مظاهر التغلغل الإيراني بالمملكة المغربية (2)
السبت 5 ماي 2018 - 22:31
لقد حاولنا، من خلال المقالة السابقة، بسط أهم آليات الاستقطاب والانتشار التي ينهجها الذراع الإيراني بالمنطقة من أجل توسيع قاعدة النفوذ الشيعي وضمان ولاء عدد كبير من الأتباع في أفق التوفر على قاعدة مادية عريضة قادرة على أن تشكل أداة ضغط على المدى البعيد وفرض تواجدها على الدولة المغربية كمقدمة لأهداف إستراتيجية لم تعد خافية على المتتبع للأهداف السياسية التوسعية لطهران.
وفي اعتقادنا، لم تكن إستراتيجية “تصدير الثورة” التي تبناها نظام الملالي في إيران إلا واجهة لامعة لأهداف إستراتيجية، نرى أنها خبيثة، ومرتبطة أساسا بمحاولة تصدير المذهب الجعفري عن طريق زرع خلايا صفوية بالمملكة المغربية ودعمها بالمال والتوجيه اللازمين من أجل تسهيل إستراتيجية الانتشار الجماهيري والاختراق المؤسساتي في ما يشبه التكتيكات الإخوانية للوصول إلى الحكم.
وتعتمد هذه الإستراتيجية، في المجمل، على محاولة الانتشار البطيء لأتباع المذهب الجعفري، والذين غالبا ما يتم استقطابهم، كما رأينا، أثناء زيارتهم إلى أوروبا أو إحدى دول الخليج أو عن طريق منظومة وسائط التواصل الاجتماعي، إذ ينهمك هؤلاء “الأتباع” على اختيار “أهدافهم” بدقة متناهية، لتبدأ بعدها مهمة البرمجة الفكرية عن طريق طرح أسئلة محرجة تجد للأسف الشديد مبرراتها الفقهية في بعض كتب التراث التي أرخت لمرحلة الفتنة وما بعدها، خصوصا في روايات “الطبري” وكتاب “أنساب الأشراف” للبلاذري المعروف بانحيازه للأطروحة الشيعية، دون أن نغفل كتاب “الفتنة الكبرى” لطه حسين، والذي رغم أنه حاول مقاربة حقبة الفتنة مقاربة موضوعية يغلب عليها البعد الأنثروبولوجي في التعاطي والتحليل إلا أننا نستشعر ميولا، غير مبرر، للتنقيص من جميع الخلفاء الراشدين باستثناء الخليفة عليّ بن أبي طالب تارة بالتلميح وتارة بالتصريح.
وهنا نسجل الجهد الكبير الذي يبذله الشيعة في تصدير فكرهم، وبأساليب جذابة ومغرية، ما يسهل عملية “الاختراق”؛ فضلا عن تعلق المغاربة الخاص بآل البيت النبوي الشريف، والذي يشكل عاملا مساعداً في عملية “الاستقطاب والتجنيد”.
في سياق آخر، ومن خلال تحليل خطاب أتباع الأطروحة الإيرانية في المغرب، نرصد تكتيكا آخر ضمن إستراتيجية الاختراق والانتشار التي يعتمدها أتباع المذهب الجعفري في المملكة المغربية، والذي يَكمن في محاولات (لازالت في بداياتها) لربط تحالفات مع السلطة الحاكمة ومحاولة كسب ودها وتعاطفها والظهور بمظهر الحليف الإستراتيجي الذي يُمكن التعويل عليه في ظروف الأزمة.
وهنا نسجل بعض الخرجات لبعض رموز هذا التيار، وعلى رأسهم ادريس هاني، أحد أهم رموز التيار الشيعي الشيرازي في المغرب، والذي ما فتئ يرسل خطابات طمأنة لمن يهمه الأمر، والتأكيد على أن الانتماء المذهبي لا يعني بالأساس القطع مع رابطة المواطنة التي يحاولون التظاهر بالتمسك بها في ظل القرائن القوية على ارتباطه بالمشروع الصفوي الإيراني عقيدة وانتماء.
إن المعطيات التي قمنا بالتأصيل لها والقرائن على الأرض تشير إلى تحركات مشبوهة لبعض المتشيعين المغاربة، في محاولة منهم للانتقال بمشروعهم من العشوائية إلى التنظيم، ومن الدعوة الفردية إلى التحرك الجماعي المنظم، في ظل صمت شبه مطلق لباقي التيارات الدينية السنية. وإن كنا نتفهم صمت تيار الإسلام السياسي في المغرب بالنظر إلى التقاطعات الكبرى بين المشروعين، والتي تقطع بإمكانية وجود تنسيق، حالي أو مستقبلي، بين التيارين في أفق اقتسام مستقبلي للسلطة.
على هذا المستوى من التحليل، تعقب مرحلة الانتشار الجماهيري والاختراق المؤسساتي مرحلة التنظيم الهيكلي من خلال المطالبة بالنشاط العلني من خلال هيئات سياسية أو جمعوية في ظل ضعف الخطاب الديني السني الرائج، وعدم قوته، خاصة مع التطور التكنولوجي والانفتاح الإعلامي الذي استغله بشكل واسع أتباع المشروع الإيراني، لاستغلال بعض الأفكار “الشاذة” للمحسوبين على التيار “التكفيري”، والركوب عليها لتنفير بعض الشباب من الأطروحة السلفية التقليدية أو العلمية.
هذه المطالبات أصبحت تؤتي أكلها رغم تحفظات مصالح وزارة الداخلية، وذلك من خلال النشاط شبه القانوني الذي استطاع الخط الرسالي الحصول عليه، كما أشرنا إلى ذلك أعلاه، من خلال اللجوء إلى القضاء المغربي، والذي ربما سقط في سوء تقدير الآثار السياسية والأمنية لمثل هذا القرار القضائي.
1- الأزمات الداخلية: حصان طروادة للاختراق والانتشار
إذا كانت التنظيمات الإرهابية وتيارات الإسلام السياسي ترى في الأزمات الداخلية والهزات الاجتماعية فُرصا تاريخية، تعمل على استغلالها لإيجاد موطئ قدم في الدول التي تعصف بها هذه الأزمات، من خلال، من جهة، محاولة التنظيمات الإرهابية خلق حالة من “التوحش” وإدارتها بالشكل الذي يسمح لها بالوصول إلى ما يُصطلح عليه في أدبياتها بمرحلة “التمكين”، ومن جهة أخرى، محاولة تيار الإخوان المسلمين الركوب على حالة الانفلات والأزمات الداخلية قصد توجيهها، ولو ديمقراطيا، قصد الوصول إلى السلطة، فإن التيار الشيعي، في شقه السياسي، لا يألو جهدا في استغلال حالة الانفلات الأمني و”الحراك الاجتماعي” لإيجاد موطئ قدم لأتباعه يسمح لهم بالانبعاث والظهور وفرض تواجدهم بالأساليب والوسائل التي تسمح بها السياقات الإستراتيجية لكل دولة على حدة.
هذا الضلع الخطير من أضلاع الإستراتيجية الإيرانية يبحث دائما عن محاولة الركوب على الأزمات الداخلية ومحاولة إذكائها وتمويلها وتوجيهها، وهنا نجده يتقاطع، تكتيكيا، مع إستراتيجية التنظيمات التكفيرية، من خلال استغلال حالة “النكاية والإنهاك” التي توقعها التنظيمات التكفيرية ببعض الدول “المُنهكة” (الصومال، إيريتريا، لبنان، سوريا) من أجل إيجاد موطئ قدم لها في هذه الدول المستهدفة. وهنا سجلنا، بقلق كبير، التحرك الشيعي الملفت للنظر إبان ما اصطلح عليه بـ”حراك الريف”، حيث وقفنا على خرجات متكررة لشيوخ شيعة، محسوبين على الأجندة الإيرانية، لمحاولة الركوب على حركية الشارع الريفي، والذي اقتصرت مطالبه على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية دون أن تتعداها إلى مطالب انفصالية أو سياسية واضحة.
في هذا الصدد، سجلنا، من خلال متابعتنا لأطوار محاكمات ما عُرف بـ”حراك الريف”، وقوف النيابة العامة المغربية على مجموعة من مقاطع الفيديو لشيوخ شيعة احتوتها ذاكرات الهواتف النقالة لمجموعة من قادة الحراك، وكان مضمونها يتمحور حول تجييش وتشجيع بعض ساكنة المنطقة على الاستمرار في الاحتجاج، وكذا مقاطع فيديو خاصة بما يقع في الساحتين السورية والليبية، والعمل على ترويجها على أساس أنها خاصة بمنطقة الحسيمة، من أجل خلق ردات فعل عنيفة تجاه عناصر قوات الشرطة والدرك في تكتيك لا يختلف عن تحركات التيار الإخواني في مصر إبان ثورة الشعب المصري في 30 يونيو 2013.
2- بعض معالم إستراتيجية المواجهة:
إن رسم معالم إستراتيجية المواجهة ينطلق من قراءة ذكية لمحددات البيئة الإستراتيجية المغربية، والتي حاولنا التركيز على أهم محدداتها وسياقاتها، والتي سمحت، إلى حد ما، بتسرب عناصر موالية لإيران هدفها، ليس فقط نشر الفكر الجعفري، على اعتبار أن نشر الأفكار لا يعتمد بالضرورة على كيانات تنظيمية من داخل الدول، ولكن الهدف الرئيسي يبقى هو العمل على المدى البعيد لخلق كيانات تابعة عقديا وسياسيا للمنظومة السياسية/الدينية للولي الفقيه، والتي تبقى طهران عاصمتها السياسية وقم عاصمتها الروحية.
في هذا السياق يُفترض في صانع القرار السياسي المغربي أن يكون حاسما على هذا المستوى من خلال رفض تأسيس أي تيار سياسي أو تنظيم جمعوي على أساس ديني، سواء أكان يمثل التيار الشيعي أو السني، على اعتبار أن الشأن الديني يبقى من الاختصاصات الحصرية والسيادية لإمارة المؤمنين التي تجسدها المؤسسة الملكية بالمغرب.
من جانب آخر فإن وجود تنظيمات موالية للأطروحة الإيرانية سيخلق، لا محالة، جوا من الاحتقان الطائفي، والذي أدى بالعديد من الدول إلى السقوط في فخ التطاحن الطائفي (العراق ولبنان والبحرين)، ما يشكل تهديدا جدّيا للأمن القومي المغربي.
على المستوى الفكري والإيديولوجي يعتمد تكتيك المواجهة على التركيز على بعض “سقطات” الخطاب السني، والذي، وللأسف الشديد، تحفل به بعض كتب التراث، من أجل وصف الدول العربية والسنية على أنها دول حاضنة ومصدرة للفكر الجهادي المتطرف في مقابل المذهب الإمامي الاثنى عشري، والذي تحاول طهران أن تقدمه على أنه خطاب المسالمة والموادعة والمظلومية. هذا الضلع من المواجهة يفترض التحلي بالشجاعة الدينية والتاريخية للوقوف على بعض مكامن الخلل في البناءات الفقهية التي ساهمت في التأسيس لبيئة حاضنة ومصدرة للفكر الجهادي المتطرف.
في المقابل وجب فتح نقاش حازم وجاد حول حقيقة المشروع الإيراني بالمنطقة من خلال فضح الأطروحة السياسية والتوسعية لحكماء الدولة الإيرانية، مع العمل على كشف حقيقة المذهب السياسي للمنظومة العقدية لـ”ولاية الفقيه”، والتي تروم الانتشار والتواجد على مستوى جميع الدول العربية والإسلامية على خط طنجة جاكرتا، من أجل خلق كيانات سياسية تابعة لإيران وتحقيق حلم حياة مؤسس الدولة الصفوية اسماعيل باشا الصفوي (1501/1524).
وفي سياق ما تم طرحه يمكن القول إن المملكة المغربية مطالبة بإعادة تقويم إستراتيجية المواجهة من أجل تحصين الحقل الديني والبناء المجتمعي المغربي، مع العمل على التنسيق مع الدول العربية لبسط إستراتيجية موحدة تروم القضاء على أنشطة هذا التيار الديني/السياسي، والذي يهدف، كما رأينا، إلى خلق كيانات سياسية ملحقة للنظام الملالي بإيران.
وفي انتظار الإنهاك المادي المحتوم لإيران، بحكم مسؤوليتها عن التمدد السياسي وتبعاته الاقتصادية، إذ عليها أن تخصص فائضا ماليا هائلا لأذرعها السياسية والعسكرية وتنظيماتها الموالية لها، تبقى على الدول العربية مواصلة الضغط على إيران وفضحها سياسيا وإيديولوجيا والعمل على الرد الميداني والحازم على كل المخططات التوسعية والهيمنية لطهران، خصوصا في الدول التي تمتلك فيها إيران أذرعا عسكرية (حزب الله، ميليشيا الحوثي، الحشد الشعبي….)، ما سيساعد على إفشال المشروع الإيراني بالمملكة المغربية.
كل هذه الخطوات الإستراتيجية يجب أن تُواكبها خطة دينية محكمة تروم بالأساس فضح “بعض” السقطات العقدية التي يقوم عليها المذهب الجعفري، وما تحفل به أمات الكتب المعتمدة عند أصحاب هذا المذهب، وخصوصا الكتب المرجعية الأربعة: الكافي للكليني والتهذيب والاستبصار لشيخ الطائفة الطوسي، ثم كتاب “من لا يحضره الفقيه” لابن بابويه القمي. هذه الكتب المرجعية تحفل بتكفير المسلمين السنة واستحلال دمائهم وتكفير الصحابة الكرام واعتبار القرآن الكريم محرفا، والقذف في أعراض أمهات المؤمنين، وغيرها من الترهات العقدية التي بنى عليها نظامي الملالي حربه العقدية في مواجهة باقي الدول العربية السنية.
معطى أخير نرى أن من شأنه الضغط على إيران للعدول عن مخططاتها التوسعية في الدول العربية والإسلامية مرتبط، أساسا، بالحراك الشعبي الذي هز إيران في الفترة الماضية، والذي وصل إلى حد المطالبة بسقوط النظام الإيراني بعدما تم اتهامه بالتورط في أجندة توسعية على حساب الوضع الداخلي الذي أصبح يعاني من هشاشة اجتماعية وضعف اقتصادي من جراء الإنهاك الذي تتعرض له إيران بحكم تدخلها ودعمها لأذرعها العسكرية والسياسية في العديد من الدول.
هذا المعطى دفع الإيرانيين إلى رفع شعارات جد معبرة من قبيل “إيران قبل لبنان” و”إيران للإيرانيين”.. وكلها شعارات ستدفع، لا محالة، صانع القرار السياسي الإيراني إلى تخفيف الدعم الخارجي لأذرعه الموازية في مقابل التركيز على الجبهة الداخلية والاستجابة لمطالب الشعب الإيراني، والذي يبدو أن لم يعد يتحمل السياسة الاستنزافية لحكامه على حساب مستقبله ولقمة عيشه.
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.