معركة بوغافر 1933
في أواخر فبراير 1933، اندلعت معركة عنيفة في منطقة بو غافر في المغرب، حيث مثّلت هذه المعركة تتويجًا للعمليات العسكرية ضد منطقة جبل ساغرو، التي كانت مركزًا للمقاومة. تُعتبر هذه المعركة واحدة من المراحل الأخيرة التي سعت من خلالها فرنسا إلى بسط سيطرتها على البلاد، بمشاركة وحدات من الفيلق الأجنبي الفرنسي.
مقدمة
شهدت الحملة الفرنسية في المغرب قتالًا متواصلاً منذ الإنزال الأولي في الدار البيضاء عام 1907 وحتى المعارك الأخيرة في الجنوب عام 1934. وبعد إخضاع واحة تافيلالت في عام 1932، بقي للمقاومين معقلان رئيسيان فقط: قمم جبال الأطلس الكبير وجبل ساغرو، ومنطقة الصحراء في الأطلس الصغير قرب الحدود المغربية الجزائرية.
جبل ساغرو ومعركة بو غافر
جبل ساغرو، المعروف أيضًا بجبل ساغو أو جبل سهرهو، هو سلسلة جبلية تمتد حوالي 140 كيلومترًا طولًا و40 كيلومترًا عرضًا، مع قمم وعرة يبلغ ارتفاعها نحو 2000 متر. يُعد هذا الجبل الجزء الشرقي من الأطلس الصغير جنوب غرب المغرب، حيث تصل أعلى قممه إلى كتلة بو غافر التي كانت معقلًا للمقاومة البربرية. وقد تحصنت هناك قبائل آيت هامون وآيت نوغاد وآيت عطا، التي رفضت الخضوع للسيطرة الفرنسية طوال عقود.
في أوائل عام 1933، تولّى الجنرال هوري قيادة حملات فرنسية بقيادة الجنرالين جيرو وكاترو بهدف السيطرة على كتلة بو غافر وإجبار المقاومين على الاستسلام. في الثالث عشر من فبراير، شن المقاومون هجمات متتالية على القوات الفرنسية في محاولة لكسر الحصار. استمرت هذه المواجهات، بما فيها الهجمات والهجمات المضادة، حتى الخامس والعشرين من فبراير، وحققت القوات الفرنسية خلالها بعض التقدم.
معركة بو غافر: الاستعدادات
في 26 فبراير 1933، تجمعت القوات الفرنسية استعدادًا للهجوم على كتلة بو غافر الصخرية، التي تمتد نحو ميل واحد (1.5 كم) من الشرق إلى الغرب، وتضم مجموعة من القمم الحادة التي تحصّن فيها أكثر من ألف مقاتل من المتمردين البربر مع عائلاتهم. كانت المهمة الرئيسية للقوات الفرنسية هي السيطرة على القمة المعروفة بـ"تل 6" (بيتون 6)، وهي الموقع المحصّن الأهم للمتمردين. وكان الوصول إليها يتطلب اجتياح مواقع أخرى للمقاومين المنتشرة في التضاريس الصخرية.
وفي صباح 28 فبراير حوالي الساعة الخامسة، تجمّع مئات من رجال فرقة الجنرال جيرو للهجوم، وُقسّموا إلى مفرزتين؛ الأولى بقيادة الرائد فوري من الفيلق الأجنبي، والثانية بقيادة الكابتن دي بورنازيل، المعروف بزيه الأحمر الفريد. ضمّت المفرزتان مشاة مغاربة (Goumiers) ومساعدين مغاربة وجنودًا من مختلف الوحدات.
كان الطقس باردًا والسماء رمادية، وكانت الأمطار تتساقط بخفة. مُنع الجنود من إشعال النار أو التدخين لتجنب اكتشاف موقعهم. وعلى مسافة قريبة منهم، كان المتمردون يتحصنون في سلسلة صخرية. وفجأة، رفع أحد الجنود رأسه وتلقى رصاصة أردته قتيلاً، ليصبح أول ضحية في ذلك اليوم.
على يمين الفيلق، كانت القوات المغربية تتجمع على نفس التلال بزيهم التقليدي. وقف الكابتن دي بورنازيل، مبتسمًا رغم الظروف القاسية، يعطي توجيهاته. وقبيل الهجوم، وصلت ست طائرات من طراز بوتيز لقصف مواقع المتمردين، بينما فتحت قوات جيرو النار باستخدام مدافع رشاشة وقذائف هاون ثقيلة، لتبدأ المعركة.
معركة بو غافر: الهجوم
مع بزوغ الساعة السابعة صباحًا، انطلقت صيحة "إلى الأمام!"، واشتعلت المعركة بوابل من الطلقات النارية. اندفع الجنود نحو المتمردين، فواجه البعض الموت من البداية، بينما نجح آخرون في الوصول إلى وادٍ صغير يفصل بين التلال، حيث واصلوا التقدم رغم نيران العدو الكثيفة.
على الجانب الآخر، قاد الكابتن دي بورنازيل والمغاربة هجومًا عنيفًا بالحراب، وتمكنوا من السيطرة على إحدى التلال بعد قتال شرس. غير أن المتمردين تراجعوا بسرعة إلى سلسلة تلال أخرى، ما اضطر القوات الفرنسية للعبور إلى وادٍ جديد وسط إطلاق النار العنيف.
وعند تقدمهم، واجه الفيلق منحدرات شديدة تتخللها نتوءات صخرية مليئة بجيوب من المقاومين. تعرّض الملازم غارنييه للإصابة وتم استبداله، إلا أن خليفته، الملازم سيروتي، أصيب أيضًا. اضطر الفيلق للتقدم تحت نيران كثيفة، لكن فوجئ الجنود بمشهد غير مألوف؛ إذ تراجع المغاربة في حالة من الذعر، تاركين مواقعهم أمام الشلوح الذين لاحقوهم بسيوفهم.
اتضح لاحقًا أن الكابتن دي بورنازيل، الذي كان يُعتقد أنه لا يُهزم، أصيب بجروح خطيرة في بطنه، ما أثار الذعر بين رجاله. توقف تقدم الفرنسيين واشتدّت نيران المتمردين، حتى صاح أحد الجنود بصوت قوي: "إلى الأمام، الفيلق!" لتلحقه أصوات مئات الجنود وهم يندفعون مجددًا، مستعيدين عزيمتهم في مواجهة العدو.
معركة بو غافر: المذبحة التي تم تجنبها
في إحدى مراحل المعركة، وصلت مجموعة صغيرة من السرية الجزائرية الخيالة (CMA) إلى هضبة ضيقة محاطة بتلال صخرية. لاحظ الملازم "م." حركة في الخط الأمامي، على بعد حوالي خمسين ياردة، فأعطى الأمر لإطلاق نيران المدافع الرشاشة بحرية. اندفع العريف دولي، مسلحًا بمدفعه الرشاش، إلى موقع محمي خلف كتلة صخرية كبيرة، مما أتاح له فرصة مثالية لإطلاق النار. كان إلى جانبه الملازم بينيه المصاب من مجموعة الكابتن دي بورنازيل، يسحبه جندي لمساعدته على الوصول، لكن بينيه لم يتمكن من الصمود وفارق الحياة.
أطلق العريف دولي ثلاث ذخائر متتالية، وكان على بعد أمتار قليلة منه العريف الأول بيتينج، الذي خدم طويلًا في شمال إفريقيا. أظهر بيتينج ثباتًا ملحوظًا، يقود فريقه بنيران هادئة، لكنه سرعان ما تعرض هو الآخر لإصابة قاتلة. خلفهم، استمرت مجموعتان من الأسلحة الآلية من 2e REI و3e REI في إطلاق النيران.
انتقل دولي بسرعة حوالي اثني عشر ياردة إلى مكان محمي بجانب جدار حجري، حيث وجد قائد الشركة تاجويت ومعه نحو 100 رجل من مختلف وحدات الفيلق المشاركة في المعركة. وفي هذا الوقت، كانت بعض الفرق قد عبرت بالفعل التلال الأخيرة، ومن بينها الفصيلة الرابعة من 2e REI بقيادة المساعد ميخالوفيتش. تمركزت الفصيلة على قمة صغيرة، إلا أن الخسائر كانت مرتفعة جدًا، ما دفع القيادة إلى إصدار قرار بتثبيت الخطوط ووقف التقدم لتجنب المزيد من الضحايا.
كان من الصعب على الفصيلة الرابعة التراجع إلى خط الدفاع الرئيسي قبل حلول الليل، فتعرّضت لهجمات متكررة من المتمردين الذين اقتربوا منها حتى مسافة عشرين ياردة. ورغم الخسائر الكبيرة التي تكبدها المتمردون من جراء قنابل وقذائف الفيلق، سقط المساعد ميخالوفيتش وعدد من رجاله في المعركة. وعندما حل الليل، بقي اثنا عشر جنديًا فقط على قيد الحياة بقيادة الرقيب بورتيجلياتي.
بالقرب منهم، كان الكابتن دي بورنازيل مصابًا بجروح قاتلة، وعلى يسارهم الملازم برينكلي وثلاثة عشر جنديًا آخرين من سرية الخيالة الآلية 1er REI، جميعهم قضوا نحبهم في موقع العدو القاسي. وكعادة الفيلق غير المكتوبة، حاول الجنود استعادة جثث زملائهم؛ فأصيب أحدهم برصاصة في ساقه، بينما أصيب آخرون وهم يحاولون نقل الضحايا.
استمر الجنود في التمسك بمواقعهم، حيث أن أي محاولة للتحرك كانت تقابل بوابل من نيران العدو. وظلوا محاصرين في مواقعهم لمدة أربعة أيام، حتى جاءت فرقة أخرى من البنادق المغربية لتتولى المواقع، بينما رأت القيادة العليا أن إرسال مزيد من القوات إلى نفس المناطق سيكون عبثًا، لتنتهي بذلك فصول تلك المذبحة التي تجنبتها القوات بتضحيات جسيمة.
معركة بوگافر: صمود أيت عطا في وجه الاستعمار الفرنسي
منذ أن وطئت أقدام الفرنسيين أرض المغرب، سعت قواتهم للسيطرة على كافة مناطق البلاد، فتوغلت جحافلهم في الجنوب الشرقي المغربي، متجهة نحو منطقة صغرو لإخضاع قبائل أيت عطا، التي كانت بمثابة سد منيع أمام طموحاتهم الإمبريالية. وفي 13 فبراير 1933، شن الفرنسيون هجوماً كبيراً على قبائل أيت عطا بقوات ضخمة. لجأ المقاومون إلى قمة بوگافر بجبل صغرو، موقع استراتيجي وحصين، واستمرت المعركة الشرسة شهراً واثني عشر يوماً، من 13 فبراير إلى 25 مارس 1933. ورغم التفوق العسكري الكاسح للفرنسيين، عجزوا عن اختراق صفوف المقاومين الذين أبدوا شجاعة وبسالة مذهلة. وتراجعت القوات الفرنسية خائبة، ما دفع الجنرال "هوري"، القائد العام للقوات الفرنسية، إلى استدعاء الجنرالين "كاترو" و"جيرو" وتولي القيادة الميدانية بنفسه، مستخدماً المدفعية والطيران بكثافة لمحاولة كسر إرادة المقاومين.
ورغم الحصار الشديد وإغلاق كل الممرات، ظلت عزيمة المقاومين صلبة، متمسكين بالدفاع عن كرامة المغرب. ولجأ الفرنسيون إلى سياسة الأرض المحروقة، مستهدفين المداشر والدواوير لتجويع المدنيين من نساء وأطفال وشيوخ. واستمر هذا الحصار 22 يوماً، مما أدى إلى وفاة عدد كبير من المدنيين العزل، وتصاعد الوضع حتى اضطر الفرنسيون إلى الدخول في مفاوضات مع القبائل الثائرة. وفي 24 مارس 1933، تم توقيع اتفاقية "سلم الشجعان"، والتي تضمنت:
- الخضوع لسلطة المخزن المغربي.
- إنهاء سلطة الكَلاوي على أراضي أيت عطا.
- عدم نزع أسلحة المقاومين.
- إلغاء تشغيل السكان في أعمال السخرة.
- توقف الفرنسيين عن إهانة القبائل واستدعاء النساء للغناء في المناسبات الرسمية.
خاتمة
في معركة بو غافر في 28 فبراير 1933، قاتل جنود الشركات الخيالة من الأفواج الأجنبية الأول والثاني والثالث في ظروف صعبة للغاية، وحققوا مآثر حقيقية في تسلق الصخور، تحت نيران العدو المكثفة.
ورغم كل شيء، واصل الفيلق صد العدو والتقدم كلما سنحت له الفرصة، جامعاً بين الشجاعة والحذر اللذين يشكلان صفات كلاسيكية للجنود الحقيقيين. ورغم ذلك، كان المتمردون متفوقين عددياً ومحصنين بشكل كامل، وبالتالي ظلت جبال بو غافر، معقلهم الأخير، غير قابلة للهزيمة.
كانت خسائر الفيلق مرتفعة للغاية في ذلك اليوم: قُتل ما لا يقل عن 32 رجلاً، بما في ذلك الكابتن بول فوشو (قائد سرية الخيالة الثالثة في REI)، والملازم إميل برينكلي ، والمساعد ميخالوفيتش ، والرقيب بيترز ، والرقباء أنيلي ، وأوغستين ، وهوليندورف ، وجيروفيك ، وكرامر ، ولاي ، وستيفنهاجن ، ووارمر . كما أصيب العديد من الرجال بجروح.
ورغم أنه لم يكن جندياً في الفيلق، فلابد أن نذكر أيضاً الكابتن الأسطوري هنري دو بورنازيل ، الذي كان من بين القتلى في معركة بو غافر، والذي جعل موته هذه المعركة مشهورة في مختلف أنحاء الإمبراطورية الفرنسية. ووفقاً للمغاربة، كان لقائدهم خصوصية في إرجاع رصاصات أولئك الذين تجرأوا على توجيهها إليه. ولكن في 28 فبراير/شباط 1933، وبموجب الأمر الرسمي لرئيسه، لم يرتد الكابتن دو بورنازيل سترته الحمراء الشهيرة. وأصيب بجروح قاتلة وتركه رجاله في حالة من الذعر. وبالتالي، كان على الفيلق أن يهاجم ويستعيد جثته. وسنقتبس هنا الشهادة المؤثرة التي أدلى بها في ذلك الوقت الكابتن بونيه من مشاة المستعمرات:
"فجأة سقط بورنازيل، وأثار انهياره الذعر بين الثوار والغوميين. ثم نرى الفيلق ـ هذا الفيلق الرائع الذي يتعب فيه المرء ويموت فيه بقلب طيب ويدا بيد ـ يتقدم ببطء وهدوء وحزم، وبخطوات ثابتة ومنتظمة. وعلى مد البصر نرى القبعات الكاكي؛ وهي تتقدم في ترتيب مثالي، وكأنها في تمرين رياضي. يتقدم الرجال، مغبرين، مليئين بالدماء، محطمين ولكنهم متألقين، وصدورهم مفتوحة، وبرق في عيونهم، وفكوكهم مشدودة. ينهمر عليهم وابل من الرصاص يحفر أخاديد مروعة. ولكن ما أهمية هذا! تدخل الدوامة الحية المعركة الدموية وتصل إلى المكان الذي سقط فيه القائد المجيد للتو".
بعد المعركة، غيّر الجنرال هوري الاستراتيجية الفرنسية ونظم حصارًا صارمًا لقلعة بو غافر بهدف تجويع المدافعين عن هذه القلعة الطبيعية. وبعد عدة أسابيع، وافق المتمردون على الاستسلام. ونزلوا من عش النسر لتسليم أنفسهم للقوات الفرنسية. وقد قدم زعيمهم، هاسو أو بسلام (يُكتب أيضًا أسو أو بسلام )، نفسه للجنرال هوري واستسلم في 25 مارس.
ومع ذلك، نجح بعض العناصر المتمردة المتشددة في كسر الحصار. فقد وجدهم الفيلق في جبال الأطلس الكبير خلال صيف عام 1933، وأجبروهم على الاستسلام بعد القتال العنيف في أغبالو في نهاية الصيف.
وأخيرا، في أوائل عام 1934، انطلقت عملية آلية في جنوب المغرب ـ وهي الأولى من نوعها التي نفذها الجيش الفرنسي، بمشاركة رئيسية من أربع وحدات من الفيلق الأجنبي. وكانت العملية ناجحة، وكانت بمثابة نهاية عملية إحلال السلام في المغرب. وبهذا انتهت إحدى فصول التاريخ.
وفي أعقاب المعركة، تم إزاحة الستار عن نصب تذكاري في بو غافر، تخليداً لذكرى الرجال الذين سقطوا من قوات العمل الفرنسية.
كانت معركة بوگافر رمزاً لرفع معنويات المقاومة المغربية، إذ تكبدت القوات الفرنسية خسائر فادحة على يد مجموعة صغيرة من المقاومين الذين واجهوا الجيش الفرنسي المدجج بالمدفعية والدبابات والطائرات، دون أن يمتلكوا سوى عزيمتهم. وأسفرت المعركة عن مقتل 3500 جندي فرنسي، بينهم القبطان "هنري ديليسبيناس دو بورنازيل" وعشرة ضباط آخرين، فيما ارتقى من صفوف المجاهدين 1300 شهيد، وسقط من المدنيين العزل نحو 4000 ضحية، معظمهم من الأطفال والشيوخ والنساء.
مصادر المعلومات الرئيسية : مجلات
Képi blanc
Jacques Hortes: Les Compagnies montées de la Légion étrangère (Editions Gandini, 2001)
Pierre Montagnon: Histoire de la Légion (Pygmalion, 1999)
P. Cart-Tanneur & Tibor Szecsko: Le 3ème Etranger (Editions eFm) ، 1988)
Google.com
Wikipedia.org
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.