أخر الاخبار

رائد السلفية بالمغرب: المولى سليمان

 
رائد السلفية بالمغرب: المولى سليمان

رائد السلفية بالمغرب: المولى سليمان

كان السلطان سيدي محمد بن عبد الله يقول عن ولده المولى سليمان "إن ولدي سليمان رضي الله عنه لم يبلغني عنه قط ما يكدر باطني، فأشهدكم أني عنه راض" ويذكر المؤرخ الناصري في الاستقصاء(1) إن المولى سليمان لم يكن يلتفت قط إلى شيء مما كان يتعاطاه إخوته الكبار والصغار من أمور اللهو كالصيد والسماع وغيره وإنه لم يأت فاحشة من صغره إلى كبره.. إنما كان معتكفا على طلب العلم بسجلماسة، ومن أجل ذلك استحق أن يثاب من طرف والده، وأن يوفر له جميع الإمكانيات التي تساعده على الارتشاف من حياض العلم، فكان يختار له نخبة من العلماء والأدباء ليتلقى عليهم دروسه في مختلف العلوم فكان لكل ذلك أثره وانعكاساته على تكوينه الثقافي واستقامته الدينية والخلقية الأمر الذي أفاض فيه كثير من المؤرخين(2) والكتاب قدماء ومحدثين(3)وهذا ما يعفينا من الإطناب في غير النقطة التي نخصها بالدراسة، وهي موقفه من الطوائف ومحاربته للبدع الضالة، وقبل ذلك نرى من اللازم أن نذكر ولو باختصار أهم الطوائف والطرق التي كانت سائدة لذلك العهد، ما استجد منها آنذاك، وما امتدت جذوره إلى ما قبل ذلك التاريخ. وقبل ذلك نلقي نظرة خاطفة على الحركة الصوفية في المغرب وتطورها.
 كان من نتائج انحلال الدولة الإدريسية على يد الفاطميين بإفريقية، والأمويين بالأندلس بواسطة مناصري هؤلاء وأولئك من مغراوة وبني يفرن أن انتشر كثير من الأشراف الأدارسة في كثير من القبائل المغربية متنكرين منقطعين للعبادة زاهدين في الدنيا، دون أن نستبعد لجوء البعض إلى ذلك من أجل تكتيل الناس حوله بهذه الوسيلة لاسترجاع ما ضاع، على أن هذا لا يمنعنا من القطع بأن الكثير منهم زهد حقا في الدنيا وانقطع للعبادة والتبتل. فاعتصم الكثير من هؤلاء بجبالة والريف، والبعض الآخر بزمور، ولم تكن المنطقة الجنوبية تخلو من بعضهم ومن نسل هؤلاء بالجنوب سيدي أحمد أمغار وولده المولى إبراهيم، ومنهم في الشمال المولى عبد السلام بن مشيش وأبو الحسن الشاذلي وهكذا نشأت مراكز للعبادة منعزلة في الجبال ساهمت في نشر الإسلام بالقبائل، دون أن تصطبغ في أوائلها بالصبغة الصوفية، كما ظهرت مراكز أخرى بعيد انحلال دولة  الأدارسة لم يكن مؤسسوها من الأشراف الأدارسة، وإنما من بعض طلبة العلم من مثل "وجاج بن زالو" تلميذ أبي عمران الفاسي المستقر آنذاك بالقيروان، وعبد الله بن ياسين تلميذ وجاج، وعبد الله هذا هو الذي صحب يحيى بن إبراهيم الكدالي للقيام بتعليم مبادئ الدين الإسلامي للبرابرة، وقد كان يحيى  بعد رجوعه من الحج واتصاله بأبي عمران الفاسي طلب منه أن يبعث معه من يعلم الناس أمور دينهم، وهذا بعث معه خطابا إلى تلميذه وجاج الذي انتدب لهذه المهمة تلميذه عبد الله بن ياسين، فقام بمهمته أحسن قيام. إلا أن ارتداد بعض البرابرة، وتقاعس البعض الآخر عن تطبيق بعض شعائر الإسلام حمله على اللجوء إلى جزيرة تقع قرب مصب نهر السينغال، وهناك بنى رباطا استقر فيه مع جماعة من أصحابه الذين صدق إسلامهم، ولم تلبث الوفود أن توالت عليه من مختلف الجهات إلى أن كثر عدد المرابطين معه فحينئذ قرر عبد الله بن ياسين أن يخرج من مرحلة التعليم والإرشاد إلى مرحلة الجهاد لنشر الإسلام. وبهذا أعطى عبد الله بن ياسين لرباطه حيوية وفعالية فاقت ما كان عليه رباط أستاذه ابن زالو، وكان من ثمرة ذلك أن تأسست الدولة المرابطية وامتد إشعاعها في الدعوة الإسلامية جنوبا وشمالا. حتى إذا قوي ساعد هذه الدولة وامتد سلطانها رأينا الحرص الشديد لملوكها على الأخذ بالكتاب والسنة، وهذا ما يفسر مقاومتهم لبعض المتصوفة والفلاسفة وغيرهم من أصحاب الفروع، ومن هذا الجانب الذي كان يخشاه ملوك المرابطين لذغوا، فقد ظهر ابن تومرت تلميذ الإمام الغزالي صاحب إحياء علوم الدين، وشرع في نشر مذهبه علانية في مختلف مدن المغرب، وما أن استفحل أمره حتى ألقي عليه القبض وحمل إلى مراكش ليحاكم أمام جمع من العلماء بمحضر الخليفة المرابطي علي بن يوسف بن تاشفين، وقد أشعر العلماء هذا الأخير بخطورة الرجل، ونصحوه بوضع حد لحياته، إلا أن ورع الخليفة المرابطي حمله على الاقتصار على نفيه وفي تينمل انقطع لتوطيد مذهبه ونشر دعوته، ومن هناك انطلقت الشرارة الأولى للإطاحة بدولة المرابطين وقيام دولة الموحدين على أنقاضها، وعلى عهد هذه الدولة برز متصوفون كبار من أمثال أبي العباس السبتي، وأبي الحسن المسفر، وأبي محمد صالح الآسفي، وأبي يعزى، وأبي مدين الغوث وأبي عبد الله بن حرزهم دفين أكمة المعروفة باسمه قرب فاس، وأبي محمد صالح ابن ينصار الدكالي، وأبي الحسن الشاذلي الإدريسي الحسني، وهو مؤسس الطريقة الشاذلية بمصر، حيث أصبحت هذه الطريقة تنافس الطريقة القادرية في الشرق وفي المغرب كذلك، وحيث تعد الشاذلية منبعا لكثير من الطوائف والفرق المغربية، كما أن الشاذلية ترجع في أصلها إلى الطريقة المشيشية، ويعد الشاذلي أحد تلامذة المولى عبد السلام بن مشيش. ولا نغفل هنا ما أشيع عن المنصور الموحدي من أنه زهد في الملك واختار طريق الصوفية إلى أن مات بالشام مجهولا.
وما أن حل عصر بني مرين حتى اتسعت دائرة التصوف بالمغرب وبرز متصوفون كبار من مثل الشيخ أحمد بن عاشر، وزروق، وابن الدباغ المراكشي، وعبد الله بن يعقوب السملالي الجزولي، والشيخ عبد الله الغزواني الممتحن من قبل محمد الشيخ البرتغالي وغير هؤلاء كثير. وفي القرن التاسع للهجرة تدهورت الأحوال بالمغرب نتيجة التطاحن المريني الوطاسي، والهجمات المتكررة على الشواطئ المغربية من قبل الأسبان الذين أجلوا المسلمين من الأندلس وامتدت أطماعهم إلى ثغور المغرب لاحتلالها. وكان دور رجال التصوف في هذه الحقبة فعالا فقد دعا أكثرهم إلى الجهاد وساهموا بأنفسهم فيه، كما كان لهم دور هام في استتباب الأمر للسعديين، ولم يكد يحل القرن الحادي عشر للهجرة حتى كثرت الزوايا وتعددت حتى قاربت المساجد من حيث العدد أو أكثر. وطبيعي أن تعددها بهذه الدرجة يعني انتشار دعوة الصلاح والولاية والجذب عن حق حينا، وعن باطل أحيانا كثيرة، ولم تكن مناطق النفوذ العثماني بإفريقيا الشمالية تخلو من هذه الزوايا، بل إن الأتراك شجعوها وأوقفوا عليها الأوقاف لأغراض مختلفة. وتدعونا الأمانة التاريخية إلى الإشارة إلى أن ثلاثا من هذه الزوايا التي انتشرت في المغرب عرفت بالصلاح والعلم، وكان لها أثر قوي في الازدهار الثقافي بالبلاد، هذه الزوايا هي:
1) الزاوية الدلائية.
2) الزاوية الفاسية.
3) الزاوية الناصرية.  
على أن الزاوية الأولى لم تكن تخلو من أهداف سياسية، فلقد سيطرت بالفعل على عرش المغرب أزيد من عشرين سنة ضيقت فيها الخناق على النفوذ السعدي وقضت على المجاهد العياشي، كما أن الزاوية الفاسية قامت بدور هام في مساعدة المولى الرشيد العلوي على احتلال فاس بواسطة رئيسها الشيخ أحمد الفاسي رئيس زاوية القلقليين بفاس. ولا ينبغي أن يتبادر إلى الذهن أن التصوف المغربي نشأ وتطور في عزلة تامة عن عناصر خارجية أندلسية كانت أو شرقية، بل إنه استمد عناصر مختلفة من الأندلس وأخرى من الشرق كما أن التصوف المغربي كان له أيضا تأثير في التصوف المشرقي على يد أقطاب من مثل أبي الحسن الشاذلي المذكور سالفا. ولقد ظهرت نواة التصوف الأندلسي منذ بداية القرن الثاني الهجري على يد بعض الصالحين من مثل حنش بن عبد الله الصنعاني أحد التابعين، وميمون ابن سعد، وأبي الفتح الصدقوري وفرقد السرقسطي وغيرهم، ويشير الدكتور محمود علي مكي في مقال له عن التصوف الأندلسي(4) إلى كثير من الزهاد والمتصوفين في القرن الثاني والثالث والرابع، ومن أشهر من ذكرهم في القرن الثالث: ابن مسرة الجبلي القرطبي، كما أشار إلى بعض الأربطة والزوايا ويذكر أن التصوف الأندلسي على ذلك العهد كان متأثرا ببعض صوفية مصر كذي النون الأخميمي ويعترف بأن التصوف الأندلسي رغم بساطته إلى نهاية القرن الرابع كان "مقرونا بالعمل الصالح ولاسيما بالجهاد" ونحن نعلم أن الأندلس أنجبت فيما بعد متصوفين عظاما من مثل محيي الدين بن عربي الحاتمي، وأبي العباس أحمد بن عاشر الذي رحل إلى المغرب واستقر بسلا بخلوته قرب البحر، يتعبد ويعلم، وهو الذي يقول في التشوق إلى هذه المدينة وهو بفاس:
                              سلا كل قلب غير قلبي ما سلا
                                                  أيسلو بفاس والأحبة في سلا

بعد هذا نخلص إلى مختلف الطوائف والفرق التي كانت سائدة على عهد السلطان الصالح مولاي سليمان، وقد داخل معظمها كثير من الزيادات والبدع كاستعمال بعض الآلات التي كان لها تأثير قوي على جلب المريدين من العامة والفقراء، والواقع أنهم كانوا بهذه الوسيلة يؤثرون حسيا على الناس، فمن طبول ودفوف وبيادق وصرنايات تصك الآذان وتثير الأعصاب، إلى أنواع من البخور كالجاوي وغيره مما يؤثر في الأعصاب أيضا عن طريق حاسة الشم وكل هذا لا يدع لفقراء الطائفة ومريديها مجالا للتأخر عن الانخراط في الشطح والرقص وارتكاب كثير مما يخل بالمروءة كافتراس بعض الدواب، وشدخ الرؤوس وأكل الشوك وبعض الهوام السامة، والتعرض للنار إلى غير ذلك.

1) الطائفة القادرية:
تعزى إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني (471 هـ- 561 هـ) وهي طريقة في منبعها الصافي لا تجافي الكتاب والسنة، وكان لها الفضل الكبير في نشر تعاليم الإسلام في كثير من الأقطار بإفريقيا وآسيا، وقد اتسع نفوذ هذه الطائفة وكثر أنصارها الذين كونوا زوايا في مختلف البلدان ومن بينها المغرب، فلم تكن تخلو مدينة من مدنه من زاوية تعرف بالخلوة.

2) الطائفة التباغية:             
تنسب إلى الشيخ عبد العزيز التباغ المتوفى سنة 914.

3) الفرقة الغزوانية:
نسبة إلى الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد الغزواني المتوفى سنة 935. وإليها ينسب "أصحاب الناقة" حيث يطوفون بناقة مزينة على أرباب المهن والصنائع لجمع المال وذلك في العشر الأول من شهر ربيع الأول، وتذبح تلك الناقة في ضريح إبراهيم بن أحمد أمغار قرب مراكش، ومن عادتهم أيضا بيع الشموع وبعض الأشياء عن طريق المزايدة، وقد شاعت هذه الطائفة بكثرة في مراكش الجنوب المغربي عامة.

4) الطائفة العيساوية(5) :
نسبة إلى الشيخ أبي عبد الله محمد بن عيسى المعروف بالشيخ الكامل، والمتوفى آخر العقد الرابع من القرن العاشر الهجري بمكناس، وضريحه هناك معروف، وذكر أحد العارفين بهذا الموضوع أن الشيخ المذكور ابن سيدي عيسى دفين سوق أربعاء الغرب، وأن هذا أحد أبناء سيدي أحمد الصرصري الإثني عشر، وقد عاصر شيخ الطريقة العيساوية المولى إسماعيل، ويحكي عنه أصحابه كثيرا من الكرامات، وقد داخلت هذه الطريقة أساليب عن الطريقة الرفاعية المشهورة بمصر، فاستعمل أصحابها الدفوف والطبول والبيادق والصرنايات وغيرها مع استخدام الرقص والشطح، وأكل الشوك وافتراس الخرفان حية، وكانت أكثر الطوائف انتشارا في المغرب لدرجة أنه لم يكن يخلو حي من أحياء المدن الكبرى من فرقة تنسب إليها.

5) الطائفة الرحالية:
رئيسها الشيخ رحال الكوشي المتوفى في نهاية العقد الخامس من القرن العاشر الهجري.

6) الطائفة الشرقاوية:
منسوبة إلى الشيخ أبي عبد الله محمد الشرقاوي المتوفى سنة 1010 هجرية.

7) الطائفة الإبراهيمية:
نسبة للشيخ إبراهيم بن حسان المتوفى سنة 1072.

8) الطائفة الصادقية:
تنسب للشيخ أبي العباس أحمد بن عبد الصادق السجلماسي المتوفى سنة 1065 هـ.

9) الطريقة الناصرية:
تنسب للشيخ محمد بن ناصر الدرعي المتوفى سنة 1085.

10) الطريقة الحمدوشية:
رئيسها الشيخ علي بن حمدوش المتوفى في العقد الرابع من القرن الثاني عشر، وربما أتت هذه الطريقة في الدرجة الثانية من حيث الانتشار بعد الطائفة العيساوية، وقد اشتهر أصحابها بشذخ رؤوسهم بالشواقير وقطع الحديد وبعض أواني الطين.

11) الطائفة القاسمية:
نسبة للشيخ علي بن أبي القاسم الملقب بأبي سجدة والمتوفى في أوائل العقد الخامس من القرن العاشر.

12) الطريقة الغازية:
للشيخ الغازي بن العربي السجلماسي المتوفى حوالي العقد الرابع من القرن الثالث عشر.

13) الطريقة الطالبية:
منسوبة للشيخ أبي العباس أحمد بن الطالب السجلماسي المتوفى في العقد الثالث من القرن الثالث عشر.

14) الطائفة الوزانية:
نسبة للشيخ أبي محمد عبد الله بن إبراهيم الحسني الإدريسي المتوفى سنة 1080.

15) الطريقة التهامية:
نسبة للشيخ مولاي التهامي الوزاني المتوفى سنة 1127 هـ.

16)الطائفة التيجانية:
نسبة إلى الشيخ أبي العباس أحمد التيجاني المتوفى سنة 1230 هـ وهناك طوائف أخرى من مثل البونية والمختارية والدرقاوية والعمرية وغيرها، باختلاف انتشارها وشيوعها في أنحاء البلاد، وانحصار البعض الآخر في بعض المناطق أو المدن. وقد شاع أيضا التسكع باسم الدين، على أننا إذا لم نسمح لأنفسنا بالنيل من مثل أولئك الشيوخ أو الطعن في صلاحهم وزهدهم فإن الذي لا ينبغي تجاهله هو أن مختلف تلك الطرق، عرفت تغيرات 
مختلفة عما كانت عليه على يد مؤسسيها، الأمر الذي خرج بالكثير منها عن الجادة وأصبحت بعيدة كل البعد عما قصده أصحابها الأوائل، ومن ثم يمكن أن نسجل المضاعفات التالية:
1- تغالي أصحاب كل طائفة في تقديس مؤسسها.
2- إشاعة كثير من الخوارق التي صدرت عن كل من هؤلاء وفيها الكثير من الاختلاق والتشويه.
3- استغلال العامة وذوي الأغراض المختلفة بشتى وسائل الانتهاز. (أ) جمع الدراهم لأجل إقامة المواسم والذبائح على الأضرحة (ب) بيع بعض الأشياء بالمزاد العلني من أجل البركة وقضاء الأغراض.
4- اعتقاد الناس عامتهم وخاصتهم بأن خدمة هذه الطائفة أو تلك يحقق ما يتمنونه من مال أو جاه أو شفاء من الأمراض.
5- تعصب كل جماعة لطائفتها وتعدد الطائفة الواحدة إلى عدة فرق يستنكر بعضها البعض. ويحارب بعضها الآخر، ونستشهد هنا فقط بما أورده الزياني عن الطائفة التيجانية من أنها كانت تدعي أن أورادها تغني عن سائر الأوراد في الدين والدنيا، كما ذكر أن شيخهم التيجاني كان يقول: "من سلك طريقتي دخل الجنة، ومن خالف طريقتي دخل النار، وطريقتي تدخل على كل طريقة، ولا تدخل عليها طريقة غيري، ومن تمسك بطريقتي فهو آمن في الدنيا والآخرة" وقوله أيضا حسبما ذكره الزياني "هذا الذي لقنتكم أخذته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشافهة من غير واسطة "وأمرني أن أعين لكم تصلية إن قرأتموها في حلقة يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسطكم". ويقول الزياني بعد ذلك: "ولما شاع عنه من هذه الأباطيل والأناجيل المؤذنة بزندقته وانكشف حاله وبلغ أمير المؤمنين مقالاته وكذباته لم يسعه إلا الإعراض عنه ووكل أمره إلى الله تعالى". ويذكر ابن الموقت في رحلته عن أنصار الطائفة التيجانية قوله: "ومن تغاليهم في محبته ما تفوهوا به في حقه، ونقلوه عنه في كتبهم المؤلفة في سيرته، وهو كما في جيشهم وغيره أنه قال: "صلاة الفاتح لما أغلق" تعدل ستة آلاف ختمة من القرآن(6).
ويذكر الزياني الشيء الكثير عن الشيخ التيجاني وحياته، ومن ذلك أنه نفي من تلمسان من قبل الباي أحمد بن عثمان صاحب ولاية وهران، وذلك من أجل اشتغاله بتدليس النقود وسوء عقيدته كما يقول، ومن هنالك انتقل إلى قرية أبي صمغون جنوب الجزائر، ثم رحل إلى فاس بعد أن بلغه تهديد الباي عثمان أهل قرية أبي صمغون إن بقي بين أظهرهم. ولما وصل إلى فاس كتب رسالة إلى المولى سليمان يطلب منه الإذن بالإقامة بهذه المدينة، لأنه هاجر من ظلم الأتراك، فأذن له السلطان بذلك، وقد اجتمع به فوجده متقشفا وله اطلاع في مختلف العلوم، فقدره وأكبره، وأهداه دارا من دياره يذكر الزياني أن السلطان أنفق في عمارتها عشرين ألف مثقال و"رتب له ما يكفيه" فهل يدخل له كل هذا في نطاق حملة الزياني ضد خصوم الأتراك وعلى رأسهم الوهابيون الذين اتصل بهم الشيخ التيجاني بالصحراء كما يذكر الزياني على وجه الاحتمال (لعل هذا المبتدع اتصل بهم) وكما يذكر صاحب الاستقصا من مشاطرة التيجاني للوهابيين الرأي في مسألة منع زيارة أضرحة الأولياء؟ فهل كان اضطهاد الأتراك للشيخ التيجاني ناشئا عن تشبعه بمذهب الوهابيين ونشره لدعوتهم، ومن ثم اضطهدوه ونفوه وأشاعوا عنه أنه مدلس محتال؟ ومن ثم استحق نقمة الزياني كما استحقها الوهابيون خصوم الأتراك الذين لم ينس الزياني ما أضفوه عليه من أبهة وإجلال في سفارته إليهم على عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله، ورحلته أيام السلطان مولاي سليمان، وقد علمنا في مقال سابق عن "أكنسوس" تحامل الزياني على الأديب حمدون ابن الحاج الذي أجاب على رسالة الوهابي ابن سعود بإذن من السلطان مولاي سليمان كما يذكر أكنسوس في الجيش، إننا نرجح كل ذلك يحفزنا على ترجيحه عدم تحامله بنفس الدرجة على الطوائف الأخرى من مثل عيساوة وغيرهم، وإن كان لم ينس التنديد بجميع الطوائف وأصحاب البدع الضالة، مكتفيا بالإشارة فقط إلى عيساوة في الترجمانة عندما شبههم بالطائفة الرفاعية بمصر الذين "يأكلون الأفاعي كطائفة عيساوة بمغربنا" وينوه الزياني جد التنويه بموقف السلطان مولاي سليمان من تلك الطوائف وجميع البدع.   والحق أن التاريخ يسجل لهذا السلطان الصالح مواقف خالدة في هذا الباب، فإنه وهو السلطان العالم المتضلع في علوم الدين الملتزم بإقرار السنة وتطهيرها من كل الأوشاب لم يتأخر عن الإجابة على رسالة الوهابيين بواسطة الأديب حمدون ابن الحاج، بعد أن لمس صدق هذه الدعوة ومطابقتها للكتاب والسنة، وذلك بعد اتصال وفد من العلماء الذين أرسلهم للحج برئاسة ابنه إبراهيم بابن سعود بمكة، ومذاكرتهم مع هذا الأخير حول عدد من المسائل(7). ويذكر الزياني في الترجمانة أن السلطان مولاي سليمان كتب خطبة من إنشائه لخطباء المساجد "حذر فيها من اتباع أهل البدع والإنكار عليهم، ونهى عن الاجتماع في المواسيم بالإنشاد والآلة والرقص، وأوعد بالعقوبة إن لم ينتهوا" وقد ساق نص الخطبة.
فبعد الحمدلة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وتذكير الناس بضرورة طاعة الله ورسوله وأولي الأمر يقول: "ولهذا نرثي لغفلتكم وعدم إحسانكم واستيلاء الشيطان عليكم بالبدع على أنواعكم وأجناسكم، فألقوا لأمر الله آذانكم، وأيقظوا من نوم الغفلة أجفانكم" إلى أن يقول: "واتركوا عنكم بدع المواسيم التي أنتم بها متلبسون، والبدع التي يزينها أهل الأهواء ويلبسون، وافترقوا أوزاعا، وانتزعوا الأديان والأموال انتزاعا بما هو صراح كتابا وسنة وإجماعا، وتسموا فقراء، وأحدثوا في دين الله ما استوجبوا به سقرا "قل هل ننبئكم بالآخرين أعمالا الآية" وكل ذلك بدعة شنيعة، وفعلة فظيعة، وشيمة وضيعة، وسنة مخالفة لأحكام الشريعة، وتلبيس وضلال، وتدليس شيطاني وحبال زينه الشيطان لأوليائه فوقتوا له أوقاتا، وأنفقوا في سبيل الطاغوت في ذلك دراهم وأقواتا وتصدى له أهل البدع من "عيساوة وجلالة" وغيرهم من ذوي البدع والضلالة والحماقة والجهالة، وصاروا يرتقبون للهوهم الساعات، وتتزاحم على حبال الشيطان وعصبه منهم الجماعات، وكل ذلك حرام ممنوع، الإنفاق فيه إنفاق غير مشروع". وفي مكان آخر يقول: "فليس في دين الله ولا فيما شرع نبي الله أن يتقرب إلى الله بغناء وشطح، والذكر الذي أمر الله به، وحث عليه، ومدح الذاكرين به هو على الوجه الذي كان يفعله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن على طريق الجمع ورفع الأصوات على لسان واحد، فهذه سنة السلف، وطريقة صالحي الخلف، فمن قال بغير طريقهم فلا يستمع، ومن سلك غير سبيلهم فلا يتبع" ومن هنا يتبين أنه لا يقتصر على استنكار الطوائف التي تقوم بأعمال منافية للدين، بل إنه يستنكر حتى الطوائف التي تقتصر على تلاوة الأوراد جماعة بصوت واحد، ويذكر أن التقرب إلى الله لا يكون "بالبدع والمعاصي بل بما يتقرب به الأولياء والصالحون، والأتقياء المفلحون بأكل الحلال وقيام الليالي ومجاهدة النفس في حفظ الأحوال، بالأفعال والأقوال، البطن وما حوى، والرأس وما وعى، وآيات تتلى وسلوك الطريقة المثلى، وحج وجهاد، ورعاية السنة في المواسيم والأعياد، ونصيحة تهتدى وأمانة تؤدى، وخلق على خلق القرآن يحدى، وصلاة وصيام، واجتناب مواقع الآثام، وبيع النفس والمال من الله "إن الله اشترى من المؤمنين الآية" ويقول بعد سوق الآية الكريمة: "وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه": الصراط المستقيم كتاب الله وسنة رسول الله، وليس الصراط كثرة الرايات والاجتماع للبيات، وحضور النساء والأحداث وتغيير الأحكام الشرعية بالبدع والأحداث والتصفيق والرقص وغير ذلك من أوصاف الرذائل والنقص" ثم يذكر واجب أولي الأمر في محاربة هذه البدع "فيجب على من ولاه الله من أمر المسلمين شيئا من السلطان والخلائق أن يمنعوا هؤلاء الطوائف من الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يدين لله واليوم الآخر أن يحضر معهم أو يعينهم على باطلهم فإياكم ثم إياكم والبدع فإنها تترك مراسيم الدين خالية خاوية، والسكوت على المناكر يحيل رياض الشرائع ذابلة ذاوية" ثم يذكر بعواقب شيوع البدع في قوم حيث يحيط بهم سوء عملهم وكسبهم ويظلم ما بينهم وبين ربهم، وتنقطع عنهم الرحمات وتقع فيهم المثلاث الخ.." وذلك "لأن سوء الأدب مع الله يفتح أبواب الشدائد، ويسد طريق الفوائد والأدب مع الله يتلخص في نظر السلطان الصالح في ثلاثة أشياء:

1) حفظ الحرمة بالاستسلام والاتباع.
2) رعاية السنة من غير إخلال ولا ابتداع.
3) مراعاتها في الضيق والاتساع لا ما يفعله اليوم هؤلاء الفقراء، فكل ذلك كذب على الله وافتراء".

  ويختم المولى سليمان خطبته القيمة بالإنذار والتهديد لمخالفي السنة النبوية: "وها نحن عباد الله أرشدناكم وحذرناكم وأنذرناكم، فمن ذهب بعد لهذه المواسم، أو أحدث بدعة في شريعة نبيه أبي القاسم فقد سعى في هلاك نفسه، وجر الوبال عليه وعلى أبناء جنسه، وتله الشيطان للجبين، وخسر الدنيا والآخرة الخ". ويلاحظ أن صاحب الاستقصاء استشهد في إشارته إلى هذه الخطبة بفقرة ثم ترد في النص الذي أورده الزياني في الترجمانة، هذه الفقرة هي: "من الغلو البعيد ابتهال أهل مراكش بهذه الكلمة "سبعة رجال" فهل كان لسبعة رجال شيعة يطوفون عليهم" ويضيف صاحب الاستقصا إلى أن قال: "فعلينا أن نقتدي بسبعة رجال، ولا نتخذهم آلهة لئلا يؤول الحال فيهم إلى ما آل إليه في يغوت ويعوق ونسرا". والخطبة حافلة بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية. ويقول أبو القاسم الزياني بعد أن يسوق خطبة للقاضي عياض أوردها ابن الخطيب في الإحاطة: "هذه الخطبة أحسن ما رأيت من الخطب المقتبسة من كتاب الله العزيز التي أنشأها أئمة التبريز فإن قابلتها مع خطبة مولانا أمير المؤمنين ألفيتها كالعقيم مع ذات البنات والبنين".
ولقد كان لها أيضا صدى عند الشعراء، فهذا الشاعر أحمد الحبيب الرشدي يمدحها ويمدح السلطان مولاي سليمان بقصيدة طويلة أوردها الزياني في الترجمانة ومنها قوله:

يا حسنها من خطبة أحيا بها
              ما مات من سنن الشيوخ المجد
نصح الورى نصحا بليغا شرحه
              ينسى فحــول العلم كــل مجلــد
هي نقطة من بحره بركاتها
             عمت وجــاءت بالعلــوم الســرد
فيها دعا الله قوما أعلنوا
             بالشطح والتصفيق والفعل الردي
جعلوا مواسم ما لها في سنة
             أصل بأضـرحة الفحــول الزهــد

إلى أن يقول:
حتى رماهم ربنا بنواقب
             من عدل سيدنا الهــمام الأجــود
فأقامهم والله راض عنه في
             سجن المهــانة بالمقــام الأبعــــد
يدعو العباد لربهم ويدلهم
             أبدا على نهج الصواب الأرشــد
وكذاك شأنه ليس تحدث بدعة
             إلا محــاهــا باللســــان وباليــــد

 وقد حرص الاستعمار فيما بعد على تشجيع تلك الطوائف حتى عادت أشد مما كانت عليه، وقامت الحركة السلفية بدورها في محاربة البدع بتوعية المواطنين، ونشر رسالة مولى سليمان السالفة الذكر بتحقيق الأستاذ الجليل سيدي إبراهيم الكتاني وكان لكل ذلك أثره في إخمادها لسنين طويلة.
على أن مجهودات السلطان مولاي سليمان في نشر السنة ومحاربة البدعة لم تقف عند هذه الخطبة، بل تعدتها إلى تأليف عدة كتب موضحا فيها نظر الشريعة في بعض البدع، ومن ذلك كتابه "إمتاع الأسماع بتحرير ما التبس من حكم السماع" أي ما كان منه بآلة أو غيرها، ورسالة بعنوان "جواز التجمير منها بالقسط في رمضان" بل إنه لم يكن يكتفي بما يؤلفه هو من كتب في هذا الميدان، وإنما كان يوعز إلى بعض العلماء الأكفاء بذلك ومن هذا النوع "رسالة في العقائد" مجهولة المؤلف لعل الهدف منها كان تلقين الأطفال الصغار مبادئ الدين بأسلوب مبسط. ويحق لنا أن نقول في النهاية أن المولى سليمان كان رائد السلفية بالمغرب. 

(1) الاستقصا ج 8 ص 86
(2) الزياني في الروضة "السليمانية" وأكنسوس في "الجيش" وغير هؤلاء
(3) مقال الأستاذ عبد القادر الصحراوي في دعوة الحق عن المولى سليمان ع 4 ص 10
(4) دعوة الحق- عدد 8 و9 ص 7
(5)  اعتمدنا في ذكر هذه الطرق على كتاب "الرحلة المراكشية تأليف محمد بن الموقت ج 1 من ص 140.
(6) الرحلة المراكشية ج 1 ص 152.
(7) تراجع هذه المحاورة في دعوة الحق ع 3 س 12 في مقال "إكنسوس".

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -