“كملات الباهية”.. مثل شعبي مراكشي بامتياز، جرى على ألسنة أهل مراكش زمن طويلا، قبل أن يصبح مثلا دارجا يسري على ألسنة جميع المغاربة، وذلك للإشارة لهول المصيبة، أو للإحالة على ازدياد الأوضاع سوءا بعدما كانت سيئة في الأصل.
والأصل في المثل الشعبي”كملات الباهية”، حسب الرواية الشفهية، هي قصر الباهية، الواقع بين حومة رياض الزيتون الجديد وحي الملاح، لصاحبه أحمد بن موسى البخاري، سليل جيش البخاري، المعروف بـ”(البا احماد)، والذي شغل منصب الحاجب قبل أن يشغل منصب الصدر الأعظم، الذي ورثه عن أبيه، هذا الأخير الذي كان ضالعا في إزاحة أسرة الجامعيين من المربع الحاكم.
تقوت شوكة أبا حماد، ذي الشخصية الحازمة، الصارمة، الفضة والغليظة، وبشكل خاص، عندما لعب دورا حاسما في تنصيب المولى عبد العزيز سلطانا، ليصبح الوصي على العرش، وبالتالي أصبحت له اليد الطولى في كل شيء. حيث عين أشقائه ومقربين منه في المناصب الحكومية، وبالتالي أصبح الحاكم الآخذ بزمام الأمور، والمتمكن من جميع مفاصل الحكم.
العشق سر بناء الباهية
وتحكي الرواية الشفوية أن (أبا احماد) هذا، أغرم بشابة رائعة الجمال، من أصول رحمانية، اسمها “بهية”، وهي نجلة “ابن داوود”، باشا مراكش حينها، فطلبها للزواج ووافق الباشا رغم فارق السن، إذ ليس بمقدوره رفض طلب الصدر الأعظم.
أغرم (أبا حماد) بالفتاة، ودفعه الحب، إلى التفكير في أن يقدم لها هدية لم يسبقه إليها أي من كبار القوم في تاريخ المغرب، فشرع في تشييد قصر قل نظيره في ذلك الزمان، وسماه باسمها قصر “الباهية”.
اقتنى (البا أحماد) 60 دارا و14 من الحدائق الفسيحة، وشيد عليها هذا القصر العظيم، حيث تم الشروع في عملية البناء سنة 1866، وظل ورش البناء مفتوحا لعقود، في كل مرحلة يضيف إليه مساحات أخرى.
وبالرغم من بأسه و حزمه وشدته، بحيث لا يمكن لمعاونيه أن يقرروا في أية كبيرة أو صغيرة إلا ورجعوا إليه، غير أنه بعد زواجه من “بهية”، وأثناء إشرافه على قصرها، كلما سئل في أمر إلا ورد على السائل: ”حتى تكمل الباهية”، ما يعني أن كل الأمور ظلت متوقفة إلى أن ينتهي اكتمال بناء قصر الباهية، وما أن حلت سنة 1900، حيث لم يصبح أمام المشرفين على البناء والتشطيب، إلا مغادرة القصر، جاء نبأ وفاة الصدر الأعظم، والذي لم يقطف ثماره ويستمتع ببهاء أروقته ويهنأ بروعته وعظمته، ولم يتنزه في أرجاء حدائقه برفقة معشوقته. ما شكل فاجعة لزوجته بهية أولا، ومصيبة لكل أشقائه والمقربين منه.
نهاية مأساوية للباهية وأقاربها
لم تتحمل بهية وفاة (البا أحماد)، إذ ستفارق الحياة بعد أقل من سنتين على وفاة زوجها، وقبل ذلك تم نفي والدها، باشا مراكش “عياش بن داود”، وجميع أفراد أسرته وأقاربه وتم تتريكهم، وبعد ذلك تم نفي جميع أفراد أسرة (البا أحماد)، ما جعل أهل مراكش، ومنذ ذلك الحين، يسري على ألسنتهم المثل الدارج (كملات الباهية)، في الإشارة إلى النهاية المأساوية لصاحبه وكل المقربين منه.
و للإشارة فقط، فإن لقصر الباهية أربع مداخل، المدخل المعروف اليوم، الواقع على مقربة من حي الملاح، تم فتحه خلال عهد الحماية، أما الثاني، وهو المدخل الأصلي للرياض في اتجاه حومة رياض الزيتون الجديد، ثم مدخل ثالث في اتجاه “دار زنيبر”، وهو رياض خصصه (البا أحماد) للأمين زنيبر السلاوي، المكلف بالمحاسبة لديه، ثم مدخل أخر في اتجاه حومة “جنان ببشكرة”.
وقد تزامن بناء قصر الباهية، مع رياض زنيبر و دار السي سعيد، وهو شقيق (أبا احماد) و أحد وزراءه، وهي البنايات غير البعيدة عن عرصة بوعشرين، الخاصة بـ الطبيب اليمني بوعشرين” الوزير الاول في عهد محمد بن عبد الرحمان.
الباهية وما جاورها ذاكرة وإرث لأهل مراكش
لهذه الحومة إذن، تاريخ عريض، وتفاصيل عن أحداث ووقائع شكلت جزءا من تاريخ مراكش أولا، وجزءا من تاريخ المغرب ثانيا. وبالتالي فإن كل هذه البنايات والمواقع هي جزء لا يتجزأ من ذاكرة أهل مراكش. ذلك، ان كل سارية أو جدران أو زخرف أو نقش على الجبس أو الخشب، يحوي تفاصيل من ذاكرتنا/ ذاكرة المراكشيين. وهو ما جعل الوطنيين يحولون بعض هذه البنايات التي ضمت حاكمين وأحداثا، يحولون بعضها إلى مدارس (مدرسة ميمونة، بصابة بن داود في اتجاه رياض الزيتون القديم)، التي كانت مملوكة لعباس بن داود، شقيق الباشا بن داوود وصهر البا احماد.
أما دار السي سعيد، التي شيدت بالتزامن أيضا مع قصر الباهية، وكانت مكتبا و مستقرا لشقيق أبا حماد، سعيد بن موسى، وزير المالية، او ما يطلق عليه حينها (العلاف)، فقد تحولت إلى متحف تابع لوزارة الثقافة.
* تنبيه !
- سوف يتم نشر تعليقكم بعد مراجعته
- التعاليق التي تحتوي على كلمات نابية وأرقام الهواتف أو نشر روابط أو إشهار لجهة ما لن يتم نشرها.