أخر الاخبار

عندما حلّ شارل دو فوكو بالمغرب متنكرا في زي يهودي

عندما حلّ الرحالة الفرنسي "دوفوكو" بالمغرب متنكرا في زي يهودي
شارل دو فوكو

عندما حلّ الرحالة الفرنسي "شارل دو فوكو" بالمغرب متنكرا في زي يهودي 

لا يخفى على الباحثين المهتمين بتاريخ المغرب المعاصر الدور البارز الذي لعبته المعلومات الاستكشافية الاستعمارية في احتلال البلاد وفرض الحماية عليها عام 1912. فمنذ احتلال فرنسا للجزائر في بداية ثلاثينيات القرن التاسع عشر، بدأت أطماعها تتجه نحو المغرب، وهي الأطماع التي تعززت بشكل واضح بعد هزيمتي إيسلي عام 1844 وتطوان عام 1860.

 

في هذا السياق، توفرت الظروف الملائمة لتوغل الأجهزة المعرفية الاستخباراتية الأجنبية في المغرب بهدف دراسة ذهنيات وعقليات سكانه، واعتقاداتهم، وبنية قبائلهم، وأنماط عيشهم، ونقاط قوتهم وضعفهم. وهكذا أصبحت المعطيات التي جمعها المستكشفون جزءًا أساسيًا في حسابات القوى الاستعمارية الأوروبية، وخاصة الفرنسية، حيث ملأت هذه المعلومات تقارير البعثات الاستكشافية وشملت تفاصيل متعددة، فضلاً عن الأحكام المسبقة وغيرها من التفسيرات.


وقد أشار عبد الله العروي في تحليله لتاريخ المغرب إلى أن هذه الفترة تميزت بكون تاريخ البلاد قد دوّنه أشخاص غير مؤهلين، من هواة وجغرافيين تبنوا أفكارًا براقة، وموظفين ادعوا المعرفة، وعسكريين تظاهروا بالثقافة، ومؤرخين بلا تكوين لغوي. ونتيجة لذلك، تشكلت رؤية مشوشة عن تاريخ المغرب، قائمة على افتراضات أكثر من كونها حقائق.


لقد كُتب الكثير حول المغرب من قبل المستكشفين الأجانب، سواء قبل فرض الحماية أو بعدها، وكان من أبرز هؤلاء الرحالة الفرنسيين شارل دوفوكو، الذي خصص اهتمامه للمغرب عبر رحلته الشهيرة التي دونها في مؤلفه "التعرف على المغرب" (Reconnaissance au Maroc). انطلقت مغامرته في بداية ثمانينيات القرن التاسع عشر، إدراكًا منه لأهمية المغرب ضمن المخططات الاستعمارية الفرنسية في شمال إفريقيا. ولتحقيق أهدافه، تعلم دوفوكو اللغة العربية، وانفتح على الدين الإسلامي، بل وأتقن أيضًا اللغة العبرية.


دخل دوفوكو المغرب عام 1883 متخفيًا في زي يهودي، مستفيدًا من ضيافة ودعم اليهود في المدن والقرى التي مر بها، حيث كانت وجهته الأساسية هي مدينة فاس، بهدف استكشاف شرق البلاد عبر تازة. وقد تميز تقريره حول هذه الرحلة بالدقة والتفصيل، حيث تضمن ملاحظات مهمة ووصفًا جغرافيًا دقيقًا ورسومات مرفقة.


ورغم الظروف الصعبة التي أحاطت برحلته، تمكن دوفوكو من تحقيق نتائج ميدانية بالغة الأهمية من الناحية العلمية والتاريخية، حتى إن محمد حجي، رحمه الله، أشار إلى أهمية هذا التقرير في تقديمه لترجمته قبل نحو ربع قرن. وقد دخل دوفوكو المغرب عبر طنجة قادمًا من الجزائر، وكان هاجسه استكشاف المناطق التي لا تزال مجهولة رغم صعوبة تضاريسها ومخاطرها.


بعد زيارته لتطوان وشفشاون وإقامته في فاس، قرر دوفوكو التوجه إلى تازة، التي تمثل ممرًا استراتيجيًا بين شرق وغرب البلاد. آنذاك، كان الوصول إلى تازة يتم عبر مسلكين رئيسيين: الأول يمر عبر وادي إيناون وقبيلتي الحياينة وغياتة، ورغم قصر مسافته، إلا أنه لم يكن يُستخدم كثيرًا لأسباب أمنية وجغرافية؛ أما المسلك الثاني، فكان الأكثر أمانًا وسهولة، ويمر عبر أراضي الحياينة والتسول ومكناسة.


في تقريره، أشار دوفوكو إلى أنه اختار السفر تحت حماية شخصية قوية النفوذ تدعى سيدي الرامي، مقدم زاوية مولاي إدريس بفاس، والذي أوكل إليه مرافقًا يُدعى "بن سمحون" لضمان سلامته في الطريق إلى تازة. انطلقت الرحلة من باب الفتوح بفاس في أواخر يوليو 1883، ووصل إلى وادي إيناون، الذي وصفه بدقة متحدثًا عن عمقه ومياهه وطبيعته الجغرافية. بعد ذلك، مر عبر فج "الطواهر" القريب من تازة قبل أن يصل إلى المدينة.


وصف دوفوكو تازة بأنها تقع على صخرة بارتفاع حوالي 80 مترًا فوق وادي "الهدار"، و130 مترًا فوق وادي إيناون، وتحيط بها جبال شاهقة وأجراف وعرة من الغرب والشمال الشرقي، فيما يمكن الوصول إليها فقط عبر جنوبها الشرقي. كما أشار إلى أسوارها المزدوجة التي كانت تمثل تحصينات هامة في الماضي، لكن قيمتها العسكرية تراجعت مع الزمن.


داخل المدينة، لفت دوفوكو الانتباه إلى البساتين الممتدة داخل السور وفي محيط تازة، والتي وصفها بأنها من أغنى المناطق الزراعية في المغرب، مشيرًا إلى توفرها على مساجد وفنادق قديمة ولكنها خالية ومتدهورة. كما قدّر عدد سكانها بحوالي أربعة آلاف نسمة، بينهم مائتا يهودي يعيشون في ملاح صغير.


أبرز دوفوكو أيضًا الوضع الأمني المتردي في تازة، حيث كانت واقعة تحت نفوذ قبيلة غياتة، التي كانت تسيطر على المدينة رغم تبعيتها النظرية للمخزن. وصف الرحالة كيف أن الغياتة كانوا يفرضون حصارًا على تازة، ويعيثون فيها نهبًا، مما جعل سكانها يعيشون في خوف دائم، لدرجة أنهم كانوا يتمنون قدوم الفرنسيين لحمايتهم.


كما استعرض تقريره عن المعارك التي خاضها السلطان الحسن الأول ضد قبيلة غياتة في نهاية سبعينيات القرن التاسع عشر، والتي انتهت بهزيمته في معركة "بوكربة". وذكر أن الغياتة كانوا معروفين بعدم خضوعهم للسلطة، لكنهم كانوا يكنّون احترامًا كبيرًا لمولاي إدريس، وأن شخصية بارزة بينهم كانت تدعى "بلخصير".


قبل مغادرته تازة، أشار دوفوكو إلى الفوضى التي تعيشها المدينة، موضحًا أنه لم يكن يتمتع فيها بالحماية، ما دفعه إلى استئجار فارسين من غياتة ويهودي من تازة ليؤمنوا عودته إلى فاس.


لقد كان تقرير دوفوكو عن تازة والمغرب بشكل عام ذا تأثير كبير في الأوساط العلمية والاستعمارية الفرنسية، حيث أثار اهتمام الدارسين والجواسيس والمغامرين، الذين سعوا إلى تكرار رحلته في مناطق أخرى من المغرب. ومن بين هؤلاء، نجد دوزكونزاك الذي زار تازة في بداية القرن العشرين، وقدّم تقريرًا مشابهًا لتقرير دوفوكو، حيث ركز بدوره على الجوانب الطبوغرافية والمجالية.


يظل كتاب "التعرف على المغرب" واحدًا من أهم النصوص التي وثّقت مغرب أواخر القرن التاسع عشر، حيث وفر معطيات غنية حول التضاريس، والعادات، والتركيبة السكانية، والأوضاع الأمنية والسياسية. وبالنظر إلى ندرة الوثائق المحلية حول تلك الفترة، تبقى النصوص الاستكشافية الأجنبية، رغم انحيازاتها الاستعمارية، مصدرًا مهمًا لفهم التاريخ المغربي، خاصة فيما يتعلق بعلاقة تازة بالمخزن وقبيلة غياتة في السنوات التي سبقت فرض الحماية على البلاد.

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -