه تمّ تحوير وتحريف الكثير مِن هذه الرباعيّات، والأكثر مِن ذلك أنَّ حضور اللهجة الجزائريّة يتجلّى في هذه الأقوال المأثورة، علمًا أنَّ عبد الرحمان المجذوب ذو أصل مغربي، الأمر الذي دعا إلى القول بأنَّ الكونت دو الكاستري قد جمع هذه الرباعيّات من أفواه الجزائريين والرحّالة في الجنوب الجزائري أغلب الأحيان، وهؤلاء الجزائريين قوّضوا وغيّروا هذه الرباعيّات مِن خلال متنها بما يناسب لهجتهم مِن استعمالات. والجدير بالذكر أنَّ عبد الرحمان المجذوب في هذا السياق يعكس موقفه تجاه المرأة كموضوع مِن مواضيع أقواله، لكنَّه لا يبلغ مبلغ القذف والسبّ، الأمر الذي نلمسه في الرباعيّات الموجودة في كتاب الكونت هنري دو كاستري.


لائحة المصادر والمراجع
أبو قاسم سعد الله، «تاريخ الجزائر الثقافي 1830ـ1954»، ج. 6، دار الغرب الإسلامي، ط. 1، 1998.
آدام بمبا، «الاستشراق الفرنسي وأثره في المشروع الإمبريالي بأفريقيا»، 23/ 10/ 2023.
ادوارد سعيد، «الاستشراق المفاهيم الغربيّة للشرق»، ت: محمّد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2006.
إسماعيل أحمد عمايرة، «المستشرقون والمناهج اللغويّة»، عمّان، دار الحنين، ط2، 1992.
رزيقة يحياوي، «الاستشراق الفرنسي وجهوده في دراسة ونشر التراث الجزائري»، جامعة باتنة، كليّة الآداب واللغات، 2014/ 2015.
عبد الرحمان بدوي، «موسوعة المستشرقين»، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط3، 1993.
فاطمة كدو، «عبد الرحمان المجذوب في الدراسات الاستشراقيّة من خلال كتاب كونت هنري دو كاستري»، مختبر اللغة والمجتمع، جامعة ابن طفيل، 2012.
محمّد فاروق نبهان، «الاستشراق تعريفه مدارسه آثاره»، المنظّمة الإسلاميّة للتربية والعلوم الثقافيّة، الرباط، المغرب، 2012.
محمّد فتح الله الزيادي، «الاستشراق أهدافه ووسائله دراسة تطبيقيّة حول منهج الغربيين في دراسة ابن خلدون»، دار قتيبة، ط1، 1998.
مراد يحيى، «معجم أسماء المستشرقين»، دار الكتب العلميّة، د.ط، د.ت.
نجيب العتيقي، «المستشرقون»، ج1، ط4، دار المعارف، كورنيش النيل، القاهرة، مصر، 1798.

المراجع الأجنبيّة
Henry de castries‚ «les gnomes de sidi abd erـrahman elـmejedoub»‚ paris‚ ernest leroux‚ éditeur‚ 28‚ rue bonaparte‚ 1896.

------------------------------------
[1][*]- باحث بسلك الدكتوراه، مختبر الديدكتيك واللغات والوسائط والدراماتورجيا، تكوين اللسانيّات العربيّة والإعداد اللغوي، جامعة ابن طفيل، كليّة اللغات والآداب والفنون، القنيطرة، المغرب.
[2]- إسماعيل أحمد عمايرة، المستشرقون والمناهج اللغويّة، ط2، عمّان، دار الحنين، 1992، ص15.
[3]- نجيب العتيقي، المستشرقون، ج1، دار المعارف، كورنيش النيل، القاهرة، مصر، ط4، 1798، ص138.
[4]- نجيب العتيقي، المصدر نفسه، ج1، ص139.
[5]- محمّد فاروق نبهان، الاستشراق (تعريفه، مدارسه، آثاره)، المنظّمة الإسلاميّة للتربية والعلوم والثقافة، الرباط، إيسيسكو، دط، 2012، ص23.
[6]- نجيب العتيقي، المستشرقون، ج1، دار المعارف، كورنيش النيل، القاهرة، مصر، ط4، 1798، ص139-140.
[7]- نجيب العتيقي، المستشرقون، ج1، دار المعارف، كورنيش النيل، القاهرة، مصر، ط4، 1798، ص142-146.
[8]- محمد فتح الله الزيادي، الاستشراق أهدافه ووسائله دراسة تطبيقيّة حول منهج الغربيين في دراسة ابن خلدون، دار قتيبة، ط1، 1998، ص25.
[9]- نجيب العتيقي، المستشرقون، ج1، دار المعارف، كورنيش النيل، القاهرة، مصر، ط4، 1798، ص146-150.
[10]- محمّد فاروق نبهان، الاستشراق تعريفه مدارسه آثاره، ص22؛ ونجيب العتيقي، المستشرقون، ج1، ص157.
[11]- رزيقة يحياوي، الاستشراق الفرنسي وجهوده في دراسة ونشر التراث الجزائري، جامعة باتنة، كليّة الآداب واللغات، 2014/ 2015، ص77.
[12]- إدوارد سعيد، الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق، ت: محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2006، ص213.
[13]- محمد فتح الله الزيادي، الاستشراق أهدافه ووسائله دراسة تطبيقيّة حول منهج الغربيين في دراسة ابن خلدون، دار قتيبة، ط1، 1998، ص84-85.
[14]- محمّد فاروق نبهان، الاستشراق (تعريفه مدارسه آثاره)، ص22؛ نجيب العتيقي، المستشرقون، ج1، ص23.
[15]- مراد يحيى، معجم أسماء المستشرقين، دار الكتب العلميّة، د.ط، د.ت، ص546.
[16]- Henry de castries‚les gnomes de sidi abd erـrahman elـmejedoub, introdictoin, pI.
[17]- Ibid, Pv.
[18]- Ibid, introdictoin.
[19]- فاطمة كدو، عبد الرحمان المجذوب في الدراسات الاستشراقيّة من خلال كتاب كونت هنري دو كاستري، ص167.
[20]- آدام بمبا، الاستشراق الفرنسي وأثره في المشروع الإمبريالي بأفريقيا، 23-10-2020.
[21]- هنري دو كاستري، الإسلام خواطر وسوانح، ت: أحمد فتحي زغلول، تق: محمود النجرى، ص5-7.
[22]- هنري دو كاستري، المصدر نفسه، ص7.
[23]- معركة إسلي: قامت هذه المعركة بين المغرب وفرنسا في 14 أغسطس1844م بسبب مساعدة السلطان المغربي أبي الفضل عبد الرحمان بن هشام للمقاومة الجزائريّة ضد فرنسا واحتضانه للأمير عبد القادر، الشيء الذي دفع الفرنسيين إلى مهاجمة المغرب عن طريق ضرب ميناء طنجة حيث أسقطت ما يزيد عن 155 قتيل ثم ميناء تطوان ثم ميناء أصيلة. انتهت المعركة بانتصار الفرنسيين وفرضهم شروطًا قاسية على المغرب، تمثّلت هذه الشروط في اقتطاع فرنسا لبعض الأراضي المغربيّة، وفرضها غرامة ماليّة على المغرب،ومنعها المغاربة من تقديم الدعم للجزائر.
[24]- Henry de castries‚les gnomes de sidi abd erـrahman elـmejedoub, introdictoin.
[25]- فاطمة كدو، عبد الرحمان المجذوب في الدراسات الاستشراقيّة من خلال كتاب الكونت هنري دو كاستري، ص168.
[26]- Henry de castries‚ les gnomes de sidi abd erـrahman elـmejedoub, p 5.7.22.
[27]- فاطمة كدو، عبد الرحمان المجذوب في الدراسات الاستشراقيّة من خلال كتاب الكونت هنري دو كاستري.
[28]- Henry de castries‚les gnomes de sidi abd erـrahman elـmejedoub, p1.3.


تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -