كما في مرحلة المخاض، عاشت كرة القدم المغربية طيلة السنوات العشر الماضية تحديات كبرى لإنجاح مجموعة من الأوراش وإصلاح المنظومة من كل الجوانب، على أمل الظفر بمولود جديد، يحمل اسم النجاح. الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، وامتثالا لتوجيهات رسالة الملك محمد السادس في مناظرة الصخيرات عام 2008، سخرت كل الإمكانيات التقنية واللوجستيكية والمادية من أجل تطوير كرة القدم المغربية، وفرض مكانتها في المشهد الرئيسي لكرة القدم قاريا وعالميا.
“الأسود”.. مسار ملهم في كأس العالم 2022
بصم المنتخب المغربي على مشاركة تاريخية في نهائيات كأس العالم 2022 في قطر، بقيادة المدرب وليد الركراكي “مول النية”، نتيجةً وأداء، ببلوغه مباراة نصف نهائي “المونديال”، كأول منتخب عربي وإفريقي يصل إلى المربع الذهبي، بعدما تصدر مجموعته التي ضمت كرواتيا (0-0) وبلجيكا (2-0) وكندا (2-1) بسبع نقاط، ليستمر تألق “أسود الأطلس” بفوز في دور ثمن النهائي على إسبانيا بركلات الترجيح (3-0)، ثم الفوز على البرتغال بهدف دون رد من رأسية يوسف نصيري في ربع النهائي، قبل أن تتوقف مغامرة “مؤديي سمفونية سير سير” في محطة نصف النهائي بهزيمة أمام فرنسا (0-2)، ليحتل زملاء “الكابتن” رومان سايس المركز الرابع بعد الخسارة أمام كرواتيا (1-2).
لورنز كوهلر، إعلامي جنوب إفريقي، اعتبر في تصريح لـ”هسبورت”، أن بلوغ المنتخب المغربي نصف نهائي كأس العالم 2022 في قطر لم يكن إنجاز الصدفة، وأن حدسه التقني يخبره بأن المشاركة التاريخية لـ”أسود الأطلس” ما هي إلا بداية رحلة مذهلة للكرة المغربية، مضيفا “انطلاقا من ما رأيته في المنتخب الأول للمغرب ومنتخبات الفئات السنية، فبالتأكيد هناك تطور كبير للكرة المغربية، ومن المرجح أن تهيمن على كرة القدم الإفريقية على مدى العقدين المقبلين بفضل استثمار المسؤولين في البنية التحتية.. أعتقد أنه باستثناء الدوري المحلي الاحترافي، الذي لا يزال أمامه طريق طويل لتحسين قطاع التسويق والبث التجاري وتجنب الجدل في عقود اللاعبين، فإن كل شيء في كرة القدم المغربية يسير في الطريق الصحيح”.
من جهته، اعتبر سيمو الادريسي، إطار وطني مغربي-أمريكي وباحث في الرياضة وعلم النفس الرياضي والتغذية، في تصريح لـ”هسبورت”، أن هناك مجموعة من الملاحظات حول طريقة تدبير الشأن الكروي في المغربي، من ناحية تحديد مفاهيم الإنجاز وأدواته، فضلا عن الرؤية الاقتصادية وربطها بأهداف مسطرة، مشيرا إلى أنه على الرغم من كل ذلك، فلا يمكن إنكار أن المنتخب المغربي اكتسب نضجا ذهنيا مهما، يترجم عملا كبيرا على هذا الجانب في السنوات الأخيرة.
أندية ومنتخبات.. أبرز الإنجازات في عقد من الزمن
تمكنت الأندية المغربية في السنوات العشر الأخيرة، من تحقيق تسعة ألقاب قارية، فضلا عن احتلالها مراكز متقدمة في مختلف المشاركات. وتوج الوداد الرياضي بلقبين في منافسات دوري أبطال إفريقيا في 2017 و2022، كما بلغ المباراة النهائية الشهيرة أمام الترجي لنسخة 2019، ثم نصف نهائي نسخ 2016 و2020 و2021، وربع نهائي دورة 2018.
وحققت الأندية المغربية أربعة ألقاب في كأس الكونفدرالية الإفريقية، ويتعلق الأمر بالرجاء الرياضي في نسختي 2018 و2021 ونهضة بركان في 2020 و2022، علما أن هذا الأخير بلغ أيضا نصف نهائي نسخة 2019، وهي المرحلة نفسها التي وصل إليها الفتح الرياضي في نسختي 2016 و2017.
وتمكن الرجاء الرياضي من تحقيق إنجاز تاريخي ببلوغ نهائي كأس العالم للأندية سنة 2013، كما توج الفريق “الأخضر” بكأس أبطال العرب “محمد السادس” لموسم 2019-2020، فضلا عن أن الأندية المغربية نالت ثلاثة ألقاب في منافسات كأس “السوبر” الإفريقي، ويتعلق الأمر بالوداد الرياضي والرجاء الرياضي ونهضة بركان في نسخ 2018 و2019 و2023 على التوالي.
وفاز المنتخب المغربي للاعبين المحليين ببطولة إفريقيا في نسختي 2018 و2020، بينما بسط المنتخب المغربي لكرة الصالات هيمنته قاريا وعربيا، وبلغ ربع نهائي كأس العالم 2021، كما توج بالكأس العربية في 2021 و-2022، وحقق لقب كأس إفريقيا في 2016 و2020 وكأس القارات في 2021; ناهيك عن بلوغ المنتخب المغربي النسوي نهائي كأس أمم إفريقيا 2022 وضمان تأهله إلى نهائيات كأس العالم 2023 إلى جانب المنتخب النسوي المغربي لأقل من 17 سنة أيضا، ثم وصول المنتخب المغربي للشبان إلى نهائي كأس أمم إفريقيا لأقل من 17 سنة وضمان تأهلهم إلى نهائيات كأس العالم للناشئين.
وعلق حسن مومن، الإطار التقني المغربي، في تصريح لـ”هسبورت”، على الموضوع قائلا إن الأرقام والإحصائيات المتعلقة بما حققته الأندية المغربية والمنتخبات الوطنية في السنوات الأخيرة تبرز التطور الذي عرفته كرة القدم المغربية على مدى عقد من الزمن، مردفا “الأندية المغربية اليوم أصبحت تتوج قاريا، بعدما كانت الساحة الإفريقية تحت سيطرة الأندية المصرية والتونسية قبل سنوات، وحين نقيس ذلك بما يتحقق أيضا على مستوى المنتخبات، بداية من المنتخب الأول وإنجازه في كأس العالم، مرورا بكرة القدم داخل القاعة، فكرة القدم النسوية ومنتخبات الفئات السنية، يمكن أن نجزم بأن الأمر ليس له علاقة بفلتات؛ لو كنا أمام إنجازات متفردة ومتباعدة زمنيا حينها يمكن الحديث عن الصدف، لكن عندما تصبح الإنجازات متكررة ومتواترة، فيمكننا القول بأننا نحصد الآن ما زرعناه في السنوات الماضية، والتحدي اليوم يكمن في ضمان الاستمرارية”.
ويرى أحمد لمام، إعلامي في التلفزيون الموريتاني ومتخصص في شؤون الكرة الإفريقية، في تصريح لـ”هسبورت”، أن الكرة المغربية حققت نجاحا استثنائيا على كافة الأصعدة، أندية ومنتخبات، رجالا وسيدات، خلال السنوات الأخيرة تحت قيادة فوزي لقجع لقاطرة اللعبة، مردفا “أعتقد أن أسباب النجاحات في المغرب تعود أساسا لأصحاب القرار الكروي والسياسي الذين وضعوا استراتيجيات واضحة على صعيد البنية التحتية، من ملاعب وأكاديميات وحتى التطوير والتكوين. هناك نمو سريع للغاية في هذه الأوراش ما ساعد المملكة في امتلاك بنية تحتية رياضية متميزة، باتت قبلة للأفارقة والعالم”.
التكوين والبنيات التحتية.. رهان أعوام
أولت الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم أهمية قصوى لتفعيل مجموعة البرامج والأوراش المتعلقة بالتكوين وتطوير البنيات التحتية، كركيزتين أساسيتين في عملية هيكلة المنظومة الكروية في المغرب.
وأضحت أكاديمية محمد السادس لكرة القدم، التي افتتحها ملك البلاد بتمويل منه عام 2010، فاعلا أساسيا في تفريخ المواهب وصقلها لتدعيم المنتخبات الوطنية والأندية بخدماتها، ولعل أبرز دليل على ذلك هو أن أربعة لاعبين من خريجي الأكاديمية كانوا ضمن صفوف المنتخب المغربي، في المشاركة التاريخية في كأس العالم 2022 بقطر، أبرزهم يوسف النصيري ونايف أكرد وعز الدين أوناحي؛ إضافةً إلى أن تسعة لاعبين كانوا ضمن تشكيلة المنتخب المغربي لأقل من 17 سنة، التي بلغت نهائي كأس إفريقيا للأمم في الجزائر، قبل أيام، هم منتوج خالص لأكاديمية محمد السادس.
وراهنت الجامعة الملكية المغربية على تقوية الجانب المتعلق بالبنيات التحتية وكل ما له علاقة بتحسين جودة الملاعب في جميع الأقسام المُمارِسة، من الدوري المغربي الاحترافي حتى الأقسام الدنيا للهواة، فضلا عن توفير مراكز للتكوين وفرض دفاتر تحملات على الأندية للانخراط في هذا الورش، إضافة إلى إقامة دورات تكوينية لفائدة الأطر بإشراف من الاتحاد الإفريقي لكرة القدم، ما ساهم في تخرج أفواج من المدربين، الذين باتوا رهن إشارة الأندية للمساهمة في تكوين الشباب.
ويتوفر المغرب، اليوم، حسب معطيات توصلت إليها “هسبورت”، على 276 ملعباً كبيراً بعشب اصطناعي، على أن يرتفع عددها إلى أزيد من 400 ملعباً خلال العام المقبل، بعد تشييد المراكز الجهوية للتكوين بمدن بني ملال والقصر الكبير، وأكادير، والعيون، وغيرها.
وتتوفر المملكة على 70 ملعباً بعشب طبيعي، منها 16 ملعباً لأندية الدوري الاحترافي الأول، إضافةً إلى ملاعب مراكز التكوين والأكاديميات التابعة لها، على أن يرتفع عددها إلى 150 ملعباً بعشب طبيعي خلال السنة المقبلة؛ هذا دون الحديث عن الملاعب الكبرى التي سيتم تحديثها قريباً لتستجيب لدفتر تحملات ملاعب الجيل الجديد، ويتعلق الأمر بمركب “محمد الخامس” بالدار البيضاء، ومجمع “الأمير مولاي عبد الله” بالرباط، وملعب “ابن بطوطة بطنجة”، وملعب “أدرار بأكادير” و الملعب الكبير بمراكش.
ويعتبر عبد المالك أبرون، رئيس لجنة البنيات التحتية بالجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، في تصريح لـ”هسبورت”، أن المشاريع الكبرى التي شُيِّدت في الآونة الأخيرة، مثل أكاديمية الرجاء الرياضي، وأكاديمية محمد السادس، وأكاديمية الفتح الرباطي، ومركز تكوين الجيش الملكي، وأكاديمية نهضة بركان، هي التي ساهمت بشكل كبير في تغيير السياسة الكروية في البلاد، مردفاً “إذا كانت المواهب في الأمس القريب لا تجد فضاءات ملائمة لممارسة هوايتها في لعب كرة القدم، فاليوم، البنيات التحتية متوفرة بشكل كبير، بفضل مجهودات الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم والرؤية السديدة لملك البلاد محمد السادس”.
وثَمَّن شهاب خلف الله، إعلامي تونسي مختص في شؤون كرة القدم الإفريقية، في تصريح لـ”هسبورت”، مبادرات المملكة المغربية لتطوير البنيات التحتية، معتبرا أن هذا التفصيل هو الذي يخلق الفارق اليوم في تطور كرة القدم المغربية، قياسا بالبلدان الإفريقية الأخرى التي تفتقر لبنيات تحتية في المستوى المطلوب.
محترفو أوروبا.. زئير يهز العالم
تغير واقع ممثلي كرة القدم المغربية في الخارج، وبات المحترفون المغاربة في أوروبا أكثر تأثيرا مع أنديتهم، الأمر الذي يعزز قوة شخصية المنتخب المغربي، ويساهم في التسويق لكرة القدم المغربية عبر العالم بطرق مباشرة وغير مباشرة، على غرار يوسف النصيري وياسين بونو مع إشبيلية الإسباني، وأشرف حكيمي مع باريس سان جيرمان الفرنسي، ونصير مزراوي رفقة بايرن ميونخ الألماني، ونايف أكرد مع ويستهام الإنجليزي، وسفيان أمرابط مع فيورنتينا الإيطالي، وغيرهم من اللاعبين الذين أصبحوا الشغل الشاغل للإعلام الأجنبي، خصوصا في ما يتعلق بمستقبلهم الكروي قبل انطلاق كل فترة انتقالات، بل إنهم غدوا عناصر مؤثرة في بورصة اللاعبين في الدوريات الخمسة الكبرى.
ويرى عمر البانوبي، إعلامي مصري ومكلف بالإعلام داخل نادي هال سيتي الإنجليزي سابقا، أن المحترفين المغاربة في أوروبا هم لاعبون من طينة الكبار، منهم من تكونوا داخل الأندية الأوروبية، خصوصا في هولندا وفرنسا وإسبانيا، مشيرا إلى أن هذا الملف من بين الملفات التي نجحت الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، برئاسة فوزي لقجع في تدبيره بامتياز، بداية من التنقيب ومرورا بالاستقطاب، ليصبح للمغرب عدد وافر من اللاعبين المحترفين في أوروبا، إضافةً إلى اللاعبين المحليين، ضمن قاعدة واسعة لاختيار أنسبهم للانضمام إلى المنتخبات.
الدبلوماسية الرياضية.. لقجع على نهج ملك البلاد
غاصت “هسبورت” في محيط توغلات فوزي لقجع، داخل الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، والاتحاد الإفريقي (كاف)، فتوصلت من مصادر مسؤولة إلى أنه لا يوجد تحرك اعتباطي في الجهازين الكرويين في قاموس لقجع، فكل المواقف والمعاملات يجب أن تراعي مصالح البلاد وتتماشى مع توجهات ملكه، ولو في أبسط التفاصيل المتعلقة باللعبة.
واستطاع لقجع، خلال السنوات الأخيرة، تعزيز العلاقات الدولية للجامعة الملكية المغربية لكرة القدم مع مختلف الاتحادات، وتوقيع 44 اتفاقية تعاون مع الاتحادات الإفريقية لكرة القدم، ناهيك عن المساهمة المادية في بناء عدد لا بأس به من الملاعب في القارة، واستضافة الملتقيات والمباريات الدولية لأكثر من 10 منتخبات إفريقية، بما في ذلك المباريات التصفوية الحاسمة، وتأسيس شراكات دولية لتبادل الخبرات مع مختلف المنظمات الكروية عبر العالم.
وساهمت الدبلوماسية الكروية للمغرب في تسويق ثقافة كرة القدم المحلية عبر العالم، والتشجيع على السياحة الرياضية في المملكة، من خلال استضافة مجموعة من البطولات والتظاهرات الرياضية، الأمر الذي يرفع من مكانة المغرب على المستوى الدولي، ويساعد في خدمة مصالح البلاد سياسيا واقتصاديا؛ كل ذلك من خلال جلد مُدَوّر يزن 450 غراما.
اليوم، وبالإضافة إلى التمثيلية غير المسبوقة للمغرب في المجلس التنفيذي لـ”فيفا” و”كاف”، فاسم المملكة مرشح أيضا ضمن ملف مشترك مع إسبانيا والبرتغال، لاستضافة كأس العالم 2030، في قرار سيادي يبرز مدى ثقة المغرب في إمكانياته وإصراره على رفع التحدي، رغم خسارته رهان استضافة كأس العالم 2026 الذي نافس فيه حتى آخر رمق، قبل أن تفوز الولايات المتحدة الأمريكية بشرف التنظيم، في ملف مشترك مع كندا والمكسيك، علما أنها سادس مرة يترشح فيها المغرب لنيل شرف تنظيم “المونديال” بعد محاولات في 1994 و1998 و2006 و2010 و2026.
ملامح النجاح بارزة.. وتحديات جديدة للمستقبل
ما يُرصَد لتطوير كرة القدم المغربية منذ سنوات، من دعم مالي ومناهج استراتيجية في مواكبة التدبير العام للمستديرة، قياسا بالإنجازات المحققة حتى الآن، يفرض اعتبار ما تعيشه الكرة المغربية نجاحا حقيقيا، يدخلها حقبة جديدة من التاريخ.
وعلى الرغم من كل ذلك، فالتحدي الحقيقي الذي سيواجه الكرة المغربية على المدى القريب والمتوسط، هو ضمان الاستمرارية في النتائج، وتجويد الممارسة الرياضية والتسييرية محليا، وهو ما يستدعي تبني استراتيجية دقيقة ينخرط فيها كل المتداخلين في الشأن الكروي المغربي بالتزام تام، من أصغر مسير ولاعب، إلى أعلى هرم في اللعبة، لكي لا يكون عُمْر النجاح قصيرا.
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.