كثيرون هم من عارضوا الملك الراحل الحسن الثاني… قليلون هم من صرحوا بذلك علانية… أحد هؤلاء كان هو الراحل عبد الرحيم بوعبيد.
الدستور يجب أن يصدر عن مجلس استشاري منتخب. قبول إجراء استفتاء في الصحراء يعود للشعب… هذا غيض من فيض وطنية جمة، جعلت هذا القيادي الاتحادي في محطات عديدة على طرفي النقيض مع الملك الراحل.
في ذكرى ميلاده الـ97، نخيط بين أبرز محطات حياة عبد الرحيم بوعبيد، لننسج بعضا من ملامح سيرته النضالية والسياسية، التي خلفت، وفق كثيرين، فراغا كبيرا في المشهد السياسي المغربي بموت صاحبها بداية تسعينيات القرن الماضي.
في خطابه أمام القمة الإفريقية التي أجريت عام 1981 بنيروبي، عاصمة كينيا، أعلن الملك الراحل الحسن الثاني، قَبول المغرب إجراء استفتاء في الصحراء. بعد الخطاب، أصدر حزب الاتحاد الاشتراكي بلاغا عن المكتب السياسي، يشجب الخطوة التي قام بها الملك.
جاء في بلاغ الحزب، يومها، أنه ينبغي العودة إلى الأمة عن طريق الاستفتاء في ما يتعلق بالسيادة الترابية. وبالتأكيد، لم تكن هذه الجرأة لتمر على الملك مرور الكرام.
بعد يومين، كان عدد من قياديي الحزب قد اعتقلوا، وأصدرت عليهم محكمة الرباط الابتدائية أحكاما تتراوح بين سنة حبسا غير نافذ، وسنتين مع النفاذ… من بين هؤلاء، عبد الرحيم بوعبيد، الذي قال يومها كلمة في المحاكمة اشتهرت في ما بعد:
“هذه المحاكمة سيكون لها تاريخ، فأنتم لكم الأمر ونحن نقول: رَبّ السجن أحب إلي من أن ألتزم الصمت، وأن أقول رأيي في قضية مصيرية وطنية ومقدسة”.
كان عبد الرحيم بوعبيد في هذه الفترة التاريخية أحد أهم وجوه حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. أكثر من ذلك، فقد كان كاتبا أولا للحزب؛ كما أنه راكم على مدى عقود تجربة نضالية كبيرة. لا يخاف في قوله لومة لائم كما يشهد بذلك من عاصروه، بل إنه وجد نفسه في محطات كثيرة في مواجهة ملك البلاد، شخصيا، لما كانا عليه من تناقض في الرؤى.
يؤكد الصحفي لحسن لعسيبي[1] أن قضية الصحراء ظلت محورية في مسار بوعبيد السياسي، إذ كان من أوائل القادة السياسيين من المعارضة الذين لم يكونوا متحمسين لـ”مغربية موريتانيا”، بقدر ما عبروا عن التزام وطني صارم في ما يتعلق بهذا الملف.
عارض بوعبيد مشروع أول دستور للمملكة، ورأى أنه ينبغي إعداده من طرف مجلس استشاري منتخب، ثم شارك في حملات تدعو إلى مقاطعته وترأس عددا من التجمعات الشعبية بخصوص ذلك.
هكذا، ورغم ظروف القمع والمواجهة السياسية مع الدولة، كان القصر كلما اتصل ببوعبيد للمشاركة في وفود مغربية رسمية، أو كمبعوث شخصي للملك إلى عواصم عالمية وازنة، إلا ووجدته، غير متردد، راكبا في الطائرة مسافرا باسم المغرب للدفاع عن قضية الصحراء.
اقرأ أيضا: “سيرج بيرديغو.. سفير الموروث اليهودي المغربي!”
مثال على ذلك، وفق لعسيبي، مشاركته ضمن الوفد المغربي المتوجه إلى هيأة الأمم المتحدة بنيويورك عام 1974، ولعبه لدور محوري في هندسة الاستراتيجية المغربية للدفاع عن مغربية الصحراء، ضدا على المخطط الإسباني الذي رام منح الاستقلال للصحراء “الغربية”، لكن تحت إدارة إسبانية.
انتخاب بوعبيد عام 1975 كأول كاتب أول للحزب بعد تغيير اسمه من الاتحاد الوطني إلى الاتحاد الاشتراكي، وإعادة انتخابه فيما بعد، لثلاث ولايات، لم يكن حبا في عينيه الجميلتين كما يقول الفرنسيون! إنما مسار بوعبيد السياسي، قد اختطه منذ باكر العمر، قبل استقلال المغرب بكثير.
التحق بوعبيد بخلايا المقاومة وكتلة العملة الوطني وهو لم يبلغ سن الرشد بعد. كان يعد الباكالوريا حينما التقى بأحد أبرز وجوه المعارضة في تاريخ المغرب الحديث، المهدي بنبركة، في ثانوية مولاي يوسف بالرباط… وقد كان عمل الكتلة، في هذه الفترة، منصبا على تأطير الجماهير ونشر الوعي بالمطالب والحقوق قصد الدفاع عنها.
قبل ذلك، تحديدا في 11 يناير 1944، سجل عبد الرحيم بوعبيد اسمه كأصغر الموقعين على وثيقة المطالبة باستقلال المغرب، وقد اعتقلته السلطات الفرنسية على إثر ذلك مرتين.
عبد الرحمن اليوسفي: لولا عبد الرحيم بوعبيد، لعاش المغرب عواصف هوجاء.
بوعبيد لم يكف عن تسجيل اسمه في سجلات التاريخ عند هذا الحد، فقد شارك في مفاوضات “إيكس ليبان”، عام 1955، بين ممثلي الحركة الوطنية والسلطات الفرنسية، تمهيدا لاستقلال المغرب، وسافر أيضا للقاء الملك محمد الخامس في منفاه، ذات العام، في وفد لحزب الاستقلال.
بعد الاستقلال، تقلد بوعبيد عدة مناصب سياسية بارزة، فقد عين كأول سفير للمغرب في باريس، وكان وزيرا في عدة حكومات (مبارك البكاي، عبد الله ابراهيم، أحمد بلافريج)، للاقتصاد والمالية مرتين، ووزير دولة مكلف بشؤون المفاوضات مرة واحدة… بعد هذه الفترة بالذات، بدأ الاصطدام بالملك الجديد، الحسن الثاني.
عارض بوعبيد مشروع أول دستور للمملكة، ورأى أنه ينبغي إعداده من طرف مجلس استشاري منتخب، ثم شارك في حملات تدعو إلى مقاطعته وترأس عددا من التجمعات الشعبية بخصوص ذلك.
مما يروى عنه، أنه قال في أحد الاجتماعات، عام 1963، بعد إقرار الدستور:
“إننا نواجه خيارا أساسيا… إما أن نستمر كشعب وكمنظمة متجذرة في الجماهير، في النضال من أجل تحرير بلادنا من الاستعمار والإقطاع والرجعية، وإما أن نقبل نصا دستوريا مزورا ومعدا من قبل كتبة الاستعمار… إذا كان الأمر ينبغي أن يكون كذلك، فستكون لدينا مسؤولية ارتكاب جريمة بحق الأجيال المقبلة”.
اقرأ أيضا: “ثريا الشاوي.. أصغر وأول قائدة طائرة في المغرب، إفريقيا والعالم العربي! 1\3”
بالموازاة، كان بوعبيد الذي ولد يوم 23 مارس 1922، بمدينة سلا، يشتغل محاميا بهيأة الرباط منذ انخراطه فيها عام 1949. مشوار حياته هذا، الذي زاوج فيه بين السياسة والمحاماة، لم يكن غريبا بالنظر إلى مشواره الدراسي.
بوعبيد حصل على الشهادة الابتدائية في مدينته الأم، قبل أن يلتحق بالرباط، ليتم دراسته بثانوية مولاي يوسف، كما أسلفنا
الذكر، حاصلا فيها على شهادة البروفي والباكالوريا. ثم كان قد سافر إلى باريس عام 1945، حيث نال الإجازة في القانون، ودرس بمعهد الدراسات السياسية.
بعد مشواره السياسي الطويل، ترجل عبد الرحيم بوعبيد عن صهوة الحياة عن عمر يناهز 69 عاما، في 8 من يناير 1992. اعتبارا لإرثه النضالي، حظي بوعبيد بجنازة مهيبة يومها… خلال مراسم التأبين، قال القيادي السابق في الحزب، عبد الرحمن اليوسفي، الذي سيخلفه على رأس الاتحاد الاشتراكي بعد ذلك، إنه لولا عبد الرحيم بوعبيد، لعاش المغرب عواصف هوجاء.
الراحل قبل أيام من رحيله، كان كأنما قد أحس بدنو أجله. ففي آخر لقاء جمعه بأعضاء المكتب الوطني للشبيبة الاتحادية، خاطبهم بنبرة المودع قائلا: “لقد قدت سفينة الاتحاد، وما قمت به صدر من القلب والفؤاد، واليوم أوصيكم بحزبكم، الذي هو أمانة في عنقكم”.
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.