أخر الاخبار

مدينة "شالة".. ذاكرة حضارات المغرب

 

تعاقبت عليها حضارات الرومان والفينقيين والعرب

فيما مضى كانت مدينة عامرة تعاقبت عليها حضارات الرومان والفينيقيين والوندال (إحدى القبائل التي حكمت المغرب قديمًا) والمورسكيين، واليوم صارت مقبرة تأوي أضرحة ملوك تعاقبوا على حكم المغرب.

إنها مدينة "شالة" الأثرية (جنوب العاصمة المغربية الرباط) وإن هجرها أهلها الذين أقاموا فيها في حقب تاريخية مختلفة، لكن أسوارها وحدائقها وما تبقى من بناياتها التاريخية ما زالت تحفظ ذاكرتهم وذكراهم.

ويعود بناء "شالة" إلى القرن السادس قبل الميلاد، وتعد من بين أقدم المواقع الأثرية في المغرب، وشاهدًا تاريخيًّا على تعاقب حضارات مختلفة على بلاد المغرب الأقصى، حيث أقامها الفينيقيون بداية كمركز تجاري على شواطئ المحيط الأطلسي، وفي القرن الثالث الميلادي استوطنها التجار الرومان وكانت مرفأ ترسو على ضفافه مراكبهم التجارية.

على جدران قلعتها وعلى أسوارها، يتبدى تعاقب الثقافات على هذه الحاضرة الغابرة "شالة".. أقواس رومانية ونقوش تعود لزمن المرابطين.. ومسجد "يمنارة" بفسيفساء أندلسية وبباحة فسيحة وحديقة سامقة الأشجار بناه الملوك المرينيون (نسبة إلى بني مرين الذين حكموا بلاد المغرب العربي في المدة من 1244 – 1465م)، والذين اختاروا لهذه المدينة التاريخية أن تكون مستقرهم الأخير.. وفيها دفنوا وأقاموا "مقبرة الشرفاء".

"شالة"، المشرفة على نهر "أبي رقراق" والمطلة على مصبه إلى المحيط الأطلسي، تتزين بمنارة مسجدها وبجواره مدرسة عتيقة كان يتلقى فيها أهل العلم الدروس، ففيها كان يختلي الشعراء والأدباء لتدوين إبداعاتهم، فرباها المجاورة لنهر "أبي رقراق" وخضرة أرضها كانت مصدر إلهامهم وعنها نظموا قصائد وأشعارًا.

وعلى أطلال الرومان والفينيق، وآثار خلفها من عبروا هذه المدينة الأثرية من مماليك حكمت المغرب الأقصى لفترات مختلفة، أعاد ملوك الدولة المرينية لـ"شالة" تألقها، وفيها أقاموا حديقة على الطراز الإسلامي الأندلسي فالمدينة سجلت تاريخ كل من مروا على أرضها بداية بالفينيق وحتى المورسكيين (المسلمون الذين ظلوا بإسبانيا بعد سقوط الأندلس) التي قدموا إليها وإلى جارتها "الرباط" لاجئين بعد سقوط دولتهم.

والجائل في مآثر "شالة" ستبسط له هذه المدينة ما تكتنزه من تحف آثرية دون أن تنسب لنفسها الانتماء إلى أي ثقافة غير الثقافة الإنسانية.

فهناك مسجد "أبو يوسف يعقوب" الذي أقامه هذا الأمير المغربي على أنقاض بناية رومانية قديمة، وهناك من يقصد حوض الحوريات" المليء بأسماك "النون".

وحوض الحوريات ملىء بالأساطير التاريخية والحكايات التي تضفي عليه طابعًا مقدسًا، ففي صدر كل زائر أمنية يتمنى أن تتحقق، ويكفيه على ما تقول الخرافة أن إلقاء قطعة معدنية والهمس صادقًا قد يحقق مراده.

وقبل أن يقيم المرابطون حصن "رباط الفتح" (الموقع الاستراتيجي للدفاع عن واجهة المغرب على المحيط الأطلسي ضد غزوات المعتدين والذي اتخذت منه العاصمة المغربية لقبها) بنيت مدينة شالة.

ولم تطغ الشهرة التي اكتسبتها الرباط في حقب تاريخية لاحقة من شهرة وتأثير "شالة" التي لا تزال تحتفظ بشواهد تاريخية تؤكد أنها كانت موطأ القدم الأولى لمن قدموا بحرًا إلى المغرب وعمروا أرضه وتركوا عليها بعضًا من آثارهم.


الفترة الفينيقية
ترجع العهود الأولى لموقع شالة إلى الفترة الفينيقية، أي القرن السابع أو السادس قبل الميلاد، وكان موقعها الإستراتيجي بين النهر والبحر (أبي رقراق، والمحيط الأطلسي) دافعا أساسيا لتشييد المدينة وإعمارها، لتربط بين مدينتي ليكسوس (العرائش) وموكادور (الصويرة).

يعود أقدم تاريخ مسجل لشالة إلى العصر الفينيقي ، لكن الرومان هم من تركوا بصمة دائمة على هذا الموقع. سيطروا على مدينة شالة حوالي العام 40 ميلاديًا وقاموا ببناء هياكل رائعة بما في ذلك مسجد ومقبرة. ومع ذلك ، ظلت شالة مهجورة لعدة قرون حتى القرن الرابع عشر ، عندما بنى السلطان المريني أبو الحسن مقبرة فوق الموقع الروماني.

جزء من تمثال روماني في مدينة شالة المغربية (الجزيرة)
جزء من تمثال روماني في مدينة شالة المغربية (الجزيرة)

وبعد الفينيقيين، صارت شالة عاصمة القرطاجيين، وبلغت شأوا أيام الرومان وتضاءلت أهميتها زمن الوندال، ثم استعادت مجدها على طول العهد البيزنطي والقوطي.

وفتح عقبة بن نافع المدينة أيام خلافة يزيد بن معاوية عام 62 للهجرة، فاعتنق أهلها الإسلام ثم ما لبثوا أن ارتدوا إلى المسيحية، وتكرر الحال عندما فتحها مرة ثانية موسى بن نصير سنة 90 للهجرة في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، إلى أن دخلها المولى إدريس مؤسس أول دولة إسلامية مستقلة في المغرب الأقصى سنة 172 هجرية (القرن الثامن الميلادي).

يقول هشام الأحرش المهتم بتاريخ الرباط -للجزيرة نت- إن حدود مدينة شالة خلال الفترة الرومانية ما زالت مجهولة إلى الآن، وتتجاوز حدود الأسوار المحيطة بها التي بنيت خلال حكم الدولة المرينية للمغرب في القرن الثالث عشر الميلادي.

 

حفريات تكشف الأسرار
تركت كل حضارة بصمتها في المدينة، وخلفت آثارا ظلت مخبوءة تحت الأرض لقرون، إلى أن أماطت اللثام عنها الحفريات التي أجريت بداية القرن العشرين.

وكانت أولى تلك الحفريات عام 1929 تحت إشراف العالم بوريللي والأميرة المصرية خديجة شقيقة الملك فاروق، وقلبت هذه الحفريات -يقول الأحرش- المعتقدات السائدة حول ما اعتبر مسجدا تاريخيا، ليتم تعريفه بعد تلك الحفريات بوصفه مدرسة بناها أبو سعيد عثمان المريني.

 

واستمرت الحفريات في الثلاثينيات والخمسينيات، لتكشف عن معالم مدينة رومانية متكاملة تتكون من حمام وساحة (الفوروم) و مبنى البازيليكا (المحكمة) وقوس النصر والحي الحرفي ومعبد وأقواس ضخمة وتماثيل.

غير أن أهم الحفريات في الموقع كانت تلك التي أشرف عليها العالم المصري عثمان عثمان إسماعيل نهاية الخمسينيات، وضمنها في كتابه "تاريخ شالة الإسلامية"، وهو أول مؤلف بالعربية عن تاريخ مدينة أثرية مغربية عريقة.

آثار حمام روماني في مدينة شالة (الجزيرة)
آثار حمام روماني في مدينة شالة (الجزيرة)

وأثرت حفريات عثمان عثمان المعارف التاريخية حول المرينيين، إذ كشفت عن معالم ظلت مطمورة تحت الأرض مثل المسجد الإدريسي الذي بني على أنقاضه المسجد المريني، وقبور الملوك المرينيين وزوجاتهم، وقبور شهداء طريفة الذين استشهدوا في إحدى المعارك التي خاضها المرينيون في مواجهة المسيحيين بالأندلس.

وما زال موقع شالة الأثري يختزن الكثير من الأسرار، إذ تظل الفترة ما بين بداية القرن الخامس ونهاية القرن الثالث عشر الميلادي مرحلة غامضة قد تكشف الحفريات المقبلة عن بعض خباياها.


تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -