أخر الاخبار

زين العابدين يذكّر بالحدود الشرقية والجنوبية للمغرب قبل الاستعمار الأوروبي



تفاعلا مع ما يحاك ضد الوحدة الترابية للمغرب من قبل الخصوم، سلّط رشيد زين العابدين، دكتور وباحث في التاريخ الحديث والمعاصر، الضوء على نطاق الحدود التاريخية للمغرب قبل الاستعمار، مستعينا، في مقال له بعنوان “الحدود الشرقية والجنوبية للمغرب قبل الاستعمار الأوروبي للمنطقة”، بالوثيقة التاريخية الشاهدة.


هذا نص المقال:

تعد فكرة الحدود بالمعنى السياسي فكرة مستحدثة بعد خروج العديد من بلدان العالم الإسلامي من قبضة الاستعمار الأوروبي، فهي لم تكن معروفة في تاريخ دار الإسلام، ولم تكن هذه الكلمة إلى غاية القرن 19 رائجة إلا بصفة عابرة (العماري، مشكلة الحدود/209). لكن هذا لا يمنع من التقاط بعض الإشارات التي تفيد حضور نفوذ دولة ما، ماديا ورمزيا داخل مجال معين، ليبدأ نفوذ دولة أخرى عند غيابه، وقد يتسع هذا المجال أو يضيق حسب قوة أو ضعف السلطة الحاكمة. وفي مسعانا لإعادة رسم الحدود الشرقية والجنوبية للمغرب قبل الاستعمار الأوروبي، فإننا لم نستند، كما جرت العادة في مثل هذه المواضيع، على الظهائر السلطانية المغربية التي يفهم من نطاق مفعولها الحدود السياسية الأصلية للمغرب العلوي، فهذا مجهود سبق أن قام به باحثون مغاربة مرموقون (أبرزهم الباحث نور الدين بلحداد)، وإنما استندنا في المقام الأول على مدونات عفوية لحجاج مغاربة عاشوا بين القرنين 18و19، واختاروا السفر نحو الشرق بقصد أداء مناسك الحج، فحددوا لنا، عبر المشاهدة الحية، أي عبر السير على الأقدام وملاقاة الأقوام، بداية أو نهاية طاعة هذا السلطان أو ذاك الباشا، سندهم في ذلك معاينة رموز سيادة الدولة عن قرب. لقد حدثنا هؤلاء عن النقد المغربي ونطاق رواجه، وعن قلاع لمندوب الحاكم العلوي تصدر منها الأوامر للناحية محل الحديث، وعن علم الدولة المغربية وألوانه. كما اعتمدنا على مدونات من جال بين ربوع المغرب في هذه المرحلة التاريخية، من أهله أو من الأجانب، سياحة أو قسرا، وقدم لنا معلومات مفيدة فيما نحن بصدده. ولم نغفل الاستعانة بإفادات من عاصر هؤلاء ومن تلا قرنهم، من الإخباريين ومن الأجانب ممن عرفوا بتخصصهم في تاريخ شمال إفريقيا الحديث عامة وتاريخ الصحراء بشكل خاص أواخر القرن 19 وبداية القرن 20، ونختم بتقديم مساهمات باحثين أسهموا بدورهم بعد الاستقلال في إغناء هذا الموضوع بمهنية ورصانة.


بعبارة “المغرب الأقصى” سمى الحاج الهلالي بلاده سنة 1733 (الهلالي/24)، واختار لها الحاج الإسحاقي اسم “الغرب” سنة 1731 (الإسحاقي/84)، وفضل الزياني المتوفى سنة 1833 استعمال اسم “المغرب” (الترجمانة/165) أو هي “الإيالة المولوية” عند السفير الغزال سنة 1766 (الغزال/40)، وعنها تحدث الحاج أبو مدين الدرعي سنة 1740بأنها “الوطن” (الدرعي/47)، الذي كانت له سكة معروفة بين الأمم، كما أخبرنا بذلك عند استبدال نقوده بالذهب وهو بسجلماسة في طريقه إلى الحجاز قائلا إن هناك بلدانا “لا تفوت بها دراهمنا”( الدرعي/36)، والشيء نفسه قام به الحاج الحضيكي سنة 1740 في المكان ذاته، متحدثا عن “الدراهم الإسماعيلية والصغائر الرحمانية، التي لا تروج إلا بعمالة المغرب” (الحضيكي/81). ولم يكن النقد هو ما يشكل رموز الدولة المغربية في هذه المرحلة التاريخية فحسب، بل كان لها أيضا علم يسمى “الراية” كما يفهم من كلام الرحالة والسفير محمد بن عثمان المكناسي سنة 1779 بأن “علم مولانا المنصور وهو الأحمر، والذي كانت ترفعه السفن المغربية في البحر تمييزا لها عن بقية سفن الدول الأخرى” (الإكسير/189).


وعن حدود هذه الدولة في عهد السلطان المولى إسماعيل (1672-1727)، حدثنا التاسافتي في رحلته أن ملك هذا السلطان بلغ “إلى بلاد الصحراء من ناحية الجنوب، وإلى بلاد المرابطين من اللمتون هناك ومسيرة (….) أشهر من مكناس، وإلى الغزلان وما والاها من العرب بناحية درعة وبلاد توات كلها وسجلماسة، وإلى بلاد فكيك بناحية المشرق [بدليل] فيه قصبته وخليفته […]عام اثنين وعشرين ومائة وألف [1122هـ/1710م]، وإلى بلاد سمغون في بلاد الجريد على خمس مراحل، وهو حد جواز سكته في ناحية بلاد الجريد [ …]، وقرية تڭمت. فلم تجاوز طاعتهم لغير هذه المواطن المذكورة” (التاسافتي/230-231). وفي هذا الصدد أيضا كتب الرحالة الإنجليزي وندوس وهو يزور المغرب عام 1721 واصفا مملكة هذا السلطان بأنها امتدت من مكناس إلى تلمسان، وأنها تعني أيضا كل البلاد التي سماها الرومان قديما موريطانيا الطنجية، والتي امتدت في الجنوب إلى الرأس الأبيض عند حدود بلاد السودان، التي يحدها شرقا مملكة الجزائر وقسم من بلاد الجريد (وندوس/82-85). أما عبد الكريم بن موسى الريفي فأخبرنا سنة 1152 هـ/1739م أن طاعة المولى إسماعيل عمت جميع بلاد الصحراء وتوات وفكيك وأطراف بلاد السودان، وامتدت إلى تيغاز وسوس الأقصى (الريفي/202). وعن هذه الطاعة حدثنا محمد الصغير الإفراني، المتوفى سنة 1156هـ/1743م، أنها امتدت من جهة الشرق إلى قرب بلاد بسكرة من بلاد الجريد ونواحي تلمسان، وأنها انتشرت في عماير السودان (الإفراني/305). وحدثنا الزياني أن الجيش الإسماعيلي كان منتشرا إلى أقصى شنقيط بأقصى القبلة ومن توات إلى آخر المعمور بالصحراء (الزياني/البستان/349). ومن وجهة نظر مغربية معاصرة، يرى المؤرخ عبد الحق المريني أن حدود مملكة المولى إسماعيل امتدت من واد السنغال جنوبا إلى حدود تلمسان شرقا (المريني/102).


عقب وفاة السلطان المولى إسماعيل طال الحدود المغربية بعض التغيير من ناحية الشمال الشرقي، نتيجة الضعف الذي أصبحت عليه السلطة المركزية. لقد سيطر ترك الجزائر على مدينة تلمسان، وأصبحت بذلك مدينة وجدة أول بلاد المغرب كما أخبرنا بذلك ابن عثمان المكناسي عند عودته من سفارته إلى استنبول سنة 1786 بأن هذه المدينة للقادم من الجزائر تعد “من أول طاعة” السلطان سيدي محمد بن عبد الله (1757-1790) (المكناسي/الإحراز131). ولم يسجل بالمقابل تغيير كبير في حدود المغرب الجنوبية والجنوبية الشرقية على عهد هذا السلطان، الذي كان يلقب نفسه في رسائله واتفاقياته مع ملوك أوروبا بألقاب تحدد ضمنيا امتداد مملكته. لقد جاء في إحداها أنه “ملك مراكش وسوس ودرعة وبلاد السودان” (التازي/06). ورغم الأهمية والقوة التي اكتسبها المغرب في العهد المحمدي، فإنه مع اقتراب نهايته ضاعت عدة بلدات شرقية من السيادة المغربية وهي: “الهاشم” و”الأحرار” و”وهران” و”شلالاته” و”أفلو” و”عين ماضي” و”الأغواط”، وهي التي قال عنها المؤرخ الفرنسي مارتن في بحثه المنشور سنة 1924 إنها كانت قبل 150 سنة تابعة للإيالة الشريفة ((Martin/07 .


وإذا كان أتراك الجزائر تمكنوا من السيطرة على مدينة وجدة، فقد استردها السلطان المولى سليمان (1792-1822) سنة 1211هـ/1796م عبر مفاوضات معهم وتحت التهديد باستعمال السلاح، واسترجع إلى جانبها كذلك مواطن قبائل “بني يزناسن” و”سقونة” و”أولاد زكري” و”أولاد رأس العين” (السملالي/56).


وفي المحصلة، يمكن القول إن الضياع الكبير الذي عرفته الجغرافيا المغربية، خلال القرن 19 ومطلع القرن 20، هَمَّ أساسا الجهة الجنوبية والجنوبية الشرقية من البلاد. لقد كانت منطقة توات إقليما مغربيا قبل أن تقتطع من السيادة المغربية، بل كانت المناطق الموجودة شرقها وجنوبها إلى تومبكتو على نهر النيجر ترابا مغربيا كذلك، ولم يكن عليها أي نزاع سواء مع الأتراك أو مع الفرنسيين في العقد الأخير من القرن 19، بل إن الحدود الشرقية للمغرب اتصلت بحدود تونس، لأنه لم يكن لأتراك الجزائر نفوذ على الصحراء، سواء الوسطى أو الجنوبية في هذه الفترة، حيث اقتصر نفوذهم على منطقة “التل” وعلى المدن بالخصوص، ولم يكونوا يسيطرون خلال القرن 18 سوى على سدس مساحة الجزائر الحالية، كما أن قصور (دواوير) الشرق: “تدمايت” و”الشارف” و”الزاوية” و”الكاف” و”المطرفة” و”وجلان” و”أولاد عمور” و”أولاد عيسى” و”قصبة سيدي ملوك” و”مليانة” و”بني يخلف” هي قصور مغربية، ذلك أنه على الرغم من دخول نقود أجنبية في بعض الأحيان إلى هذه المنطقة في العهد السليماني، وهي إما نقود تركية أو غيرها، وكانت تحمل اسم النقد الكوراري، فإنها كانت غير رسمية عند الأهالي، حيث لم يكن يعقد بها بيع ولا شراء ولا مهر ولا غيره من المعاملات العامة (العماري/توات/21-30-59-65-93)، والحديث عن توات المغربية وتنظيميها الإداري والمالي في القرن 19 أخذ نصيبا وافرا من كتاب مارتن “أربعة قرون من التاريخ المغربي..”.


وعلى مستوى الحدود الجنوبية، يرى هاشم العلوي، محقق كتاب “التقاط الدرر”، أن إقليم طرفاية وأسفل منه إقليم الساقية الحمراء؛ لم ينفصلا إطلاقا عن باقي الأقاليم المغربية بشريا واقتصاديا وإداريا وفكريا واجتماعيا، وأنه خلال القرنين 11 و12 هـ/17-18م، كانت المنطقة تشكل ولاية من ولايات وعمالات السلطة المركزية المغربية (القادري/308)، كما كانت بلاد شنقيط بدورها، برأي أحمد العماري، ترابا مغربيا قبل القرن 18 وخلاله (العماري، مشكلة الحدود/203).


كانت هذه هي حدود المغرب السياسية إلى غاية عهد السلطان المولى سليمان، أما كيف اقتطعت منه أقاليم شاسعة مع بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830، فهذا موضوع مساهمة قادمة.

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -