ترأس أمير المؤمنين الملك محمد السادس، مرفوقا بولي العهد الأمير مولاي الحسن، والأمير مولاي رشيد والأمير مولاي إسماعيل، اليوم الأحد بالقصر الملكي في الدار البيضاء، الدرس الخامس من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية.
وألقى درس اليوم، بين يدي أمير المؤمنين، الأستاذ أبو بكر الزبير مبوانا، مفتي جمهورية تنزانيا، متناولا بالدرس والتحليل موضوع: “رمزية إمارة المؤمنين وحضورها في الفكر الديني لدى علماء شرق إفريقيا: تنزانيا نموذجا”، انطلاقا من قول الله تعالى في سورة النساء: “يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم”.
وفي مستهل هذا الدرس، أبرز المحاضر أنه “من تمام التفضل والإنعام أن من الله تعالى علينا بنعمة الإسلام، وخلقنا بهدي القرآن، وجعل من تمام ذلك التخلق التحقق بالبيان الدال على وجوب طاعة الإمام بما يضمن مصالح الأنام، وذلك تحت الإمامة العظمى التي تفوض لمن كتبها الله له مسمى النيابة عن رسول الله ﷺ في تبليغ الشرائع وسد الذرائع”.
ولفت الانتباه إلى أن إمارة المؤمنين “صفة حكمية توجب لمن قامت به حماية المقاصد الدينية وصون الأحكام الشرعية بما يوافق قيم الإسلام السامية”، مستشهدا، ضمن التصديقات الدالة على حجيتها، بقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم).
ومن الدلالة بالمعقول، يضيف المحاضر، اتفاق العقلاء وإجماع الحكماء على أن لا قيام لمجتمع إنساني ولا استقرار لمنتظم بشري إلا بالانقياد لإمام يرعى أحواله ويسوس أموره ويضمن اطمئنانه، مشيرا إلى أنه من الدلالة بالمعمول ما تسمى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعمل به من بعده من أمراء وخلفاء المسلمين.
وأبرز أن “المغرب الشريف لم يشذ عن التمسك بالإمامة العظمى حيث تعلق المغاربة بها منذ القرن الثاني الهجري على عهد الأدارسة، واستمر ذلك التعلق موصولا لدى ملوك الدولة العلوية الشريفة؛ يشهد له ترؤسكم مؤسسة إمارة المؤمنين، وحفاظكم على رمزيتها، وحرصكم على القيام بموجباتها وفاء بقدسيتها وإخلاصا لمشروعيتها، وهذا ما تفردتم به في عالم المسلمين باعتباره ثابتا من ثوابت الأمة وخصيصة خصكم الله تعالى بها”.
وفي ما يتعلق بحضور الإمامة العظمى في الفكر الديني بالبلدان الإفريقية، اعتقادا وسلوكا وولاء، أوضح مفتي تنزانيا أن “الناظر في المرجعية الدينية لعلماء إفريقيا يجدها مبنية على خيارات فيما يرجع للمذهبية الفقهية وانتماء إجماعي فيما يتعلق بالعقيدة الأشعرية التي من أهم مباحثها إمارة المؤمنين التي شرفكم الله بتقلدها؛ ذلك أن الحديث عن الإمامة العظمى من صميم المباحث العقدية لدى الأشاعرة، وهي مما نطقت بها البينات وزكتها العقول الراجحات”.
وشدد على أن للإمامة العظمى “حضورا في الفكر الديني لدى علماء أهل السنة والجماعة. وإيمانا من علماء إفريقيا بموقعها في البحث الإسلامي ومكانتها في الدرس العقدي، فقد أولوها ما تستحقه من عظيم الأهمية وجليل التزكية واعتبروها أمانة يجب التشوف إليها في شخص من ناطه الله بها فاشرأبت إليكم يا مولاي الأعناق من كل الآفاق؛ ذلك أن إمارة المؤمنين التي خصكم بها الله تعالى عمل بما ورد في القرآن الكريم ودرج عليه ولاة الأمر المهتدين والسلف من أجدادكم المنعمين”.
وبحكم انتماء جمهور علماء إفريقيا للمذهب الأشعري، يضيف المحاضر، فقد تبوأت إمارة المؤمنين مكانة مركزية في فكرهم الديني والعقدي.
وفي هذا الصدد، استحضر الأستاذ أبو بكر الزبير مبوانا ما يجمع المغرب الشريف بإفريقيا من روابط دينية وروحية وحضارية، ذلك أن مشايخ الصوفية في مختلف البلدان الإفريقية يعتبرون إمارة المؤمنين مؤسسة يفتخرون بها ويعربون عن شرف الانتماء إليها والدعاء للقائم عليها، وذلك بفضل حرص الملك محمد السادس على أن تكون إفريقيا في صلب اهتمامه، مشيرا إلى أن معظم مسلمي إفريقيا على صلة بمؤسسة إمارة المؤمنين بالمغرب عن طريق الرحلات العلمية وشيوخ الصوفية السنية.
وأبرز أن قيام الملك بواجبه تجاه القارة الإفريقية “مبني على ما يجمع المغرب بإفريقيا من روابط روحية تجلت آثارها في تعزيز أواصر المحبة والولاء لأمير المؤمنين نصره الله”.
وتابع بالقول: “إن اعتزازنا نحن الأفارقة بمؤسسة إمارة المؤمنين وما تمثله من رمزية دينية في البلدان الإفريقية عموما له استمداد مما درج عليه أسلافنا من التعلق بها عبر تاريخ الدولة المغربية؛ ذلك أنها أمانة تقضي بواجب المسؤولية تجاه كل المسلمين، لذا بادرت مجموعة من مناطق جنوب الصحراء، وبعض بلدان إفريقيا ببيعة أمير المؤمنين بالمغرب.
وفي السياق ذاته، أشاد مفتي تنزانيا بالمبادرات التي يطلقها الملك محمد السادس، من خلال تقلد جلالته إمارة المؤمنين، ومنها الدعوة إلى تصحيح صورة الإسلام لدى المجتمع الدولي، والعناية بوكالة بيت مال القدس الشريف لتقديم العون للسكان الفلسطينيين في المدينة المقدسة، وكذا إنشاء مركز محمد السادس لحوار الحضارات بالشيلي عام 2004، باعتباره جسرا للتواصل الحضاري بين المغرب وأمريكا اللاتينية.
من جهة أخرى، توقف المحاضر عند مقومات الفكر الإسلامي الحاضرة بجمهورية تنزانيا الاتحادية “بفضل جهود مسؤولين وعلماء مبرزين أخذوا على عاتقهم النهوض بالفكر الديني عقيدة وفقها وسلوكا”، مستحضرا، في هذا الإطار، مبادرة الملك بإنشاء مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة التي تروم توحيد وتنسيق جهود العلماء المسلمين، بالمغرب وباقي الدول الإفريقية، للتعريف بقيم الإسلام السمحة ونشرها وترسيخها.
وقال إن هذه المؤسسة “مكرمة منكم وحدت جهود علماء إفريقيا عامة لخدمة الإسلام والمسلمين تحت رعاية إمارة المؤمنين، ومن مظاهر تلك الخدمة قيام فروع المؤسسة بالبلدان الإفريقية بتفعيل برامج أنشطتها العلمية السنوية، ومنها تنظيم مسابقة في حفظ القرآن الكريم وتجويده وترتيله، التي كان لبلدنا شرف احتضان نهائياتها في المسجد الذي يحمل اسمكم الشريف بدار السلام. وتلك سنة حسنة خلدتم بها عطفكم وعنايتكم ببناء عدة مساجد في ربوع القارة الإفريقية”.
وأضاف: “لذا حق لنا أن نعتز بكم وننتمي إلى مؤسستكم، ولا نملك في كل لقاءاتنا العلمية وأنشطتنا الدينية إلا أن ندعو لكم بالنصر والتأييد لمجهوداتكم في حفظ كليات الدين، فطوبى لنا نحن الأفارقة بما من الله به علينا من نعمة إمارة المؤمنين التي امتدت أفضالها على سائر المسلمين خدمة للدين ورعاية لمصالح المؤمنين”.
من جانب آخر، أكد مفتي تنزانيا أن مكونات المنظومة الدينية بالمغرب الشريف تعتبر “الأنموذج المحتذى والنبراس المقتدى بفضل ما ناطكم الله تعالى به من شرف تقلدكم الإمامة العظمى التي تنوبون بها عن رسول الله ﷺ”.
وتابع بالقول إن “الله تعالى قد بوأكم مكانة سامية لتكونوا مفخرة للمغاربة، وعمدة للمشارقة، وقبلة للأفارقة. فأياديكم السابغات لها حضور في شتى المجالات، منها إحداث مؤسسة محمد السادس لنشر المصحف الشريف، التي عم نفعها سائر البلدان الإفريقية، وإنشاء معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات، الذي أسهم في تأطير عدد من الطلبة الأفارقة”.
كما أشاد بمبادرة الملك محمد السادس المتمثلة في “بناء معلمة دينية عظيمة بدار السلام هي مسجد محمد السادس، الذي جعلتم منه منارة شامخة للدين والعلم بشرق إفريقيا، وأصبح منذ افتتاحه قبلة للمصلين ومحجا للمسترشدين (…) فجزى الله جنابكم الشريف على بناء هذا الصرح الإسلامي العتيد، الذي يعد هدية من مملكتكم إلى شرق إفريقيا، ورمزا لإعلاء كلمة الإسلام في هذه الربوع”.
وتضرع مفتي تنزانيا للباري عز وجل بأن ينصر أمير المؤمنين حامي حمى الملة والدين، ويحفظه بما حفظ به الذكر الحكيم، ويجعله ملاذا للعلماء العاملين في سائر بلدان المسلمين، ويحفظ ولي عهده الأمير مولاي الحسن، ويشد عضده بصنوه السعيد الأمير مولاي رشيد وباقي الأسرة العلوية الشريفة، كما توجه إليه، جل جلاله، بأن يرحم جلالة المغفور له محمد الخامس، ويطيب ثرى جلالة المغفور له الحسن الثاني، وسائر المسلمين أجمعين.
وفي ختام هذا الدرس الخامس من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية، تقدم للسلام على أمير المؤمنين الملك محمد السادس، كل من الأساتذة يحيى استاقوف رئيس جمعية نهضة العلماء بأندونيسيا، وعبد الحكيم الأنيس كبير الباحثين الاول بدائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري في دبي بالامارات العربية المتحدة، ومحمد الموساوي رئيس اتحاد المساجد بفرنسا، وعبد العزيز القروي من علماء ليبيا.
كما تقدم للسلام على جلالته، إسماعيل لطفي جافاكيا رئيس جامعة فطاني بالتايلاند، وعزيز حسو فيتش رئيس المشيخة الإسلامية في كرواتيا، والشيخ عريف عبد الله سكراد رئيس الجالية المسلمة بتيمور، وعومارو كامارا أبو بكر رئيس فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بليبيريا، ومحمود مال باكاري رئيس فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بالكامرون، وثاني عبد الرحيم شئت رئيس فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بجمهورية البنين.
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.