أخر الاخبار

عبد الله بن ياسين

 محمد علي الكتاني

يزخر التاريخ المغربي بكثير من الوجوه اللامعة التي تستحق من الباحثين والمنقبين أن يميطوا عنها اللثام، وان يظهروها للعيان بارزة المعالم، سافرة الجمال وضاحة الجبين.


ورغم أن السير في هذا الطريق شائك ووعر، ويتطلب الكثير من الصعوبات ويحتاج إلى كثير من الجهود، فان النتيجة حسنة على كل حال، وفيها خدمة لمظهر من مظاهر عزتنا ما زال الستار لم يكشف عنه بعد..

عبد الله بن ياسين

"هذا ضريح الفقيه الصالح والعالم الناصح مولانا عبد الله بن ياسين الجزولي مهدي المرابطين لدولة لمتونة، توفي رحمه الله شهيدا في حرب برغواطة سنة إحدى وخمسين وأربعمئة هجرية، وكان شديد الورع في المطعم والمشرب".

بهذه العبارات المقتبسة من كتاب "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى" والمكتوبة بخط مغربي على رخام أبيض، يستقبل ضريح عبد الله بن ياسين الزوار والراغبين في الترحم على زعيم روحي انطلق بدعوته الإصلاحية من الصحراء الكبرى، ليستشهد على أبواب الرباط.


وأمام الباحث الكثير من الشخصيات البارزة، التي قدمت للبشرية كثيرا من الخدمات، ورفعت رأس الإنسانية عاليا، وبرهنت عن حيوية جديرة بالإعجاب، وعن ذهبية قمينة بالخلود. وليس ذلك يرجع إلى مقومات خاصة عملت عملها، أو إلى توجيه أو إيحاء أثر أثره، وإنما يرجع ذلك إلى سر يكمن في نفوس هؤلاء، وبواسطته استطاعوا أن يبرزوا على مسرح الأحداث عمالقة من عمالقة التاريخ ودهاقنة من دهاقنته! فالعظمة-أحيانا- لا تستمد مقومات من الدرس والعمل والاحتكاك، ولا تهيئ دعامتها من الاتصال واللف والدوران، ولكنها تبرز سافرة لا يزينها إلا نفسها، ولا بحليها سوى ما يكمن فيها من إبداع، وما يختفي فيها من أسرار..


وأمامي نماذج من هذا الصنف ظهروا على مسرح التاريخ  المغربي، وساهموا في خلق بنيانه، وكانوا لبنة من لبناته. على سواعدهم نهض وبمجهودهم ظهر للعيان قويا يتحدى الزمن ويصعد أمام الأحداث، وليس من شأني أن اختار أو انتقي فكلهم عظيم و فذ، وكلهم كانوا شعلة نبرة تضيء الأرجاء وتوضح السبل، وإنما همي أن أقدم واحدا من هؤلاء كان له هدفه في الحياة، وكانت سياسته تتسم بطابع الدعوة إلى الله، وتحت على التمسك بأهداب الدين، وبواسطة ذلك بنى مجدا وانشأ دولة وخلف ذكرا حميدا.


وسأحاول أن أصور نفسيته وأخلاقه، واستعرض بعض أعماله التي قد تخفى على الكثير، وفيها مظهر عظمته، وتستطيع بهذه الصورة الكاملة أن نجعل القارئ يحيا مع هذه الشخصية، ويتقمص حاضرها، ذلكم الحاضر الذي تألقت فيه وشهدت مظاهر انتصار، وعوامل نجاح، وظهر فيه الصراع القوي بين الإيمان والجهل والعقيدة والتعصب.


وبعد، فمن هو صاحب هذه الشخصية ؟ أنك ولا شك عرفت أنه البطل المجاهد ابن ياسين الجز ولي، مهدي المرابطين، وباعث الروح في قبائل الصحراء. وأحب أن ألاحظ هنا ظاهرة واضحة في ظهور الدول التي تعاقبت على الحكم في بلاد المغربية، فغن ظهورها كان يعتمد-من جملة ما يعتمد عليه- على دعاة دينيين أو على حركة دينية، وبهذه الوسيلة كانت الدول القائمة تجد سندا يدعم لها النجاح، ويقودها إلى الفوز، فلم يسجل التاريخ أن دولة في المغرب اعتمت على حركة سياسية ظاهرة، أو دفعت المؤسسين لها دوافع تهدف إلى المصلحة الشخصية أو التملك لأجل الملك. وهذا أن دل على شيء فغنما يدل على تمسك الشعب المغربي بعقيدته، وإيمانه العميق الذي لا يتطرق إليه الشك، أو يعتريه الاضطراب. وتلك هي السمة التي جعلت هذا الشعب يتكتل ويتحد ويمتزج، رغم اختلاف عنصر السكان، فانمحت الفوارق وضعفت العصبيات، وتلاشت الحزازات التي تنشأ عن اختلاف الدم، وأصبح الشعب عنصرا واحدا تثور ثائرته حين يرى الوطن في خطر، وتدفعه روحه المتحدة المنسجمة إلى الثورة على الأوضاع الفاسدة، فيظهر الزعماء سواء أكانوا من العنصر العربي أو العنصر البربري.


ولا حاجة إلى استعراض التاريخ، فيكفي ظهور الدولة المرابطية، هذه الدولة اللمتونية التي تنتمي إلى صنهاجة ذات الفروع العديدة والتي كانت تقطن الصحراء المغربية، وتعيش فيها منعزلة، طعامها اللحم واللبن، وكان يمكن أن يظلوا في صحرائهم تائهين، يسيطر عليهم الجهل، وتطغى عليهم الحروب، ولولا أن ساقت إليهم الظروف الداعية ابن ياسين، الذي أدرك ببصيرته أن قوة كامنة، تختفي في هذا الأديم، وان بالإمكان لو وجدت الهداة والمرشدين أن تبرز للعيان قوية جبارة، وان هذه الطوائف لا تستطيع أية قوة مهما كانت أن توجد صفوفها سوى الدين، فهو الشعاع السحري الذي ينفذ إلى الأعماق، ويتغلغل في الأفئدة، فيلين القلوب القاسية والأفئدة الصلدة، ويبعث في النفس شعاعا من الأمل، ويفتح أمامها نوافذ المعرفة واليقين، فتتحدى الصعاب وتهزأ بالمخاطر. وسلك هذا المنهج فنجح فيه كل النجاح، واستطاع أن يجعل من هؤلاء الذين لم يعرفوا طعم الخبز ولا تذوقوا لذيذ الطعام، يسيطرون على دولة الأندلس ذات الرفاهية الممتازة والنعيم المتدفق.


ولنرجع إلى عبد الله بن ياسين لنبدأ القصة من فاتحها. فمن هو عبد الله بن ياسين هذا ؟ لسنا في الحق نعلم عنه شيئا في مراحل حياته الأولى، وكل ما يذكره عنه التاريخ انه كان تلميذا مخلصا لشيخه (وكأك بن زالو اللمطي)، المربي الصوفي الذي كان يقطن السوس، كما أن النسابين يعرفونه بأنه (عبد الله بن ياسين بن مكوك بن سبر بن علي بن ياسين الجزولي). وإذن فهو منسوب إلى جزولة وهي فخدة سوسية، اشتهرت بإعلامها ودعاتها، فلا بدع أن ينبغ فيها هذا الصبي الطامح، الذي هاله ما هي عليه البلاد، من جهل وميل عن الطريق المستقيم، فالتجأ إلى هذا المربى العظيم، ليقوي من نفسه الضعيفة، ويبعث في وجدانه الهائج المضطرب نوعا من اليقين، وبصيصا من النور، وليت أدري هل كان الطفل الصغير، يعلم ماذا تخبئه له الأيام، وماذا سيحمل له الغد المجهول..؟ ولسنا ندري أيضا ماذا كان يدور في نفس المريد الصغير، وهو منزو في زاوية شيخه اللمطي، يتابع قراءة أوراده، ويذاكر القليل من العلوم، ويزود نفسه بالكثير من الثقافة الروحية التي هي المعيار الوحيد لصفاء النفوس وصقلها وتطهيرها من ادرأن البشرية ؟ هل سيقف به السبر عند حد التزود بهذا الزاد، أم سيفك عن نفسه هذا الرباط، ويخرج على الناس مذكرا بالآخرة، وواعظا منذرا، يبصر الناس بأمور دينهم، وينهاهم عن الفواحش ما ظهر منها وما خفى ؟؟؟ .


وليس من شك في أن طغيان المادة إذ ذاك كان قويا، فكان الناس يلجأون إلى ثقافة روحية تنقذهم من مخالب الشيطان، ورغم ما في هذا العمل من تواكل، فإنه كان الوسيلة المتبعة التي تحد على الأقل من غرور النفس ومطامعها، وتجعل الإنسان يهرب من الأوضاع الحاضرة، يتقى بورده ما لا يعجبه.


ومهما يكن فإن الظروف كانت تهيئ صاحبنا لدور عظيم الأهمية، وتدخره لمهمة ناجحة سيقلب بها وجه التاريخ.
ويجب أن نوضح أن (الربط) و(الزوايا) كانت إذ ذاك تقوم بمهمة عظيمة الأهمية، فلم تكن تقتصر على إخراج المرشدين وكفى، بل كانت تزود البلاد حتى بالعلماء والمفكرين، الذين تصدوا بعد للتعليم واخرجوا جيلا صالحا، ولذلك فابن ياسين لم يكن يقتصر على ثقافته الروحية، بل كان يزود نفسه بالثقافة العامة، ويدرس ويتعمق في فهم النصوص العلمية، وكان كفاحه العلمي كفاحا مجيدا، هو الذي أهله لكي يبعث الروح في لمتونة وينشئها من جديد.


وفد الحجيج الصحراوي
تعتبر الصحراء المجال الرئيسي للكثير من البرابر وعلى الأخص صنهاجة التي تنتمي على البرانس، والتي تعد من أعظم القبائل، ولا يكاد يخلو أي قطر من أقطاره من بطن من بطونهم. حتى ليزعم بعض النسابين أنهم ثلث البربر... وقد تفرعوا بطبيعة الحال إلى فروع، كانت تتطلع إلى المجد وترنو إلى العلياء... وأتاحت الظروف النجاح لقبيلتين، هما : دولة بني زيري بن مناد، ودولة لمتونة...


وكان للمتونة منذ القديم الرياسة، واستوسق لهم الأمر، وأصبح لهم النفوذ الشامل منذ عهد (محمد ابن تيفاوت) الذي كان شخصية محبوبة ومحترمة. وعند موته انتقل أمر هذه القبائل الصحراوية إلى سيطرة (يحي بن إبراهيم الكدالي) وهكذا دخلت قبيلة كدالة في الحكم وأصبح لها الرياسة على قبائل تختلف في العادات والتقاليد، ما زال الجهل يتحكم في عقول الكثير منها، ولم يكن الدين قد تغلغل في أعماقها إلا سطحيا، فقد كانوا يظهرون التمسك به، ولكنهم لا يحافظون على طقوسه وأحكامه... وقد جرت العادة في البلاد المغربية، انه إذا حل موسم الحج تالف وفد عظيم من الرجال الراغبين في أداء هذه الشعيرة، يترأسه الحاكم العام، ويضم خليطا من الرجال والنساء، ويرجع سبب هذا إلى مخاطر الطريق وطول المسافة وصعوبة السير على انفراد، فاتفق على أن يضفي على الرحلة هذا الجو الرسمي حتى تحتمي من الأهوال. وكان الوفد الحجيجي هذا يعلن عنه من قبل، وينضم إليه كل طالب، فإذا حل الإبان خرج الكل على بركة الله، شاقا طريقه على شكل قافلة تامة التجهيز، مكتملة العدد والعدة، ومستعدة لكل الطوارئ...


وان دل هذا على شيء فإنما يدل على اعتناء المغاربة بهذه الشعيرة، وتفانيهم في أدائها رغم كل الصعوبات.
عندما دخلت سنة 427 هـ استخلف (يحي) على رياسة صنهاجة ابنه (إبراهيم) وارتحل متجها إلى الشرق منبع النبوة، ومركز الإشعاع الروحي. وبعد أن أدى مناسكه، وقام بفروضه على أحسن ما يرام، عاد عوده على بدءه، وجعل طريقه كالعادة مصر فطرابلس فتونس، وفي هذه الأخيرة عرج على بلاد القيروان التي كانت تنافس إذ ذاك قرطبة وبغداد، فهي مركز من مراكز الإشعاع في إفريقيا الشمالية... وفيها المشرعون القانونيون، والفقهاء الممتازون، والوعاظ الأكفاء المرشدون، وأعجب يحي بهذه المدينة، واستطاعت أنوار المعرفة المنتشرة في أبهائها من أن تجلبه إليها وتوقفه إلى حد. وهكذا التقى بالفقيه الزاهد (ابي عمران الفاسي) الذي كان بحرا في العلم لا ينضب له معين، وعينا تتفجر بآيات الحكمة وصادق التعبير. وحضر دروسه واستمع إلى وعظه وهديه، فغشته نوع من الوجوم، وسيطر عليه نوع من الذهول أتكون قبيلة صنهاجة تدين بالإسلام، ولا تعرف عنه أي حكم من أحكامه ؟
- حقا ما أضيع قبيلتي، وما أكثر ما أتحمل أنا من مسؤوليات طوقت بها إلى الأبد. وبدأت الهواجس تراوده وتجسم له الخطر الذي يجتاح قبيلته. وكان لوعظ الشيخ ولأنوار الحج الهادية أثره في نفس يحي الذي صيغ من جديد... فلم يكن من قبل يعرف الإسلام بهذا الصفاء، ولم يكن يعهد فيه هذا الاتساع وهذا اليسر، بل يكن يخطر في نفسه أن قدسية هذا الدين تتعالى إلى هذا الحد.

 

ولم يجد مفرا من أن يقترب من الشيخ، ذاكرا له اسمه ونسبه ومركز حكمه، ومعرفا ببلاده وسكانها، وكيف أن الجهل غلب عليهم،
فهم لا ينقصهم الإيمان ولا تعوزهم التوبة، وإنما تنقصهم الروح المدبرة، واليد الآسية التي تحنو في رفق وتقاوم في غير شدة. وطلب من الشيخ أن يغرس شجرة في هذه التربة وان يمده ببعض طلبته، كي تنفذ هذه البلاد، ويتطهر أهلها.


لم يستصعب الشيخ (أبو عمران) طلبا كما استعصت هذا الرجاء، فالمهمة التي ألقيت على عاتقه صعبة وشاقة، فهذه الصحراء التي سيحملها إليها النور. خشنة العيش، صعبة الحياة، وأهلها أصحاب طباع جافة. وقد ألفوا حياة لا يقدر عليها غيرهم. فمن يا ترى يستطيع أن يقوم بهذه التضحية ويفارق أهله وخلانة، ويهاجر في سبيل هذه المنفعة ؟ كانت المهمة تستدعي كثيرا من البذل وكثيرا من التضحية وليست هي بتلك السهولة التي كان يتخيلها (يحي الكدالي).


البحث عن المرشد
نشر الشيخ الفكرة بين تلاميذته، بعد أن دعاهم لجمع عام، ووضح لهم الهدف الذي يرمي إليه يحي، وندبهم للقيام بالمهمة المقترحة واحدا واحدا... ولكنهم أحجموا وأشفقوا على أنفسهم من هذا المصير المحفوف بالخطر، ولم يستطيع أي واحد أن يكون من ذوي العزائم الصادقة فيقدم على العمل غير هياب ولا وجل... ولكن عزيمة الشيخ لم تلن، وإيمانه لم يضمحل تجاه هذا العصيان الغير المقصود، وكان ما يزال في كنافته سهم يدخره للخاتمة، ولم يجد مناصا من استعماله. فهنالك تلميذ نخلص عرف الشيخ قديما، ويسكن الآن بلد (نفيس) من ارض المصامدة (بلاد السوس) فلم لا يكتب إليه عاه يحقق هذه الرغبة.


ونفذ الفكرة بالفعل، وكتب إلى التلميذ قديما، المربي حديثا، (وأكاك بن زالو اللمطي) كتابا خاصا يرجوه فيه تزويد يحي بمن يثق بدينه وورعه، ولم يكن هذا الشيخ السوسي ليرد هذا الطلب، وهو الذي بنى رباطا للعبادة والعلم، وهيا نفسه للإصلاح والإرشاد... وتبحر في العلم تبحرا جلى به في ميدان المعرفة، واعتبر من رجال التشوف الذين خلصت روحهم من الكدرة، وطهرت نفوسهم من الرجس وأصبح المصامدة يتبركون به ويستسقون به إذا أصابهم قحط... فهل سيعجز وهو صاحب هذه المكانة عن تحقيق المعجزة، وان يبلي هذا الرغبة التي كانت واضحة في وجه يحي المتلهف على النجاح في مسعاه، ورغم أن (وكأك) كان يعلم أنى المهمة لا يقلها إلا زعيم من طراز خاص. فإن بصيرته كانت تستشف المستقبل، وتعلم أن من تلامذته من سيحمل هذه المهمة يصدر رحب، ويرضى بها في إيمان وثقة. وقد كان كذلك حين تقدم احد الطلبة الحذاق النبهاء، وقبل الذهاب بدون تردد، ولم يكن هذا الشخص سوى (عبد الله بن ياسين) الذي وصفه ابن ابي زرع بأنه من أهل الفضل والدين وألقى والورع، والفقه والأدب والسياسة، ومشاركا في العلوم... وليس من شك في أن هذه صفات تؤهل صاحبها لخوض معارك قاسية، وتضمن له النجاح في عمله أن عرف كيف يستغلها الاستغلال المناسب. وهكذا هيئت الأقدار هذه المشاهد المتتالية، لنرى في الختام، هذا المرشد الذي كانت تنتظره الأجيال، يخرج دولة من العدم ويؤسس مملكة اتسعت دائرة حكمها، فشملت المغربين الأقصى والأوسط، والأندلس، وحطمت تيجان ملوك الطوائف.


ابن ياسين يدخل الصحراء
دخل الطالب الصغير إلى هذه البلاد الواسعة دخول المطمئن الواثق بنفسه، ولم يكن يعبا بشيء أو يتخوف من فشل. وإنما كان يعينه أن يتعرف موطن الإحساس في نفوس رعاياه الجدد، فهو بمثابة الطبيب الحاذق لا تلهيه المظاهر البراقة ولا المشاهد المألوفة عن تلمس موضع الداء، ليضع الدواء في مراكزه... ولذلك فغن الاحتفالات والترحيب الذي قوبل به لم يكن ليقعده عن مهامه، أو يلهبه عن مأموريته التي نصب نفسه للقيام بها.
وتصدى للتبشير من أول وهلة، بعد أن ظهر له أن الخطر كامن في كل وجهة. فالعوائد الضالة قد تحكمت فيهم تحكما مدهشا. والتقاليد سيطرت على نفوسهم سيطرة لا تقتلع جذورها بسهولة، فالرجل قد يتزوج من النساء ما يزيد عن الحد الشرعي ويفخر بذلك في يسر وسهولة. والمنكرات قد فشت في الأسواق والمجتمعات وكأنها حالة طبيعية. وليس من السهل عليك أن تخاطب رجلا في شهواته، أو تحد من غلوائه حين تكون المرأة ملك يمينه... ولكنه لم بات ليشاهد هذا الأعمال المنكرة ويسكت، فليرفع الصوت بالنكير، ولكنه كان ينفخ في رماد، ويصبح في واد. أيستمع إليه من غلب عليه الجهل وتحكمت فيه التقاليد ؟ أيجيبه من لا يعرف من الإسلام إلا الشهادة ولا يدري من شرائعه شيئا حتى يرق قلبه ويخشع فؤاده، إذا هو ذكره بأمر الله ونبهه إلى قواعد دينه ؟ لذلك رأينا الطالب العنيد يضرب أخماسا في أسداس، ناسفا على هذا الشعب الشجاع الذي ترك لهذا المصير، ولكنه لم ييأس ولم يتطرق الوهن إلى قلبه وشعوره. فكم من الحالات المستعصية يمكن علاجها ويسهل تلافي مضاعفاتها إذا عرف السبيل إلى ذلك.


وبدا يجرب خطة... خطة أبانت عن فهم سديد ومعرفة دقيقة بنفسيات البشر. فلكي يثير فيهم إحساس الندم، ويوقظ فيهم الشعور بالحاجة إلى التوبة، ويهيج ضمائرهم الخامدة. قرر الاعتزال والابتعاد عنهم، وكأنه يجعلهم وجها لوجه أمام ضمائرهم ويجعل أنفسهم شهداء عليهم في جريمتهم النكراء، أيهيئ لهم القدر من ينتشلهم ويركلون بأقدامهم النعمة ؟
نعم قرر العزلة في جزيرة خاصة، وتنسك هناك مع يحي الكدالي وسبعة نفر من كدالي، وابتنى هناك رباطا للعبادة، يعيشون في عزلة مع أنفسهم يناجون ربهم في صمت، ويهزجون بدعائهم في خشوع، ويصهرون أنفسهم في أتون من الصبر والرضا والقناعة... ولم تكن أخبارهم لتخفى، وقد ارتفعت مكانتهم في أعين الباقين، حيث وسموا بأنهم قروا بدينهم من الضالين المضلين. فلا بدع أن يتأثروا وان تتسرب التوبة إلى قلوبهم، وان تتحرك فيهم عوامل الندم، فيسرعوا إلى يقينهم الذي تركوه، ويئوبوا إلى إيمانهم الذي أوشكوا أن يفقدوه. وها هي طرائفهم تتسارع إلى عزلة ابن ياسين، وتنضم إليه واحدة أثر الأخرى، حتى تكاثر العدد ووصل إلى الألف، وطبيعي أن يفرح بهذا العدد الذي ضم الكثير من إشراف صنهاجة، وان يشرق قلبه بالفوز، فهذه اللبنات ستضع أسس المستقبل. ولذا عكف على تلقين هؤلاء العلم والمعرفة، وسماهم المرابطين. لكونهم دخلوا معه في رباطه.


الشروع في العمل
لم يتوان أو يتكاسل بعد أن حصل على هذا الفوز المبين، فهو كان سيكتفي بأقل من هذا المقدار، وها هي الظروف تساعده، والإقبال يتزايد على برجه الخاص. فهل سيضيع هذه الفرصة، ويوقف هذه الفورة العارمة من القلوب المتلهفة إلى الإيمان، والمتطلعة إليه في ثقة واطمئنان، والي حسبه أن يلقى إليها بالكلمة لتتبعه أني شاء، لا تسأله إلى أين ولماذا... لذلك فليس من اللائق أن يقف برسالته عند هذا الحد، وهو الطموح المتطلع على المعالي، المتشوق إلى بناء عز شامخ. فهو يكمل رسالته التي أنبطت به، وسوف يحمل على البقايا التي ما تزال متلكئة، والتي لم ترد أن تستمع إلى صوت الحق والنجاح، سوف يعطيها الدرس الناجح في حياتها، وسوف يتغلب عليها رغم ترددها وانحيازها على الصمت الرهيب، أيترك هذه القوة تذهب هباء بدون استغلال ؟ لم يكن يريد أن يكون كأساتذته يبنون رباطا للعبادة ثم ينغمرون فيه إلى الأبد. انه يريد انم يخرج إلى الحياة ليجالدها وتجالده، ويعرض إرادته عليها، ويرسم نفسه زعيما رغم انف الزمن.


ولم يرد أن يسلك سياسة الارتجال تجاه الطوائف التي ما زال لم تقبل الخضوع، بل كان يعتمد على لبقاته ومعرفته لنفسيات هذه القبائل المستعصى أمرها. واختار لهدايتها وإرشادها الرؤساء الذين آمنوا به ودخلوا رباطه، فبواسطتهم يستطيع أن يضربهم الضربة القاصمة، ولكن بعد إنذار وتنبيه، وهو كان يومن سلفا أن هذا الإنذار سيكون عديم الجدوى... ولكنها خطة اختطها ويجب أن يستمر فيها إلى النهاية، وقد شارك في الإنذار بدوره واستمر طيلة سبعة أيام، وهو بخوف ويهدد وينذر ويوعد، والقوم لا يزدادون إلا عنوا، ولا يقبلون إذعانا. وهناك شرع في الخطوة الثانية وهي الحرب، فأشهر سيف نقمته، وصب جام غضبه على المخالفين، فانهزم أمام عزيمته قبائل (كدالي) أولا، ثم (لمتونة) (ومسوفة)، وتتابع العصاة يقدمون توبتهم وإخلاصهم. ولم يكن يقبل هذه التوبة بدون أن يضع لها علامة خاصة، ولم تكن هذه العلامة سوى أن يضرب كل واحد مائة سوط، ثم يلقنه بعد ذلك التعاليم الصحيحة، وقد يعرض على هذا النهج بان فيه نوعا من الجفاء والخشونة، وقد يسم بعض المتنطعين هذا الإجراء بأنه تعسفي، ولكن الحقيقة تكذب هذا، فقد تظهر التجربة أن بعض الأقوام لا تنفع معهم إلا الشدة، وانك لو ظللت الدهر كله، تخاطبهم باللين وتتبع معهم الإجراء العادي، تفشل لا محالة، على أن آخر الدواء الكي، فهو قد استنفذ جميع الوسائل ، وأداه اجتهاده وتمرسه بالأحداث إلى أن هذا العمل خير معوان على النجاح...


وقد نجح بالفعل، وكان الجميع يتقبل هذا التطهير الجسدي بغاية الانشراح، وينضمون إلى الغزاة ليحاربوا بقية المخالفين بعزيمة لا تقهر، وإيمان لا يتبدد.
ونلمس ظاهرة جديرة بالملاحظة في هذه الفترة، تدل على حرص هذا الداعية على نشر كلمة الإسلام، وتشجيع القوامين عليه، ذلك أن الأخماس والزكوات وطائفة مهمة من المال التي كانت تتوفر له، لم يكن ليصرفها على نفسه، أو يستمتع بها إرضاء لنزواته، وإنما كان يبعث بها إلى طلبة المصامدة، وقضاة الشرع فيها، تشجيعا لهم على الدراسة، وترغيبا في إحلال الدين محل العوائد والتقاليد...


وأخرى يجب أن نهتم بها، وهي انه بعد موت (يحي الكدالي)، كان بإمكانه لو أراد أن يجمع السلطة في يديه، ويتحكم في مصير الصحراء وبلاد السوس بدون معارض... ولكنه عزم عن ذلك، واكتفى بتلك السلطة الروحية التي ملكها عن حدارة، ونقل الأمر إلى فرع لمتونة الذين نسبت الدولة إليهم يعد، وظهر منهم (يوسف بن تاشفين) بطل الإسلام والمسلمين.
فهذا عن دل على شيء فإنما يدل على انه خط لنفسه خطة لا محيد عنها، وهي التبشير والإنذار ثم التوجيه والإرشاد... وكفى بهذه راحة لضميره وغذاء لوجدانه...


على انه كان يفكر بعيدا، فهو لا يريد أن بقى هذه الدعوة النيرة مقتصرة على هذه الإرجاء، ولا أن يستمر هذا المشعل في هذه الرقعة المحدودة، بل كان يطمح في توسيع دائرتها، وجمع كلمة المغرب الذي مزقته الأهواء وتحكمت فيه النزعات، وأضحى نهبا لإقطاعيين همهم إرضاء نزواتهم في الحكم والرياسة، ولكي يحقق هذا التوسع كان لابد له من أن يبقى بعيدا عن ميدان السياسة والحكم المباشر. وان كان في الحقيقة هو المدبر لكل الأشياء.

المعركة داخل المغرب
لم يبخل الحظ على ابن ياسين ولم يترك ساحته، فها هي الصحراء قد دانت كلها بالطاعة، وها هي إرجاؤها تتجاوب بالإيمان بالله وتسبح بحمده. فهل يقنع بهذا وحده، وهل سيكتفي نفسه الطموح بهذا المقدار من النجاح ؟
أغلب الظن انه كان في نفسه يدبر الخطط ويهيئ البرامج... ولكن الحوادث كانت تسبقه دائما، وها هي بلاد المغرب تتفتح أمامه بسهولة. وها هي سجلماسة تدعوه وتلح في الدعوة، وترجوه على لسان فقهائها وأشياخها، أن ينقل دعوته إلى جوانبها، وينشر فيها النور والإصلاح كما نشره في غيرها...


وسجلماسة قطر مهم يعتبر صلة وصل بين الصحراء وداخل البلاد، وقد اختطها عيسى بن يزيد الأسود على رواية، ومدرار بن عبد الله على أخرى. وكانت تتميز بسمة الحسن في طبيعتها وهيئة بنائها، وقد سيطر عليها بنو مدرار الذين ينسبون إلى مكناسة، وانقرض حكمهم على يد مغراوة... ولكن مغراوة لم تحسن السير مع سكانها، وسرعان ما حل الناس سيطرتهم، وواتتهم فرصة ظهور ابن ياسين فأرادوا التخلص منهم نهائيا... وهكذا رأيناه يفتح هذه المدينة، ويقطع منها دابر الفساد الذي عشعش في قصورها ودورها، وانزل ضربة قاضية بالأمر مسعود ابن واندين الزناتي. وهكذا أصبحت ساحة سجلماسة وبجانبها منطقة درعة مطهرة من الرجس، يعلو فيها نور الحق، ويسيطر عليها داعي الله، وتتابعت المعارك في السوس، بعد أن فتحت الطريق أمام ابن ياسين، فانضمت (جزولة) و (ماسة) ومعقل السوس الحصين (تارودانت)، هذه المدينة التي كانت ترزح غذ ذاك تحت سيطرة طائفة من الروافض...


ولم تكن نشوة النصر لتقف ابن ياسين وصحبه فهم حماة دعوة دينية سمحة، لاتنهار إزاء التطورات، ولا تضعف تجاه المغربات. فليستمروا في سعيهم النبيل، وليقدموا راحتهم ضحية لهذا العمل النبيل. وكانت فورة النجاح تدفعه إلى متابعة الخطو، وتحفزه لمتابعة الجهود... فرأيناه بعد بلاد المصامدة، ونواحي الأطلس الكبير، يضرب ضرباته الموفقة، وتقضم ظهور الضالين المضلين، حتى دخل أغمات دخول الظافرين المنتصرين سنة 449هـ وهكذا حيزت على أجزاء كان من الممكن إلا تحاز إلا بعد أن تسيل الدماء وتفنى الجهود، ولكن سيل النجاح كان يطفى على كل شيء، وإمارات الفوز كانت تخف من كل الأخطار، وتجعل الكفاح سهلا لينا.


مع البرغواطين
وأخيرا وقف وجها لوجه مع قبائل برغواطة، هذه القبائل التي جاهرت بالكفر، وأنشأت ديانة خاصة بها، واستطاعوا أن ينتشروا بكثرتهم في مناطق تامسنا-الشاوية- الغنية بأرضها الممتازة بجودة تربتها، فكان لا بد أن يقف معهم موقف حياة أو موت، فهو لم يتهاون إزاء المترددين، ولم يضعف تجاه العصاة، فما بالك هؤلاء الذين استعصى أمرهم على كثير من الأمراء، ولم يستطع المغراويون-رغم محاولتهم العديدة- القضاء عليهم ولا الحد من نشاطهم فالواجب دعاه لان يقدم حربهم على كل شيء، ويخلص البلاد من مجوسيتهم التي دنست إرجاء هذا الوطن المومن.


والواقع أن برغواطة يرجع فسادها إلى (صالح ابن طريف) المتنبئ، وهو لرجل خبيث النزعة يهدي الأصل، قرأ كثيرا وتنقل في الأندلس والمشرق، ولم يجد مكانا خصبا لشعوذته ونفاقه إلا هذه البلاد التي أغرى أهلها واستطاع أن ينفذ إلى أعماق قلوبهم، واستهواهم بأساليبه الشيطانية حتى أصبحوا أطوع له من
بناته، وهناك شرع ينفذ فيهم تعاليمه، التي تحتاج على شرح طويل، وربما تناولناهم بالدرس في حديث مقبل بإذن الله.


لذلك فمحاربة هذه النحلة واجب أكيد، جند ابن ياسين من اجله كل جهوده، ولكن مع الأسف لم يشهد في ختامه نتيجة كفاحه، إذ استشهد-رحمه الله- بعد معارك طاحنة وملاحم شديدة. وهكذا أنطفا هذا النجم اللامع، وخبا هذا الشعاع الذي كان ينير الإرجاء. وكان القدر يرسم له خطوطه النهائية، ويهيئ له هذه الخاتمة النبيلة، التي لا تكون إلا للإبرار الممتازين. فقد انتهى هذا الشخص النبيل الإنساني العظيم، بدون ضجة أو عويل، وعلقته اوهاق المنية وهو يشهد هذا الصراع الجبار بين عقيدتين : عقيدة مخلصة تتعالى جذورها إلى السماء، وعقيدة زائفة بناها صاحبها لإغراض دنيئة ولغايات خسيسة... ولكنه ما مات حتى كان قد غرس شجرة أينعت وآتت أكلها، ولئن مالت في معركة فإن قومه تارعوا الكفاح حتى طهروا البلاد من هذا الدنس، واستطعوا أن يجعلوا نومة الرجل العظيم نومة مستريحة، حيث ارضي ضميره الحي، وأنقذ أمته من شر كان سيؤدي بها إلى الهاوية.

ونقل ابن ياسين بعد تجهيزه إلى قبيلة (زعير)، حيث دفن في الموضع المسمى اليوم (بكريفلة) وسكنت روحه هناك على ربوة تزار إلى الآن .وفيها يرفد هذا الصوت الذي جاهر بالحق وهو وحيد، وكافح ضد الباطل ونجح حيث يفشل الكثير.


ابن ياسين في الميزان
والآن وقد وصلنا إلى هذه المرحلة من حياة هذه الشخصية، وصورنا كفاح هذا الرجل العظيم في إنسانيته ونيله، ووضحنا قوة إيمانه التي حطمت كل العراقيل، وتغلبت على الشدائد رغم صعوبة المسعى وقلة الأمل. فهل دعوته دعوة الحق، أم كان يسعى إلى غايات أخرى ؟.
الواقع أن كل الدلائل كانت تشير إلى أنه كان يعزف عن كل شيء، وكان يهدف فقط إلى نجاح دعوة الله والدين الحق، وكانت سبيله-رغم ما فيها من قسوة أحيانا- سبيل المؤمن المضحي بهنائه وراحته من أجل سمو روحي وراحة فكرية.


فهذا عامل من عوامل نجاحه، وسر من أسرار تفوقه، فالرجل الذي يقبل الدخول إلى الصحراء وهو اعزل إلا من سلاح الإيمان، ويقاوم نزعات مختلفة تحكمت في أصحابها منذ القديم، وورثوها أبا عن أب واستطاع أن يحطمها ويبددها بسهولة، ثم يخلق من أصحابها أقواما جددا، صيغوا من جديد صياغة محكمة وتشبعت أفئدتهم بيقين غريب في بابه... هذا اليقين الذي دفع بهم إلى الأمام، وجعلهم أداة طيعة في يده، يصوغهم حسب النهج الذي يرتضيه، هذا الرجل، رجل عظيم جدا بدون جدال.


وعامل آخر يجب إلا ننساه، ويرجع إلى معرفته للنفسيات البشرية وطرق علاجها، وكيفية التغلب عليها، ومقاومة شرورها وتصريف طاقاتها تصريفا كله صلاح وحكمة، فلو كان ناقصا من هذه الناحية، وغير متعمق في هذا الفهم، لكان بالإمكان أن بفشل في دعوته ويخيب في مسعاه، ولأمكن أن يبقى في رباطه الذي بناه للعبادة، منزويا على نفسه، لا يذكر ولا يعرف ولا يسجل التاريخ عنه شيئا. وعامل ثالث أيضا يرجع إلى أن دعوته كانت دعوة إصلاح، بعيدة عن البهرج والزيف، والخرافات والضلالات، فلم يضع لنفسه رهبانية خاصة، ولم يفرض على إتباعه طقوسا معينة، إلا شعائر الدين والشريعة السمحة في صفائها ورقة جداويلها، ونبل إحساسها. ففتن الناس بالدعوة، ومالوا إليها عن إيمان، واعتنقوها عن رغبة، وتفانوا في الدفاع عنها بكل ما يملكون من طاقات للعمل.


وعامل رابع يجب أن لا نغفله عند الحساب، كان من الأشياء التي ساعدته على النجاح، وهيأت له سبيل الظفر، ذلك أن المغرب غذ ذاك كان يعيش في بركان هائج.


ودولة مغراوة وبنو بفرن يتقاسمان النفوذ فيما بينهما، وقد مل الشعب ملكهما الذي كان يعتمد على تقلبات وأهواء : سياسية الأندلس التي يديرها وينظم دفتها المنصور ابن أبي عامر، وسياسة القيروان التي يديرها ساسة العبيديين، ورغم أن زيري بن عطية حاول أن يرأب الصدع، ويجمع الكلمة، إلا أن الحالة كانت متأزمة والفوضى تضرب أطنابها، والأحوال في الاختلال. فكانت الظروف كلها تحتم قيام دولة متينة البناء، شامخة الأعمدة، تعتمد على إيمان جديد، وتتوفر على إمكانيات ضخمة من الرجال والقوة والعتاد، يكون سبيلها محو سلسة الظلم التي طوقت أعناق الرعية، وأذلت السكان.


لذا تقبل الناس قيام هذه الدعوة التي لم تكن تؤمل هذا النجاح،بالقبول الحسن، وساعدوها بالإعانة والتأييد، فالأحداث اليومية ساقته هذا المساق، وهيأت له هذا الفوز الغير المترقب، لذلك إذا كان يؤخذ على دعوته انه خرج بها من المنهج الديني الإرشادي، على منهج سياسي، وإنها أصبحت حركة تحرير بعد أن كانت حركة تطهير، فان دوافع متعددة هي التي ساقته بدون أن يكون قد وضع في حسابه هذا التقدير... ولو وكل غله الأمر لاكتفى بان يبعد عن كل مصلحة سياسية، وان يقتصر على دعوة الإرشاد والهدى، ولكن دوامة الإحداث غمرته من أخمص قدميه على قمة رأسه، فلم يجد مناصا من أن يتابع التيار، وان يترك الميراث لأبناء لمتونة ليتابعوا أداء الرسالة، التي بلغت قمة نجاحها، حين تسلم زمام الأمور البطل (يوسف بن تاشفين).


ومهما يكن فعبد الله ابن ياسين شخصية خصبة الجوانب جديرة بالاهتمام. وإننا بهذا العرض البسيط أنما قمنا ببعض الواجب، في الوقت الذي كثر فيه الحديث عن الصحراء، وانضمامها إلى الوطن الأم. فهذا واحد من أبناء الصحراء المصلحين سجلنا تاريخه في هذه الفترة الحاسمة لنرهن مرة أخرى على أننا امة واحدة، وان كان ذلك قد أصبح من الوضوح بحيث لم يعد بحاجة إلى برهان جديد.

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -