قال الكاتب المصطفى حميمو إنه “في القرن التاسع عشر وحتى بداية القرن العشرين كان المعيار في اختيار كبار رجال المخزن ولا سيما من دونهم، هو الشطارة والحذق في خدمة السيّد وخدمة النفس، بغض النظر عن المستوى الثقافي”، مضيفا أن “من بينهم الوزير المهدي المنبهي الذي وصل إلى مقام رفيع من بعد ما بدأ مشواره كجندي بسيط في جيش المخزن”.
وتطرق حميمو، في مقال له بعنوان “قصة ارتقاء ثم تقهقر الوزير المهدي المنبهي”، إلى عدد من المراحل التي مر منها المهدي المنبهي، من خلال محاور “عن بداية أيام سعد المنبهي بدار المخزن”، و”إخفاء موت با حماد وارتقاء المنبهي إلى مقام وزير”، و”المنبهي في مهمة دبلوماسية ببريطانيا”، و”إرهاصات تقهقر مقام المنبهي”، و”محنة المنبهي مع الثائر بو حمارة”، و”عزل المنبهي من الوزارة”، و”دخول المنبهي تحت الحماية القنصلية البريطانية”…
هذا نص المقال:
لما تتساءل عن المستوى الثقافي لكبار رجال المخزن طيلة تاريخ المملكة يتبادر إلى ذهنك مثلا، الشاعر والأديب الكبير عبد العزيز الفشتالي وزير أحمد المنصور الذهبي. وأمثاله من كبار رجال القلم في بلاطات السلاطين كثيرون. لكن في القرن التاسع عشر وحتى بداية القرن العشرين صار المعيار في اختيار كبار رجال المخزن ولا سيما من دونهم، هو الشطارة والحذق في خدمة السيّد وخدمة النفس، بغض النظر عن المستوى الثقافي. ومنهم الحاجب أحمد بن موسى المعروف بــ “با احماد” الذي ورث المنصب أبا عن جد. ومنهم من قلّ من يعرفه بالرغم من المقام الرفيع الذي وصل إليه من بعد ما بدأ مشواره كجندي بسيط في جيش المخزن. وهو الوزير المهدي المنبهي. الذي يروي قصة ارتقائه ثم تقهقره، هو صديقه الفرنسي ﯕبريال ﭬير مصور السلطان عبد العزيز. يرويها كما سمعها منه لقرائه الفرنسيين في كتابه المنشور تحت عنوان Dans l’intimité du sultan بمعنى في حميمية السلطان. وفيما يلي ترجمة القصة إلى اللغة العربية.
عن بداية أيام سعد المنبهي بدار المخزن
خلال الأشهر القليلة التي سبقت وفاة با حماد، يقول ﭬير، كان يُرى أحد كتابه يمشي ذهابا وإيابا في قصر مراكش. ذلك هو المهدي المنبهي. كان شابًا لا يزال يتمتع بطلعة بهية وعيون لامعة وغريبة، مثل عيون وحش مفترس صغير. كان هو الوسيط المعتاد بين الوزير الأعظم القدير وبين سيده الشبح. كان يجلب الرسائل والأوراق والوثائق يوميًا ويسلمها للعبيد ويطلب التوقيع ويعيد الإجابات. من وقت لآخر كان سيدنا يتكرم عليه باستقباله والحديث معه بخصوص بعض الشروح الشفوية. فاعتاد السلطان على رؤية الشاب المهدي الذكي والعفوي، وأعجب به. وتلك كانت بداية سعده.
عندما كان طفلًا بقبيلة المنابهة، كان نكرة من بين عموم الناس. كانت بداياته غامضة. بدأ حياته كجندي من جنود المخزن في حملة عسكرية. مستواه التعليمي متواضع. كان يجيد فقط القراءة وبالكاد كان يكتب. لا أعرف بالضبط كيف وصل إلى بيت با حماد. لكن هناك بدأ تكوينه. هل كان يجرأ حينها على الحلم بالمصير اللامع الذي كان ينتظره وبمسيرته الحافلة بالأحداث ؟ مسيرته المتأرجحة بين الفوز بالامتياز الأكبر والسقوط غير المستحق ؟ أمر بعيد الاحتمال. فقط مصادفته لحدث من الأحداث اليومية هو الذي حدد مصير حياته. ألا وهو وفاة الوزير با حماد.
بمجرد وفاة الصدر الأعظم، كان من الطبيعي أن يكون المنبهي هو الذي تلقى التعليمات بالذهاب لإخبار السلطان. اختفاء رجل لعب دورًا في المخزن مثل ذلك الذي لعبه باحماد كان يندر بعواقب وخيمة وبأن يكون مؤشرًا على حدوث تمرد جديد.
يمكننا أن نتخيل حالة ذعر واستياء العاهل عبد العزيز لما وصله الخبر. السلطان الشاب الذي كان محجوبا من قِبل الرجل الرهيب الذي غادره للتو تركه بشكل ممنهج في جهل تام بكل ما يتعلق بالسياسة وبإدارة الإمبراطورية. فلم يكن مستعدًا بأي حال لممارسة أية سلطة. ربما ما فكر أبدًا في احتمال أن جزءًا، مهما كان صغيراً من المسؤولية قد يؤول إليه في يوم من الأيام. وما كان المنبهي هو من يكون في الوضع الذي يسمح له بتوجيهه وتنويره بشأن واجباته. هذا الشاب كان محصوراً في وظيفة ثانوية ككاتب وساعي بريد، فلم يتابع هو أيضًا إلا من بعيد تشغيل الآلة الحكومية البدائية التي يُحكم بها المغرب. ومع ذلك كان هو أول من طلب منه السلطان رأيه: “ما العمل؟”. فأجاب المنبهي : “مولاي استعرض قواتك”.
ولم يكن ذاك مجرد رأي الجندي السابق المولع بالمسيرات والعروض العسكرية، أو الذي غامر بمجرد نصيحة غامضة بدلاً من التزام الصمت. بل من تحدث هكذا كان رجلاً حكيمًا، يعلم جيدًا أن هذا الاستعراض سيسمح للإمبراطور بجس نبض الجيش وقادته للوقوف على موقفهم منه. وسي المهدي وضع نفسه رهن إشارة سيده كي يقوم له بكل شيء. ما كانت تنقصه مهارات التعامل مع الآخرين، فقط كان يفتقر إلى الفرص لإثباتها.
إخفاء موت با حماد وارتقاء المنبهي إلى مقام وزير
فتمكن سي المنبهي من إبقاء موت باحماد طي الكتمان قدر الإمكان، كما سبق أن فعل هذا الأخير مع وفاة السلطان مولاي الحسن. وفي اليوم التالي، ولأول مرة وصل السلطان الشاب أمام جنوده بمفرده وسط حاشيته ومن دون أن يحجب ظلّه فوق الرمال ظلُّ وزيره الأكبر السابق والمستبد. وسارت الأمور على ما يرام حتى انتهى الحفل بأكبر قدر ممكن من السلاسة، وإن كان من الواضح أن السر المكتوم قد تسرب قليلاً على الرغم من كل الجهود.
ومع ذلك، للمزيد من الاحتياط، وبالاتفاق مع عبد العزيز الذي كان سعيدا جدًا بأن وجد فيه مرشدًا أقل استبدادًا، أمر المنبهي بالقبض على الفور على الأخويين للوزير الراحل باحماد. أحدهما، وهو محمد الصرير، كان وزير الحرب. والثاني كان وزير المالية. وكالمعتاد في مثل هذه الحالة، تمت مصادرة كل أموال المحتجزين. وأميل إلى الاعتقاد بأن سي مهدي قام هكذا بأول قراراته بضربتين حاسمتين من ضربات رجل متمرس. من جهة أزاح خطر الغريمين ومن جهة أخرى عرض عليه السلطان على الفور خلافة أحدهما وهو محمد الصرير. وما كان ليرفض. وجد نفسه في الثانية والثلاثين من عمره وزيرًا للحرب مع التمتع بكامل الثقة والتفضيل المولويين.
لكن لن أقسم على أن منصبه الجديد بقلب دار المخزن كان دائمًا مريحا ويسيرا. أصوله الغامضة كانت تُنسب إليه أكثر من مرة كجريمة من قبل زملائه المتعلمين والمثقفين الذين كانوا كلهم من القبائل النبيلة ومن عائلات كبيرة. ومع ذلك فقد تبّث نفسه وانتصر، باستعمال الدبلوماسية كلما كان ذلك ممكنًا وباستعمال العنف عند الضرورة. لقد كان قاسياً مع الخصوم الذين لو كانوا مكانه ما كانوا ليرحموه. وقد انتقموا منه في الأخير بكل قوة. لكن قبل ذلك فقد أزال من حوله كل الذين كانوا يزعجونه واستبدلهم بأصدقائه. ولقد كان لديه الكثير منهم في ذلك الوقت.
منذ تلك اللحظة صار المغرب بيد رجلين، السلطان عبد العزيز ومُفضله المنبهى. وكان ينقصهما ما يلزم من الخبرة لحكمه. فصار على كليهما أن يتعلم فن الحكم بالممارسة. إلا أن وزير الحرب الجديد الذي تولى زمام الأمور ارتكب خطأ فادحا. قرر الاستمرار في ضلال باحماد المشين. قرر هو كذلك إبقاء سيده بعيدا عن شؤون الدولة والسيطرة عليه بحسن العناية به وتشجيعه على خموله ميولاته التافهة والمتوافقة مع عمره وعلى المزيد من التسلية حتى لا يلتفت إلى واجباته فيترك المجال مفتوحًا لأصحاب المطامع الخسيسة. لكن هل يمكننا الحكم بإنصاف على الرجال هناك وفق أخلاقنا ؟
ونفتح قوسا هنا، نستحضر فيه أن المصور ﭬير كان يخاطب قراءه بفرنسا. وفي قوله ذاك ما تعوّد عليه الأوروبيون من العنجهية الوقحة حيال الأفارقة والآسيويين. وكأنما أخلاقهم هي المثالية. ولا يزال الأمر كذلك في فرنسا مثلا، لما يتحرش ساستها بالجالية المسلمة ويشهرون في وجهها يافطة “قيم الجمهورية” كي يشعرونهم بالدونية. لكن قطر انتهزت فرصة تنظيم مونديال 2022 لتشهر بكل فخر وقوة يافطة “القيم النبيلة” التي منعت بها على أرضها مظاهر السلوكيات المنحطة التي طبّع معها الغرب ويُصر على فرضها على بقية العالم. ولو كانت نبيلة حقا لاحتفظ بها لنفسه. فلا يخلو ولن يخلو مجتمع بشري من قيم نبيلة وأخرى شائنة. والتميز يحصل فقط في ترجيح كفة على أخرى. ومع ذلك يبقى المصور الفرنسي هنا شاهد عيان على أحداث هذه القصة التي تعنينا. وفيما يلي بقيتها.
المنبهي في مهمة دبلوماسية ببريطانيا
إرساله في سفارة إلى الملك إدوارد السابع، يقول ﭬير، أثناء التتويج شكل ذروة سعد المنبهي. كان وقتها، إذا ما سُمح لي بالقول، هو أبرز رجل في المغرب من بعد السلطان. كان لديه مواليه، بالمعنى الروماني للكلمة، وبلاطه. صار بإمكانه فعل كل شيء. حتى كانت أوروبا نفسها تتودد إليه. أعني الدول الأوروبية التي كانت تطمح للعب دور في المغرب وكانت تستعد له بمهارة.
إرهاصات تقهقر مقام المنبهي
لكن، كما يقول المثل : “الغائبون مخطئون”. وقد جرّبه المنبهي جيدا على حساب سعده. ما أن غادر الشاطئ المغربي حتى بدأت تحاك الدسائس ضده. لم يحتل رجل بالقرب من صاحب السيادة وضعًا مشابهًا لما كان عليه المنبهي من دون أن يجلب له حظه وحده الكثير من المتاعب. قيل للسلطان أن وزيره المفضل، عند مغادرته البلاد، أخذ معه الذهب، بل الكثير من الذهب المسروق بطبيعة الحال من الخزينة، والذي سيضعه في أمان بالبنوك الأوروبية. وأصر خصومه على مزاعمهم لدرجة أنهم انتزعوا في حقه من الحاكم الضعيف أمرًا بالسجن. وكان من المقرر تنفيذه بمجرد نزول سفارته في مازاڬان.
لكن لحسن حظ المنبهي، كانت المفوضية الإنڬليزية على أهبة الاستعداد لما علم القنصل البريطاني في مازاغان بما صدر في حقه. فتوجه إلى باشا المدينة المسؤول عن تنفيذ االقرار الشريف وأخبره بلهجة حادة أن إنڬلترا ستأخذ بنظرة سلبية للغاية هذا الاعتقال، مضيفًا علاوة على ذلك، أن سي مهدي لم يبلّغ بعدُ السلطان فحوى مهمته بالقرب من الملك إدوارد السابع، وأن الرد الملكي الذي كان مسؤولاً عن إبلاغه لعبد العزيز يشكل بالنسبة له بطاقة أمان التي تضعه بشكل ما تحت حماية إنڬلترا. لما أنا علمت بتفاصيل هذه القصة، سألت نفسي وسألني المنبهي نفسه ذات يوم، ما الذي كانت ستفعله فرنسا ومفوضيتها لو حدث كل هذا عند عودة مثل هذه البعثة الدبلوماسية المغربية من باريس.
ثم اتخذ المنبهي قرارًا صعبًا للغاية. قرار يكشف بشكل لافت للنظر عن طبيعة شخصيته الجريئة. لم يفكر للحظة واحدة في الهرب من العقاب الذي يهدده وو لا في الذهاب بالمال الذي اتهم بسرقته ليعيش في اطمئنان تام بمكان ما تحت دفئ شمس إفريقيا. ومن دون الخوض عن بعد في دفاع غير مجدي عن نفسه قفز على صهوة جواده، ومن دون أدنى خفر سوى كاتب أمين، ركدا معا في رحلة واحدة نحو مراكش حيث كان سيغامر بحريته بل برأسه. قطع مائتي كيلومتر في أربع وعشرين ساعة. ووصل في الليلة التالية إلى منزله المجاور للقصر. وفي صباح الغد الباكر تقدم بنفسه إلى باب ما يسمى باحة الملاهي، حيث كان السلطان يأتي كل صباح. لم يجرأ أحد على منعه من الدخول.
ولما ظهر عبد العزيز ألقى بنفسه عند قدمي السلطان وقال : “أنا عبدك سيدي. افعل ما تريد معي. لكن لا تدينني من دون الاستماع إليّ”. عبد العزيز، الذي كان لوحده من دون من يحرضه ضد المتهم، ومستسلما لميولاته الطبيعية للعطف، أقامه واستمع إليه ثم عفا عنه. فاستعاد المنبهي للتو مكانه في المخزن. لكن بقي من ذلك شيء في نفس السلطان. قد تم اتهام المنبهي بالفساد والابتزاز. ومن أجل الدفاع عن نفسه فهو بدوره وبلا شك وجه نفس الاتهامات ضد الآخرين. عبد العزيز، الذي من الواضح أنه لم ينتظر حتى هذه اللحظة كي تتولد عنده بعض الشكوك في هذا الصدد، صار عنده فجأة اليقين أن كل واحد ممن حوله كان يتنافس مع الآخرين على سرقته أمواله وعلى خيانته.
هو الواثق جدًا كعادته في غيره، والكثير الجود معهم، وغير المكترث بمسألة المال إلى حد الإسراف في إنفاقه، وجد نفسه فجأة من دون دفاع في قبضة عصابة من الجوارح الكواسر. شعر بسبب تصرفاتهم بألم حقيقي. ومع ذلك، عندما تعلق الأمر بإيجاد علاج لهذا الوضع المؤسف، فقد اتخذ منهم موقفا لا يخلو من نوايا حسنة ومن وفاء ومن شفقة عليهم وغيرها من الأحاسيس الرقيقة التي كان من شأنها أن تنزع الرغبة في المقاومة حتى الرجال الطيبين. ولكنها تشهد له أيضًا ببراعة نادرة جدا.
استدعى جميع الوزراء إلى القصر. ووجه لهم اللوم الأبوي، وناشد ما بقي عندهم من مشاعر طيبة. وأخبرهم أنه قد تجاوز عن خطاياهم القديمة، وفتح معهم صفحة جديدة. ثم جعلهم يقسمون في جو مهيب على القرآن أنهم سوف يتخلون مستقبلا عن ممارساتهم الجانحة ولن يقبضوا من الآن فصاعدا أية رشوة من وراء الأوامر التي يُطلب منهم تنفيذها باسمه. فأقسم الجميع على ذلك وباقتناع. هكذا من بين الكل، تمت تبرئة الوزير المنبهي من كل أخطائه الحقيقية أو المفترضة، واستعاد مقامه بالقرب من السطان وهو أقوى مما كان. واستمر جوه صافيا من دون غمام، إلى حين خرج الروقي بو حمارة متمردا.
محنة المنبهي مع الثائر بو حمارة
صار بو حمارة يتقدم على الأرض. وحينها فقط سُمح لعبد العزيز بمعرفة جزء يسير من الحقيقة. لكن الوضع كان قد ازداد سوءا. فاجتمع كبار رجال المخزن في مجلس لتداول الأمر، والروقي ما يزال يتقدم. ولم يعد هناك ما يكفي من المال لدفع رواتب الجنود وشراء الذخيرة. وجاءت اللحظة التي اتضح فيها أن مقاومة المتمردين صارت مستحيلة. حينها فقط تم الاتفاق على أنه أصبح من الضروري الاعتراف بكل شيء لسِدنا. ولكن مَن الذي سيتولى هذه المهمة المحفوفة بالمخاطر؟
كانت تلك لحظة عاصفة من المداولات. دافع كل من الحاضرين عن نفسه وألقى بمسؤوليات ما يقع على الآخرين. لكن سرعان ما برز إجماع مثير ومتوقع ضد المنبهي كوزير للحرب. وأصبح فجأة هو كبش الفداء. ألم يكن هو صاحب التأثير الأكبر على السلطان الشاب، لما كان يشجعه على الانغماس في التسلية وفي إهدار المال، أو على الأقل كان يتسامح معه في كل ذلك وعن قصد ؟ لذا كان عليه أن يعترف بذنبه. هكذا، إذا جاز لي القول، فقد تحالفوا واتفقوا على ضرب عصفورين بحجر واحد. من جهة، سيضعون أنفسهم في موقف سليم مع السلطان لما يخبرونه أخيرًا بالصعوبات التي لم يعد من الممكن إخفاؤها عنه. ومن جهة ثانية سيورّطون خصمهم اللدود في حبال مكيدة محبكة جيدا لما يكلفونه بعبء تحمل المهمة الخطيرة. وكان أكثر من واحد من بين هؤلاء المتآمرين يأملون أن عبد العزيز، في لحظة الغضب الأولى، سيسجن على أقل تقدير مبعوثم البئيس ويخلصهم أخيرًا من ذلك المفضل عليهم عنده. لكن المنبهي بتحديه المعتاد وبشجاعته قبل بالمهمة.
حظ سعيد جعلني شاهدا على مقابلة السلطان مع وزيره. وهذا المشهد القصير لا يُنسى بالنسبة لي. كان عبد العزيز في ذلك الصباح في باحة الملاهي على عتبة ورشة العمل التي كنت أشتغل فيها. وكان يشاهدني، وأنا أقوم بذلك، بمرح وخالي من الهموم، لما تقدم إليه المنبهي وطلب التحدث إليه. لم يكن هناك شيء من مظاهر الجو الرسمي في المقابلة. في بضع جمل قصيرة، أوضح المنبهي ما كان سيقوله. وفجأة صار السلطان جاداً. لقد استمع من دون أن يقطع سرد هذه الاعترافات وهذه الوقائع. لم يقم بإيماءة ولا ملاحظة واحدة ولم يطرح سؤالاً. ولما انتهى المنبهي من عرضه، بينما ظل سِدنا صامتا، انحنى وسأل:
ما العمل؟ أمرني.
اذهب على رأس القوات، ولا تعاود الظهور أمامي إلا ومعك الروڬي.
أعتقدُ أنا أنه من غير الضروري إخبارك أن القائد العام الشجاع لقوات جلالة السلطان الشريف قد عاد إلى فاس سالمًا ومعافى. لكن عندما عاد من الصيد، من صيد الروڬي، من دون القبض عليه، فقد المنبهي علو مقامه بجانب سيده. وأخذ مكانه بجانب عبد العزيز شخص آخر من المقربين منه. وقد كان هو الحاج عمر التازي شقيق وزير الماليه.
عزل المنبهي من الوزارة
استأنف المنبهي تسيير وزارة الحرب، لكن من دون حماسة ولا اقتناع. وصار يشعر يومًا بعد يوم بتزايد إهماله من قبل سيده. لقد أصبح مجرد وزير كغيره من الوزراء. كان السلطان يرسل من وقت لآخر في طلبه لكن فقط لاستشارته كمجرد خادم من درجة أعلى قليلاً من غيره. فعاش لمدة ثمانية أو عشرة أشهر مرهقًا وحزينًا، علاوة على كل ذلك ومتدمرا من تشفّي زملائه الذين تأكدوا أخيرًا من تغلبهم عليه.
صار يرى الساعة التي سيكتمل فيها سقوطه فلم ينتظرها. بل مثل بطل الدراما الرومانسية أراد أن يختفي حتى لا يذوق مرارة انهياره. فطلب الإذن للقيام برحلة إلى مكة. لم يتردد عبد العزيز للحظة في منحه إياه. وقد كان ذلك في حقه بمثابة الضربة القاضية. ولا سيما إذا ما كان يغذي سرًا الوهم بأنه سيُحتفظ به في اللحظة الأخيرة، فلا بد من أن سي مهدي قد أصيب بخيبة أمل قوية. وبرحيله ذاك ارتكب خطأ لا يمكن إصلاحه. في اليوم التالي حل محله في وزارة الحرب سي الڬباس، ابن عم بن سليمان وزير الخارجية.
ومع ذلك لم يتخلَّ عن الأمل في العودة إلى النعمة. حتى من بعيد كان يخطط لذلك. حاول ألا يترك العلاقات الضعيفة التي ما زالت تربطه بالسلطان تنكسر تمامًا. كان يفكر في طرق للاستحواذ من جديد على عقل سيده. وكما في الماضي لما كان مهتمًا بالبحث عن آليات اللعب واللهو التي كانت تأسره، اشترى من أجله مطبعة كاملة من القاهرة كهدية يقدمها له عند عودته. وكان يكتب إليه في مناسبات مختلفة. وللتأكد من وصول رسائله إلى وجهتها بالضبط، تفضل عليّ أنا ومنحني ثقته لإيصالها بنفسي. كان يطلب مني تسليمها إلى السلطان يدا بيد. وهذه واحدة من آخر المراسلات البريدية التي كان لطيفًا معي بما يكفي لإرسالها إليّ، والتي تشهد على الاحتياطات التي كان يتخذها. أترجمها حرفيا، بالرغم مما يعاني من ذلك تواضعي.
العزة لله !
إلى العزيز اللبيب، إلى العالم والمعلم الجليل ڤير، الفرنسي.
بعد السؤال عنك وعن أصدقائي، أتمنى أن تكون بخير! تلقيت رسالتك وفهمت كل ما كتبته لي. لدي ثقة كاملة في صداقتك. ربنا يحميك ! تجد طيه رسالة تسلمها يدا بيد إلى جلالته مولي عبد العزيز حفظه الله! حتى لا يعلم بذلك أحد. لقد وصلت مصر في حالة جيدة. وقريبا إن شاء الله سأكون في طنجة. وسأكتب إليك خلال يومين أو ثلاثة. ولا تنسى تقبيل يد سِدنا بالنيابة عني. شكر الله لك ! والسلام.
29 صفر 1322] مواق 7 مايو 1904 [
مهدي المنبهي
على ماذا كانت تحتوي تلك الرسائل التي كنت أنا مسؤولاً عن إيصالها ؟ لن أعرف ذلك أبدا. وما هو الأثر الذي كان المنبهي يأمل أن يكون لها على عقل عبد العزيز المتىردد ؟ كان معروفًا، على ما أعتقد، أن عودته كانت قريبة. والمكائد الشرسة بدأت من جديد تحاك ضده داخل المخزن ومع السلطان، حيث كان يمكن الاعتماد على مساعدة مفضله الجديد الحاج عمر التازي.
وصل المنهي إلى طنجة. ومن هناك كتب مرة أخرى إلى السلطان يعلن عودته وأنه رهن إشارته. عبد العزيز الذي كان في الوقت نفسه مستاء منه ومترددا، لم يجرؤ على التعبير عن إرادته. فسلم الرسالة لوزرائه وقال لهم : « وانظر ما العمل وقرروا بأنفسكم»، متخليا بذلك عن مفضله السابق بسبب ضعفه، وتاركا مصيره تحت رحمة الأحقاد المتكالبة عليه. وبالتعويل على ضعف سيدهم، تجرأ الوزراء على اتخاذ الإجراءات القصوى في حق المنبهي، وهي نفس الإجراءات التي سبق لعبد العزيز أن اتخذها عدة مرات، لكنه ظل يخشى من تنفيذها. قرروا اعتقال المنبهي ومصادرة جميع ممتلكاته.
دخول المنبهي تحت الحماية القنصلية البريطانية
كان سي مهدي حينها ما يزال في طنجة، وتوقع وصول جنود المخزن للقبض عليه. بينما تم اعتقال كاتبه. فلجأ إلى المفوضية الإنجليزية التي حمته مرة أخرى والتي بدأت بضمان حريته من حيث جعلته يتجول في المدينة تحت حمايتها، من دون القلق ولو للحظة واحدة. ثم جعلته يحتفظ بجميع ممتلكاته في طنجة واشترت منه الباقي بأثمان جيدة.
عندما كنت أنا أستعد للعودة إلى فرنسا، عبرت طنجة من حيث سأسافر. فذهبت لأقوم بزيارة مجاملة لهذا الرجل الذي كان دائمًا لطيفًا معي، والذي أظهر لي ثقة كبيرة. سقوطه المدوي مع حالة الإهمال التي عاشها، جعلتي أكثر تعاطفاً معه من أي وقت مضى. وجدته مستسلما لمصيره، وما يزال يكن احترما كبير وحبا دائمًا للسلطان، من بدون لا مرارة ولا أحلام. وهنا انتهى حديث المصور الفرنسي.
المنبهي عاش حتى سنة 1941. ولم نجد له ذكرا طيلة تلك الفترة من عهد الحماية. هكذا يكون قد عاد نكرة كما بدأ، ربما بسبب مستواه الثقافي الذي ظل متواضعا بالرغم من تجربته السياسية في مقام عالي بدار المخزن. وبخصوص ثروته لم يتحدث ﭬير عن قصريه اللذين شيدهما في فترة وجيزة من حكمه كوزير مفضل لدى السلطان. وهي الفترة التي عرف فيها المغرب أشد الأزمات المالية والاجتماعية. أحدهما قصر المنبهي بفاس الذي تم فيه التوقيع على معاهدة فاس سنة 1912. ثم صار مقرا لإقامة المقيم العام الفرنسي الماريشال ليوطي. واليوم يتم استخدامه كمطعم للمجموعات السياحية.
وثانيهما قصر المنبهي بمراكش على مقربة من مدرسة بن يوسف العتيقة. تحول القصر سنوات بعد تشييده إلى مقر إقامة باشا مراكش التهامي الكلاوي. أقام فيه لفترة معينة قبل أن يغير مكان إقامته. وتحولت ملكيته بعد الاستقلال إلى الدولة المغربية، إذ صار في عام 1960 أول مدرسة للبنات بمدينة مراكش. لكنه تعرض للإهمال لسنوات طويلة فقد خلالها بريقه وبهتت قيمته، قبل أن تقرر مؤسسة عمر بنجلون إعادة الحياة لجدرانه عام 1997م لتجعل منه متحفا المعروف بمتحف مراكش.
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.