مصطفى متشوق.. مجرم حبس أنفاس البيضاويين في السبعينات
ساد الخوف مدينة الدار البيضاء مع انتشار أنباء عن مجرم سيئ السمعة اسمه مصطفى متشوق في جميع أنحاء المنطقة. عُرف باسم "جزار الدار البيضاء" ، وأصبح اسمه مرادفًا للقتل والإرهاب. ما جعله مرعبًا بشكل خاص هو حقيقة أن ضحاياه كانوا في الغالب من الأطفال.
انتشر خبر جزار الدار البيضاء كالنار في الهشيم ، مما تسبب في حالة من الذعر وعدم الارتياح بين سكان المدينة. كان الخوف يسود العائلات ، ويتخذون احتياطات إضافية لحمايتهم، وأصبحت الأسر البيضاوية تحكم رقابتها على الأبناء والبنات وتصر على مرافقتهم إلى المدارس، بل منهم من نال عطلة استثنائية إلى حين انتهاء شبح متشوق، أما الترخيص للأطفال باللعب فأصبح من سابع المستحيلات، لوجود شخص يتربص بالأبرياء ويعمل على تدبير مخططات جهنمية لخطفهم واغتصابهم ثم قتلهم في أبشع الصور، دون أن تتمكن السلطات الأمنية من القبض على هذا السفاح.
كان متشوق يكسب ثقة الأطفال عن طريق إيهامهم بتدبير عمل لهم، وأحيانا يقدم لهم عرضا سرعان ما يرتمون فيه، وحين يسقطون في شباكه يعتقلهم ويطالب أولياء أمورهم بفدية مالية، لكنه غالبا ما ينال الفدية ويجهز على الضحايا، حيث كان يرمي أغلبهم في بئر مهجورة بضواحي سيدي عبد الرحمان قرب البحر. جعل هذا السفاح الأرق يفتك بالمسؤولين الأمنيين في العاصمة الاقتصادية، بل وأصبح انفلاته مثل الزئبق من دوريات الأمن صك اتهام ضدهم، فتولدت الإشاعات، ورسمت له المخيلة الشعبية بطولات مستفزة للمشاعر.
كان يترصد ضحاياه ويختارهم بعناية، كما كان يضع مخططاته بعناية أيضا، حتى أنه كان يرافق ضحاياه قبل الإجهاز عليهم إلى محل للتصوير، ويأخذ لهم صورا يرسلها إلى عائلاتهم. أما طريقة القتل فكانت تتم بالأسلوب نفسه «الخنق بواسطة ربطة عنق».
تقول بعض الروايات إن المحكمة الإقليمية بمكناس سبق أن حكمت في الرابع من شهر مارس من سنة 1975، على مصطفى متشوق بالإعدام غيابيا، فيما كان هو قد رسم المعالم الأولى لإرهاب آخر في الدار البيضاء. وفي أحد أيام نونبر 1978، عثر على جثة طفل قبل أن تظهر مشاهد مماثلة في أماكن أخرى من المدينة، قبل أن يوضع كمين أطاح بالسفاح.
انطلقت محاكمة متشوق بالقاعة الأولى بالمحكمة الإقليمية بالدار البيضاء، وسط حضور جماهيري كثيف وإنزال أمني كبير. بدا السفاح المعتقل بالسجن المدني بالدار البيضاء تحت عدد 69.998، والرئيس ينادي عليه، رابط الجأش، ذكيا ومراوغا. وفي مساء يوم الجمعة 24 فبراير 1978، أصدرت غرفة الجنايات التابعة لمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء، حكمها في قضية «ارتكاب جرائم القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد في حق أبرياء وقاصرين، تكوين عصابة مجرمين، ارتكاب اختطافات مع نيل فديات مالية، قتل القاصرين المختطفين، محاولة قتل شرطي ورجل تابع للقوات المساعدة، السرقة الموصوفة، استعمال السلاح، المس بعرض قاصرين بالعنف، إخفاء الجثث»، ونطق القاضي مستور بحكم الإعدام.
مساء يوم الجمعة، 24 فبراير 1978، وبحضور جماهير غفيرة، أصدرت غرفة الجنايات في المحكمة الاستئناف في الدار البيضاء حكمَها الأقصى
في قضية مصطفى متشوق وبوشعيب الزيناني. قاتلان تسلسليان نُفذ فيهما حكم الإعدام وكانا بذلك آخر من نُفذت فيهما هذه العقوبة قبل أن تعود لتنفَّذ في العميد الممتاز محمد مصطفى ثابت ويصبح بذلك آخر من أعدم فعلا في المغرب.
قتل واغتصاب بالجملة
توبع مصطفى متشوق وبوشعيب الزيناني أمام المحكمة باعتبارهما شريكيْن، لكن أخطرهما لم يكن سوى متشوق، الذي ثبت في حقه قتل 7 أشخاص والاعتداء على أكثر من 400 طفل ما بين سنتي 1970 و1977...
ارتكاب جرائم القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد في حق أبرياء وقاصرين، تكوين عصابة مجرمين، ارتكاب اختطافات مع نيل فديات مالية، قتل القاصرين المختطفين، محاولة قتل شرطي ورجل تابع للقوات المساعدة، السرقة الموصوفة، استعمال السلاح، المس بعرض قاصرين بالعنف، إخفاء الجثث.... هذه هي التهم التي تابعت بها النيابة العامة سفّاحَيْ الأطفال متشوق وصديقه الزيناني، وهما شخصان مثليا الجنس ومهووسان ارتكبا جرائم بشعة لم يطلب ذوو حقوق ضحاياها غير القصاص من الجانيين، إلى درجة أن دفاع الطرف المدني لوليَّيْ أمر الطفلين عبد الرحيم صابر ومحمد الشدادي لم يطلب غير «سنتيم» رمزي!.
اعترف مصطفى متشوق في المحكمة بما نُسِب إليه هو وشريكه بوشعيب الزيناني، وحكى أمام المحكمة كيف «استلهم» ما اقترفت يمينه من فيلم شاهده (مع صديقه دائما) سنة 1977 في سينما «المامونية» في الدار البيضاء ويحكي قصة اختطاف طفل من طرف عصابة مختصة في تهريب المخدرات، لابتزاز والده، ضابط الشرطة، من أجل إطلاق سراح أعضاء العصابة الموقوفين... هكذا جاءت فكرة اختطاف الأطفال وطلب فديات مالية من أولياء أمورهم لكنْ ب»سيناريو» خاص وبشع: أولا يتم قتل الطفل في نفس يوم اختطافه، خوفا من انكشاف أثر المعتديَّيْن في حالة إطلاق سراحه، على أن يتم القتل خنقا، حتى لا تسيل الدماء، التي غالبا ما تفضح الجناة. ثانيا، يقومان برمي الجثة في بئر مهجورة وبعيدة عن الأنظار. وفي الأخير، يتم الاتصال بأسرة الطفل وطلب فدية مالية مع «بيعها» وهْم أن فلذة كبدها ما زال حيا يُرزق...
بعد وضع «السيناريو»، كان يتم تحديد المواقع، بداية بموقع البئر الذي كان يوجد في منطقة شاطئ سيدي عبد الرحمان في الدار البيضاء ومواقع الاختطافات التي كان متشوق متخصصا فيها، بحكم أنه نفَّذ مجموعة من عمليات اختطاف أطفال بعد استدراجهم. وانطلق تطبيق الخطة «الهوليوودية» في مارس سنة 1977، وكانت البداية بالطفل عبد الرحيم صابر، ثم بآخر أصغر منه هو محمد الشدادي.
طفلان في البئر
استدرج متشوق الطفل عبد الرحيم صابر من منطقة عين الشق، بعدما كسب ثقته في لقاء معه في اليوم السابق، بعدما ناداه باسمه وادعى أنه يعرف والده. فبناء على معلومات استجمعها من طفل آخر يدرس مع عبد الرحيم، نجح في استدراج الأخير، لكنَّ تفصيلا صغيرا نسيه متشوق، وهو الشاهدة التي رأته مع الطفل والتي لم تكن سوى ابنة عمه، والتي ستقدم أوصاف الجاني في ما بعد. كان الطفل قد أقنع قريبته بأنه يعرف الرجل ويريد فقط أن يدلَّه على محل والده ليستخلص منه دَيْناً...
بعد ذلك، نقلاه إلى مكان البئر ونزعا ثيابه وعصَّبا عينيه وخنقاه بربطة عنق جذب كل واحد منهما أحد طرفيها ورمياه في البئر. قتلا الطفل، إذن، وتخلصا من جثته ولم تتبقَّ إلا «مساومة» والده.
اتصل متشوق بوالد الطفل عدة مرات، ليخبره بأنه اختطف طفله ويطلب منه تسليمه فدية قدرها مليون سنتيم في حقيبة سيسلمها لطفل في مكان معلوم، وطبعا، أخبره بأن الصغير بحالة جيدة. وكان متشوق قد استدرج طفلا آخر ليساعده في هذه المهمة، بدعوى تشغيله في محل لميكانيك السيارات، على أن يتسلم من أحد الجمركيين قطع غيار مهرَّبة، ونجحت الخطة واستلم متشوق المال ولم يكتف بذلك، إذ عاد بعد أشهر ليطلب مبلغ 5000 درهم، لكن والد الضحية فطن إلى الأمر، بعدما طلب صورة حديثة لابنه من الجاني، ليتحول الأخير إلى وجهة أخرى.
مرت حوالي 7 أشهر على قتل الطفل الأول، حين استدرج متشوق الطفل محمد الشدادي، الذي لم يكن سنه يتجاوز خمس سنوات من «قيسارية الحفاري» في درب السلطان وفق نفس «السيناريو» تقريبا، باستثناء أن الطفل الثاني كان متكفَّلا به وعمل متشوق على أخذ صور للضحية قبل التخلص منها هذه المرة. خنق المجرمان الطفل حتى الموت، بواسطة ربطة العنق ذاتها، مع تركها مع الجثة ورميها في البئر ذاتها. استعمل متشوق طفلا آخر وتسلم فدية العشرة آلاف درهم من عمة الضحية...
سوابق بشعة
لم تكن جريمتا قتل الطفلين عبد الرحيم ومحمد وحدهما في سجله «الحافل»، الذي بدأه بالسرقة. فبعد طرده من الجيش، لعدم صلاحيته، «احترف» اللصوصية وكانت النتيجة الحكم عليه بثلاث سنوات سجنا نافذا في السجن الفلاحي «العدير» في الجديدة. خرج متشوق من السجن عازما على الإمعان في جرائمه، مع مغادرته مدينته الدار البيضاء وتغيير اسمه. استهدف الطفلات الصغيرات لانتزاع ما يحملن من أشياء ثمينة، متنقلا في عدة مدن مغربية. «لست سفاك دماء، كما تدعي الشرطة، فمنذ 1970، شرعتُ في اختطاف الأطفال، وهكذا استدرجت حوالي 400 فتاة صغيرة، تتراوح أعمارهن بين 9 و13 سنة وسلبت منهن أساورهن، فلو كنت سفاك دماء حقيقة، لقتلت على الأقل 50 طفلة من بينهن، لكنني لم أفعل ذلك»... هكذا قال متشوق أمام المحكمة، دون أن يرف له جفن.
تُكذِّب الوقائع متشوق ومن معه بالنسبة إلى القتل، ففي الوقت الذي أدانته وحكمت عليه محكمة مكناس غيابيا بالإعدام سنة 1975، كان قد تورط في مدينته الأصلية التي عاد إليها في عدة جرائم قتل. من بين جرائم القتل الثابتة على متشوق (ومن معه)، تصفية الطفلين عبد الغفور الغلاوي وحسن العوينة.
استدرج المجرم الطفل عبد الغفور في أكتوبر 1973، وأخذه من منطقة ابن امسيك إلى سيدي مسعود. بعد التحاق بوشعيب الزيناني، وبعد أن لعبت الخمرة برأسيهما، أخذا الطفل إلى ساحة مهجورة وحاولا الاعتداء عليه جنسيا. لم يخضع الطفل فأردياه قتيلا وتركا جثته ملقاة هناك.
أعاد مصطفى متشوق بعد ذلك نفس «القصة»، لكنْ مع شريك آخر من ذوي السوابق العدلية هو محمد المراكشي، الذي كان نزيلا معه في سجن «العدير». استدرج متشوق الطفل حسن العوينة من درب السلطان، بعد أن استغل حاجته لإعالة أسرته، رغم عدم تجاوز عمره ال14 سنة، بإيهامه بمساعدته على إيجاد عمل. وطبعا، بعد الوصول إلى ساحة مهجورة أخرى وتناول الخمر ومحاولة هتك العرض ورفض الطفل، استلَّ متشوق سكينه وطعنه عدة طعنات أفضت إلى وفاته وترك جثته مضرجة في دمائها...
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.