أخر الاخبار

الجذور التاريخية لقضية سبتة ومليلية



البداية عبر أجزاء....


الحمد لله الذي جعلنا من أمة شهد تاريخ السالفين بعظمتها واعترفت الكتب المنزلة بمزيتها وعزتها والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أنزل عليه الكتاب القائل كنتم خير أمة أخرجت للناس وعلى آله وأصحابه أولي الفضل الذي لا يقاس بمقياس، وبعد فيقول أفقر العبيد إلى مولاه الذي لا يحمد في السراء والضراء سواه محمد بن محمد بن علي السراج الزياتي الهليلي المنشأ الحوزي المضيقي الملجأ إن مدينة سبتة التي ابتليت بالاستعمار من قديم الاعصار وترك احتلالها في قلوب المغاربة والمسلمين قاطبة ما لا يزول من الاكدار والأغيار وكنت ممن ساقه القدر إلى سكناها لما بليت بالقضاء بين مسلميها وبين سكان القبيلة المجاورة لها وفي نفسي ما لا يعلمه إلا الله من جرحها وقرحها. وأنا أروح وأغدو بين مومنها وكافرها وصالحها وطالحها أجوب الشوارع وأمشي في سبلها ودروبها أصعد تارة إلى جبل مينائها وأطوف أخرى في منحدرها وشواطئها باحثا عن آثار مقابرها ومصلياتها أتردد على مباني افراك وما به من المعالم الناطقة بعظمة أبي سعيد وأبي الحسن وأبي عنان ملوك بني مرين ومخلدي آثار عزة ملكها أخرج إلى بليونش للوقوف على إطلالها والتمتع بعليل هوائها والارتواء بعذوبة مائها أمر على خندق رحمة وكدية الحلفاء ومكان قرية بربج مسقط رأس أبي القاسم الأنصاري فقيه سبتة وآخر مؤرخيها أعرج على مكان قرية أويات ووادي المقصرة وعين علي مجددا التنقيب عن آثارها ومعالمها أستعين بكتاب الأنصاري وأزهار الرياض للمقرى والمغرب لابن عذاري والاستقصا للناصري وما نقلوه عن المسالك والممالك للبكري وما رووه عن جغرافية الإدريسي وكتابي الموحدي والحميدي أتقلب بين سكانها وأتحدث مع الفقراء في الزوايا والمساجد وأروي التاريخ المأثور عن شيوخها أقرأ وثائق الحدود المصطنعة على عين المكان ومعاهدة إسابلا والشروط المفروضة على المولى عبد الرحمان وما وضعته اللجنة المزدوجة المغربية الإسبانية من علامة الحدود التوسعية بالرغم من الخليفة مولاي العباس بعد حروب الستين وثمانمائة وألف لمدينة تطوان حتى لفقت هذه السطور المنبئة عن تاريخها بعد بذل أقصى الجهود والمقدور سميته (خلاصة تاريخ سبتة بالآثر والمأثور وما جاورها من المداشر والقرى حتى كدية الطيفور) أقدمه هدية إلى حسن هذه الأمة وحامي حماها وأسأل الله العظيم أن تعود سبتة وغيرها من الأماكن المغتصبة إلى حظيرة الوطن في أيام دولته وعزتها كما أسأله أن يمدني بعون من عنده حتى يحظى كتابي بالقبول من طرف قارئه وهو حسبي ونعم الوكيل.



سبتة هي المدينة الواقعة في بلاد المغرب المقابلة لجبل طارق والجزيرة الخضراء من بلاد الأندلس وقد كانت سابحة في البحر إلا من جهة الغرب حيث المسافة بين بحر الزقاق شمالا وبحر بسول جنوبا قريبة جدا تقدر برمية سهم وقد حفر أمراء سبتة قديما حفيرا في هذا المكان لمنع دخول العدو عليهم من تلك الجهة ووضعوا لكل جهة من البحر قنطرة من خشب تمد نهارا وترفع ليلا سموا إحداهما بقنطرة باب المشاطين والأخرى بقنطرة باب الفرج حسبما ذكره البكري في المسالك والممالك.


ولما احتل البرتغال المدينة زادوا في الحفر وكونوا قناة لمرور السفن تربط البحرين الشمالي والجنوبي وجعلوا القنطرتين من حديد كانتا تمدان في الصباح وترفعان في المساء خوفا من المغاربة وفي حائط القصبة أعلى القنطرة نصبوا صليبا يركعون عنده كلما مروا أمامه وتوقد عنده الشموع وفي ضفة القنال الغريبة حفر البرتغال حفائر عميقة بنيت بها بيوت تحت الأرض بأقواس متينة اتخذت سجنا للمغاربة أيام احتلالهم للمدينة ومنها حفروا طرقا تمر تحت الأرض شمالا وغربا وجنوبا، وقد ظهرت واضحة في جهة الجنوب حينما أصلح الإسبانيون مؤخرا الطريق التي تأتي إلى تطوان والتي تذهب إلى الميناء.

وفي أيام دراستي بقبيلة أنجرة قمنا برحلة إلى سبتة فوجدنا فلاحا يحرث أسفل مدشر عزفة فوق ثكنة الريفيين وقد عصر على طريق تحت الأرض متجهة نحو وادي نكرو بقبيلة الحوز فاستدعانا لمشاهدتها. والبرتغاليون يفدون على سبتة كل سنة يقيمون حفلا تذكاريا فوق هذه الكهوف.

وهذه الضفة اليمنى يسميها الإسبان باب البادية Puerta Del Campo ومنها تفترق الطرق، طريق الميناء وبليونش شمالا وطريق حدو غربا، وكذلك مرو وسيدي امبارك وحومة البرنسي الفونصو وجنوبا طريق تطوان والمضربة واويات حيث الجمرك. ومكان الكهوف يسمى لانكلو Langlo وفي شرق المدينة جبل الميناء الذي فيه المنار لإرشاد السفن المارة في البحر الأبيض المتوسط والبوغاز ويسمون الجبل لاشو وفي سفحه المواجه لجبل طارق والجزيرة الخضراء عدد كبير من الثكنات الحربية وفيه المقبرة الكاثوليكية وفي سفحه الغربي حديقة للحيوان وتجاه جبل طارق جزيرة صغيرة كان الانجليز حاول احتلالها قديما، وفي أعلاه السجن المعروف بقساوتة، وفي سفحه الجنوبي القبة المنسوبة لسيدي أبي العباس السبتي الذي سنتكلم عنه إن شاء الله، والمدينة القديمة بما فيها جبل الميناء إلى القنال المشار إليه سابقا أشبه بعود غناء ألقي في البحر على بطنه وقد وصفها بذلك عالمها وشاعرها مالك ابن المرحل بقوله:

أخطر على سبتة وانظر إلى



جمالها تصبو إلى حسنه


كأنها عود غناء وقد



ألقي في البحر على بطنه


وقد نقل الأمير شكيب ارسلان في الحلل السندسية كلام "الشريف الإدريسي" في "نزهة المشتاق إلى اختراق الآفاق" الذي يصفها بأنها في مجموعها تكون سبعة أجبل صغار والراكب في بحرها من جهة إسبانيا يظهر له ذلك جليا.

قال الإدريسي: «وأما ما على ضفة البحر الكبير من المدن الواقعة في هذا البحر المرسوم فهي طنجة وسبتة ونكور وبادس والمزمة ومليلية وهنين وبنو وزار ووهران ومستغانم، فأما مدينة سبتة فهي تقابل الجزيرة الخضراء وهي سبعة اجبل صغرا متصلة بعضها ببعض معمورة طولها من المغرب إلى المشرق نحو ميل، ويتصل بها من جهة الغرب وعلى ميلين منها جبل موسى وهذا الجبل منسوب لموسى بن نصير وهو الذي كان لديه افتتاح الأندلس في صدر الإسلام وتجاوره جنات وبساتين وأشجار وفواكه كثيرة وقصب سكر وأترج يتجهز به إلى ما جاور سبتة من البلاد لكثرة الفواكه بها ويسمى هذا المكان الذي جمع هذا كله (بليونش) وبهذا الموضع مياه جارية وعيون مطردة وخصب زائد، ويلي المدينة من جهة الشرق جبل عال يسمى جبل المنية وأعلاه بسيط وعلى أعلاه سور بناه محمد بن أبي عامر عند ما جاز إليها من الأندلس وأراد أن ينقل المدينة إلى أعلى هذا الجبل فمات عند فراغه من بنيان أسوارها وعجز أهل سبتة عن الانتقال إلى هذه المدينة المسماة بالمنية فمكثوا في مدينتهم وبقيت المدينة خالية وأسوارها قائمة وقد نبت حطب الشعراء فيها، وفي وسط المدينة بأعلى الجبل عين ماء لطيفة لكنها لا تجف البتة وهذه الأسوار التي تحيط بمدينة المنية تظهر من عدوة الأندلس لشدة بياضها، قلت لم يبق أثر لمدينة المنية ولا لأسوارها».

ثم قال: «ومدينة سبتة سميت بهذا الاسم لأنها جزيرة منقطعة والبحر يطيف بها من جميع جهاتها إلا من ناحية الغرب فإن البحر يكاد يلتقي بعضه ببعض هناك، ولا يبقى بينهما إلا أقل من رمية سهم، واسم البحر الذي يليها شمالا بحر الزقاق والبحر الآخر الذي يليها في جهة الجنوب يقال له بحر بسول وهو مرسى حسن يرسي فيه فيكن من كل ريح، وبمدينة سبتة مصايد للحوت ولا يعدلها بلد في إصابة الحوت وجلبه، ويصاد بها من السمك نحو من مائة نوع ويصاد بها السمك المسمى بالتنين الكبير، وصيدهم له يكون زرقا بالرماح وهذه الرماح لها في أسننها أجنحة بارزة تنشب في الحوت ولا تخرج، وفي أطراف عصيها شرائط القنب الطوال ولهم في ذلك درية وحنكة سبقوا فيها جميع الصيادين.

ويصاد بمدينة سبتة شجر المرجان الذي لا يعد له صنف من صنوف المرجان المستخرج بجميع أقطار البحر، وبمدينة سبتة سوق لتفصيله وحكه وصنعه خرزا وثقبه وتنظيمه منها يتجهز به إلى سائر البلاد وأكثر ما يحمل إلى غانة وجميع بلاد السودان لأنه في تلك البلاد يستعمل كثيرا، ومن مدينة سبتة إلى قصر مصمودة في الغرب 13 ميلا وهو حصن كبير على ضفة البحر تنشأ به المراكب والحراريق التي يسافر بها إلى بلاد الأندلس وهو على رأس المجاز الأقرب إلى ديار الأندلس ومن قصر مصمودة إلى مدينة طنجة غربا 20 ميلا ومدينة طنجة قديمة أزلية وأرضها منسوبة إليها وهي على جبل عال مطل على البحر وسكنى أهلها منه في سند الجبل إلى ضفة البحر وهي مدينة حسنة لها أسواق وصناع وفعلة وبها إنشاء المراكب وبها إقلاع وحط وهي على أرض متصلة بالبر فيها مزارع وغلات وسكانها برابر ينسبون إلى صنهاجة».

قلت لم يبق ببليونش قصب سكر ولا اترج ولا فواكه إلا بعض أشجار ملتصقة في أجراف وأحجار، أما الحوت فلا زالت سبتة محشرا له.

وقد كان ببليونش معمل للتنين الذي كان يصاد ببحرها في وقت معلوم بالكيفية التي ذكرها الإدريسي مع إدخال تحسينات فنية عصرية، غير أن الذين يصطادونه غادروا البلاد بعد الاستقلال، والمعمل لعبت به أيدي الإتلاف والفساد، وكان يعيش بهذا المعمل أهل بليونش وما جاورها وعدد كبير من سكان سبتة أما المرجان فلم نسمع من يصطاده ويخرجه لا بسبتة ولا بالمراسي المجاورة لها، وقال البكري في وصف سبتة في كتاب "المسالك والممالك" «وهي على ضفة البحر الرومي وهو بحر الزقاق الداخل في البحر المحيط وهي في طرف من الأرض داخل من الغرب إلى الشرق ضيق جدا والبحر محيط بها شرقا وشمالا وقبلة ولو شاء ساكنوها أن يوصلوه من ناحية الشمال لوصلوه فتكون جزيرة منقطعة، وقد حفر من تقدم في ذلك المكان نحو غلوتين وهي مدينة كبيرة مسورة بسور صخر محكم البناء بناه عبد الرحمان الناصر لدين الله وحماماتها يجلب إليها الماء على الظهر من البحر وفيها حمام قديم يعرف بحمام خالد، ولها ربض من جانب الشرق فيه ثلاثة حمامات وجامعها على البحر القبلي المعروف ببحر بسول له خمسة بلاطات وفي صحنه جبان ولها مقبرة في الجبل ومقبرة أخرى بجوفيها على بحر الرملة وأهلها عرب وبربر، فعربها تنسب إلى صدف وبربرها ومن ناحية أصيلة والبصرة ولم تزل دار علم وفي شرقيها جبل منيف كان محمد بن أبي عامر ابتدأ فيه بناء سور لم يتم، وهذا الجبل مطل على الربض المذكور الذي فيه الحمامات وما بينها كروم، ودار الإمارة في جوف المدينة وطولها من السور الغربي الذي يدخل منه إلى المدينة قاطعا إلى آخر الجزيرة خمسة أميال والمدينة في الجانب الغربي منها، ولسورها الغربي تسعة أبراج والباب في البرج الأوسط وبين يدي هذا السور سور لطيف يستر الرجل ويتصل به خندق عميق عريض عليه قنطرة خشب أمامها بستان وآبار ومقبرة والسور القبلي على أحراف عالية والشرقي والجوفي فيه تطامن، ولها باب ثان مما يلي الجوف في برج يعرف ببرج سابق يدخل منه إلى دار الإمارة، وذرع المدينة من السور الغربي إلى الشرقي ألفان وخمسمائة ذراع وذرع ما يأخذه ثقاف الربض المتصل بالسور الغربي سبعة آلاف وأربعمائة ذراع وهي مدينة قديمة سكنها الأول وبها آثار بقايا كنائس وحمامات وماؤها مجلوب من نهو أويات مع ضفة البحر القبلي في قناة إلى الكنيسة التي هي اليوم الجامع وكان صاحبها أليان هو الذي أجاز طارق ابن زياد وأصحابه إلى الأندلس فلما غزا عقبة بن نافع القرشي أرض المغرب وسار إلى سبتة خرج إليه أليان بهدايا وتحف ورغب إليه في الأمان، فأمنه وأقره في موضعه ثم دخلها العرب بعد ذلك بالصلح وعمروها ثم قام عليهم بربر طنجة فأخرجوهم منها وأقفروها فبقيت خرابا يعمرها الوحش مدة ثم دخلها رجل من غمارة يسمى (ماجكسين) وكان مشركا فعمرها وأسلم وأرس ثم وليها بعد هلاكه ابنه عصام ثم ابن ابنه مجبر بن عصام وفي دولتهم دخلها قوم كثير من أهل قلشانة أيام المحل فاشتروا من البربر وبنوا فيها واستوطنوها وكانوا مع ذلك يؤدون الطاعة إلى قريش العدوة من الحسنيين حتى افتتحها عبد الرحمن الناصر لدين الله وواليها الرضا بن عصام بعد موت أخيه مجبر ودخلها عامله وقائده فرج بن عفير يوم الجمعة في صدر ربيع الأول تسع عشرة وثلاثمائة والمسلك من سبتة إلى طنجة على طرق وهي مساكن قبائل مصمودة كلها.

وفي كتاب الاستبصار في عجائب الأمصار لمغربي موحدي مجهول الاسم وصف سبتة حسبما نقله مؤرخ المملكة المغربية في عهد جلالة الحسن الثاني نصره الله، الأستاذ السيد عبد الوهاب بن منصور في تعليقه على كتاب اختصار سني الأخبار لأبي القاسم الأنصاري قال: ومدينة سبتة وهي على ضفة البحر وهو بحر الزقاق والبحر قد أحاط بها شرقا وجوفا وقبلة وليس لها إلى البرب غير طريق واحد من ناحية الغرب لو شاء أهلها أن يقطعوه لقطعوه، ولها بابان إحداهما محدث ولها من جهة البحر أبواب كثيرة وفي آخر المدينة بشرقيها جبل كبير في شعراء كثيفة يسمى جبل الميناء وقد كان محمد بن أبي عامر أمر أن يبني في هذا الجبل مدينة وينقل إليها أهل سبتة فبنى سورها ومات ولم يتم ما أراد والسور باق إلى وقتنا هذا كأنه مبني بالأمس وهو يظهر من بر الأندلس لبياضه.

ومن غريب ما في ذلك السور أن فيه شقة مستطيلة بأبارجها المبنية بالزيت عوضا من الماء وكان غرضه إتمام عمله على هذا لولا الإنفاق الكثير فإن البناء بالزيت أصلب وأبقى على مر الدهور والأزمان. فلم يساعده الأجل رحمه الله، ومدينة سبتة قديمة سكنها الأول فيها آثار كبيرة وكان لها ماء مجلوب من نهر قرية أويات على ثلاثة أميال منها يجري الماء في قناة مع ضفة البحر القبلي الذي يعرف ببحر بسول وكان يدخل كنيستها التي هي اليوم جامع سبتة وأمر الخليفة أمير المؤمنين أبو يعقوب رضي الله عنه سنة 580 بجلب الماء إليها من قرية بليونش المذكورة على ستة أميال من سبتة في قناة تحت الأرض حسبما جلبه الأوائل في قرية قرطاجنة وغيرها وشرع في العمل فعرضت أمور أوجبت التربص إلى حين يأذن الله تعالى بذلك والرجاء الآن مؤمل ونحن في سنة 87، وعلى قرية بليونش المذكورة جبل عظيم فيه القردة عبر من تحته موسى بن نصير إلى ساحل طريفه فسمي به وهو الصحيح وكان عليه حصن هدمه مصمودة المجاورون له ثم بناه الناصر عبد الرحمن المرواني فهدموه ثانيا وتحته أرض خصيبة فيها مياه عذبة ومنه إلى مرسى باب اليوم وعليه قرية تعرف بقصر مصمودة ولها نهر يصب في البحر عذب ومنه يقرب الجواز إلى جزيرة طريفة 18 ميلا»([1]).


[1]- الحاج محمد السراج قاضي المسلمين سابقا بسبتة ومليلية، خلاصة تاريخ سبتة بالأثر والمأثور وما جاورها حتى كدية الطيفور، مطبعة ديسبريس، تطوان، 1976.

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -