1925- عبد الكريم الخطابي يربط محمد أزرقان على فوهة مدفع |
جَمَعَت أزرقان بـمحمد بن عبد الكريم الخطابي علاقة مصاهَرة، غير أنّ العلاقة أمتن وأقوى وأبعدُ في الزمن، ذلك أنّ السيد أزرقان كان من الجلساء الحميميين للقاضي عبد الكريم الخطابي والذي كان يُحبّه كثيرا، ولـمَّا آلَ أمْرُ قيادة الريف بعد موت القاضي إلى ابنه محمد بن عبد الكريم الخطابي؛ كانَ أزرقان مِن أوائل مَن دَعَّم الأمير في مشروعه النضالي ضدّ الاستعمار الإسباني، وكان مِن بينِ قِلَّة؛ حضَر كل المؤتمرات التحضيرية التي عَقَدها الأمير بتشاور مع خُلَّص أصحابه وُصولاً لتاريخ تنصيبه أميراً للجهاد سنة 1923، وقائماً بشؤون الحركة الخطابية. ونظرا لتوطُّد العلاقة بين الرجّلين، حيث جمعهُما المشروع التّحرري والفِكرة السياسية والمصاهَرة؛ فقد كان الأمير يَعتَبِر محمد أزرقان الرجل الثّالث في هرمية تنظيم الحركة بعد أخيه امحمد الخطابي، وكان محطّ ثِقَتِهما معاً، وثِقة قبائل الريف، ووجْه الثورة الخارِجي، وسَفيرها والمنافِر عنها.
بدأ أزرقان مَسار تَمثيله الرّيفيين والحركة الخطابية في الخارج؛ بالسَّفر في مهام سياسية وتفاوضية في تاريخ مبكِّر جدا مِن عُمر الحركة الجهادية بالريف، ذلكَ أنّه ترافَق مع محمد بن عبد الكريم إلى مدينة مليلية بأمْرٍ من قاضي قُضاة الريف السيد عبد الكريم الخطابي لمحاوَرة الجنرال سلفيستري في شأن ما ورَد في تصريحات بعض القادة والرهبان الإسبان بشأن نية إسبانيا وسبب وجودها في الشمال والرِّيف. كما اجتمع في صيف 1920 بالكولونيل الإسباني موراليس للتباحث في أمْر توقيف تَـمَدُّد القوات العسكرية الإسبانية في منطقة قَبِيلة (تمتمان) وقبيلة (بقيوة). كما تَدَخَّل وسيطا على رأس وفد ورياغلي يتضمّن القادة علوش بن شدى، وعبد السلام بن محمد وعمر بن علوش لإقناع قبيلة (أجزنّاية) لفكّ أسْر السائح الإنجليزي المدعو أرْنال، وإعمال ما سمّاه أزرقان “السياسة في تدبير المسألة”، أيْ الحفاظ على روح الإنجليزي. ورابَطَ السيد أزرقان في مدشر (آيت ثعبان) إلى أنْ افتكَّ الأسير من أيدي القبيلة، كَون السائح رجلاً مسالِماً مِن دولة أجنبية.
وفي أعقاب معركة (أبْران) ثم (أنوال)؛ أُسْنِدَت مهمة تدبير أمور الأسرى والتفاوض مع الجنرالات الإسبان إلى السيد أزرقان، والإشراف على إدخال الأطبّاء الأجانب إلى التراب الريفي، كما بقِيَ في أجدير طيلة مدّة سَفر الأمير وأخيه امحمّد، يُباشِر أمور القيادة العليا مع “القيام بأمور سياسية هناك” حسب تعبير الفقيه السّكيرج.
وفي مرحلة لاحقة، قام محمد أزرقان بزيارة الجزائر الـمُستعْمَرَة سنة 1922، ثم فرنسا في نفس السنة رفقه حدّو بن حمّو حيث اجتَمعا بشخصيات فرنسية على رأسها الجنرال ليوطي الذي كان وقْتها يخضع للعلاج في باريس. وفي الرِّسالة التي بَعثَ بها أزرقان إلى الأمير ابن عبد الكريم من مدينة مرسيليا المؤرَّخة بتاريخ 26 يناير 1922 _ حسبما أوْرَد الباحث خرشيش في أطروحته _ نتعرَّف على النّشاط الدِّبلوماسي لمبعوث القيادة الريفية والحفاوة البالغة التي اسْتُـقْبِل بها في فرنسا.
كما كُلِّف أزرقان مِن قِبَل مجلس قيادة الثورة الريفية ببعض المهام السرية لدى السلطات الإسبانية في مدينة مليلية الـمحتَلَّة. وبدءً مِن 1923؛ سيُعيَّن أزرقان ناظِر خارِجية حكومة الثورة الريفية بمرتبة وزير، وهو المنصب الذي ظلَّ مسنوداً إليه وقائماً به إلى غاية استِسلام الأمير مَطالع سنة 1927.
ولـمّا اسْتَعَرت الحرب بين الريفيين والاستعمار الإسباني، وقَع أسرى العَدو في أيدي قادة الثورة الريفية، فَصاروا بذلكَ محْورَ المفاوضات مع السّلطات الاستعمارية، وكان أزرقان يُدير تلك المفاوضات باسم الأمير الخطّابي، وساهَم في عملية إطلاق الأسرى الإسبانيين في أواخر يناير مِن سنة 1923 مُقابِل فِدية قدّمتها الحكومة الإسبانية مِقدارُها أربعة ملايين بسّيطة، كما أشْرَف على عملية اقتناء أسلحة وطائرتين وذخائر من فرنسا عن طريق الجزائر، نَقَلَها عَبر الطريق البرية الشرقية وُصولاً إلى مقر القيادة في أجدير.
شهران ونصف بَعد ذلك؛ سيَترأَّس محمد أزرقان وفْدَ الثورة الريفية التّفاوُضي الذي وقَّع الصّلح الثنائي مع الوفد الإسباني الذي ترأَّسَهُ الكولونيل كاسترو خيرونا، وكان موضوع المفاوضات في غاية الحساسية، بحيث تعلَّق الأمر بالاستقلال، الذي لم تكن صيغته الإسبانية محلَّ قَبول الأمير، مما تعذَّر معه نجاح جلسات المفاوضات.
وطيلة المدّة التي كانت فيها المقاومة الريفية تُصَوِّب بَنادِقها نحو الاستعمار الإسباني، كانت تَعتمد المفاوضات أيْضاً، وكان دور أزرقان فيها بارِزا. وحين كان التحضير _ الاضطراري _ قائماً لمواجهة فرنسا، التي شرَعت في تطوير علاقات التنسيق مع إسبانيا لمحاصرة الحركة الخطابية؛ بَرز الدّور الدِّبلوماسي والتّفاوضي للسيد أزرقان وفَريقه، لتحييد فرنسا من الصّراع العسكري، غير أنَّ التنسيق والتفاوض الذي كان جارِياً على قَدَمٍ وساقٍ بين القوتين الاستِعمارِيَتين سنة 1925؛ سيُشكِّل البداية الفِعلية لعملية اختلال التّوازن الإستراتيجي السياسي والعسكري لصالح القوى الاستعمارية بتعبير الدكتور محمد خرشيش في مرجعه عن “المقاومة الريفية” الصّفحة 26، ولَم تُسْفِر جهود الـمُفاوِض الريفي عن شيء؛ إذْ كانت فرنسا حَسَمت قرارها بالزّحف على الريف.
ومِن جهة أخرى ستُفَشَّل المساعي التفاوضية لممثِّل الأمير، وستندلع مواجَهات بين الريفيين وفرنسا، طيلة شهور أبريل، ماي، يونيو، يوليوز من سنة 1925، أذاق فيها الريفيون الفرنسيين طعْم الهزائم، واسترَدّوا كثيرا مِن المواقِع، مما جعل إسبانيا تَغتبِط لدخول فرنسا في مواجهة عسكرية ضد المقاومة الريفية. ومن جهتها؛ بادرت فرنسا إلى تكثيف تواصُلها الدِّبلوماسي وتنسيقها الأمني والعسكري مع إسبانيا لإفشالِ حركة الخطّابي وضَرْب المقاوِمين في مَقْتَل.
وفي اللِّقاء الهام الذي جَمع محمد بن عبد الكريم الخطابي بالقبطان الفرنسي ليون غبرييلي في أجدير يوم 6 ذي الحجّة 1343 الموافِق لـ 28 يونيو 1925، كان السيد أزرقان حاضراً، باعتبارِ إشرافه على سلسلة اللِّقاءات التمهيدية مع القُبطان قُبيل انعقاد اللقاء المذكور مع الخطابي. وسيظل أزرقان حاضرا وفاعلا في مسار العلاقات والتنسيق بين القيادة الريفية والقيادة الفرنسية طيلة المدّة التي سَبقت ورافَقت الحرب التحالُفية الظالِمة ضدّ الريف، وانتهاءً باستِسلام الأمير. بحيث سنجد أزرقان ضِمن تشكيلة البعثة التفاوضية الحاضرة بملتقى (بين الويدان) شرق المغرب يوم 17 أبريل 1926، وكذلك في مؤتَـمَر وجدة من 18 أبريل إلى 6 ماي من نفس السَّنَة، الذي شهِده عن الجانب الإسباني السفير لوبيز أوليفان والكومندار أكيار والتُّرجمان مارين، وعن الجانب الفرنسي الجنرال سيمون والوزير بونسو، بينما ترّأس أزرقان الوفد الريفي، بحضور مُساعِده الشخصي السي أحمد، والسيد حدّو بن حمّو والتُّرجمان عبد القادر بوزار الجزائري.. وقد كان المؤتمر مجرَّد مناورة لإلهاء الرأي العام الفرنسي والإسباني الذي كان حينذاك يرفض الحلول العسكرية ضدّ ثورة الريف، ولِكَفّ أصوات الأحزاب السياسية التي لم تكن تؤيّد مساعي الحكومَتين في التنسيق لِشَنّ ضربة عسكرية ضد الريف، وبالتالي؛ كانت مخرجاتُ المؤتمر فاشِلة، ومناوراته انكشَفت لاحقاً في الحسم العسكري الغاشم الذي أتى على الأخضر واليابس في الريف، وأدّى إلى توقُّف المجاهدين الريفيين واستِسلام قائد المقاومة الريفية.
لقد تميّزت شخصية محمد أزرقان بالجمع بين الشجاعة وانتهاج الـمهادَنة، وبَساطة التعليم وعبقرية الاستفادة مِن التجارب العملية، حيثُ أكْسَبه الاحتكاك الدّائم بالملفات الساخنة، ولقاء الشخصيات الهامة، ومحاوَرة الوفود العسكرية والسياسية، وزيارة فرنسا والجزائر وإسبانيا ومليلية المحتلَّة، ذكاءً ومرونةً وحصافةً وخِبرة دبلوماسية ما كان ليتلّقاها في أعرق جامعات ذلك العَهد. كما أَكْسَـبَـتْه صِلته الدّائمة بالأمير الـمجاهد ابن عبد الكريم وبأعضاء مجلس قيادة المقاومة الريفية خِبرة ميدانية وعسكرية وتواصُلية ومهارات إضافية، وَظَّفها في خِدمة الحركة التّحررية في الدّاخل، وإدارة سياساتها وعلاقاتها ومفاوَضاتها في الخارِج. وقد امتدَّت العلاقة الوطيدة بينه وبين الأمير من بداية 1920 إلى نهاية ثورة الريف التحريرية، وظَلَّ وفِيّاً لمبادئ الحركة الخطابية ولأميرها، أميناً على أسراره، قريباً منه، “كالأخ الشقيق، يُفضي كل واحد منهما للآخر بِـسِرِّه، معتمِداً كلٌّ منهما على ما يُشير به عليه” كما قال العلّامة أحمد بن العياشي السكيرج.
ويَومَ استَسْلَم الخطابي في ماي 1927 كان محمد أزرقان معه، واتّخذا قرار الاستسلام معاً، وقام أزرقان بالتوسّط لدى السلطات الفرنسية قصْد الذهاب مِن (تاركيست) إلى مدشر (كمون) من توابع بني عبد الله بقبيلة بني ورياغل لإحضار جميع أفراد عائلة الخطابي، وأشْرَف على نقلِهم ليلاً إلى (تاركيست). ثمَّ قَرّرت السلطات الاستعمارية الفَصْل بين رَفيقَيْ الكفاح، بِـنَفْيِ الأمير إلى جزيرة لارينيون، ومنها إلى مَدغشْقَر، وفَرْضِ إقامة إجبارية على السيد أزرقان في مدينة الجديدة المغربية، حيث بقِيَ هناك إلى غاية نَيْل المغرب استِقلاله، فاستَعاد الرجل حريته.
وحسب رأي وشهادة المؤرِّخ المغربي محمد بن عزوز حكيم؛ فإنَّ ما ميَّز المقاوِم والمفاوِض الدّاهية محمد أزرقان، تَفَطُّنه لأهمية الإفصاح عن مجريات ثورة الريف من بدْئها لغاية استِسلام أميرِها، وانتباهه الدّقيق لأهمية الرّواية الشفهية وتخليد الأحداث المفصلية في مسار الحركة الخطابية وشمال المغرب في عشرينات القرن العشرين، في مذكّرات، تُنير طريق الباحثين، وتُعين أجيال المغاربة على معرفة خبايا حرب الريف، وطُرُق تدبير المفاوضات بين الأمير والقوتين الاستِعماريتين وقوّاد القبائل الريفية والجبلية، وغيرها من الخفايا.
لقد أحسن أزرقان صُنعاً عندما أرخى لذاكرته العنان، واسترْسَل في سَرْد روايته الشفهية عن الثورة الريفية للفقيه أحمد السّكِـيرج، عندما جمعتهما الأقدار في مدينة الجديدة مطلْع ثلاثينات القرن الماضي، كما أحْسَن الفقيه استِثمار ذاكرة أرزقان باعتباره شاهداً على العصر، وحَرَّرَ كلَّ ما سمعه عنه، وخَلَّده في مرجِع توثيقي تأريخي قيّم اختار له عنوان “الظِّـلُّ الوَريف في محارَبة الرّيف”، الذي احتَفَظت به الخزانة الملكية في الرباط مخطوطاً ثميناً، وحظِيَ باهتمام الباحثين والمؤرخين، وعنِيَ بتحقيقه بعضهم، وقرَّضه فضيلة العلّامة عبد الله بن العباس الجراري.
هذا؛ ولا يذكُر المؤرخون خَبراً عن تاريخ وفاةِ السيد محمد أزرقان ولا مكان وفاته ودفنه.
مصادر ومراجع:
* (السكيرج) أحمد: “الظِّـلُّ الوَريف في محارَبة الرّيف“، الطبعة الأولى 1926، النسخة الإلكترونية في 106 صفحة
* (خرشيش) محمد: “المقاومة الريفية”، سلسلة شراع، العدد 22، دجنبر 1997.
* (المساري) محمد العربي: “محمد بن عبد الكريم الخطابي؛ من القبيلة إلى الوطن“، عن المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2012.
* مجلة “الذاكرة الوطنية“، العدد 5، لسنة 2003، الصادرة عن المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير.
* مجلة “الذاكرة الوطنية“، العدد 11، لسنة 2008، الصادرة عن المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير.
* “ملحمة أنوال ودروس في الدفاع عن الوحدة الترابية الوطنية“، أعمال ندوة نُظِّمت بجماعة ميضار، إقليم الناظور، يوليوز 2012، المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير.
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.