أخر الاخبار

أحمد الحو العائد من المشرحة... في ضيافة جواهري المحمدية (2)

 

أحمد الحو العائد من المشرحة

أحمد الحو العائد من المشرحة... في ضيافة جواهري المحمدية (2)

alyaoum24

بعد اعتقالات غشت 1983، تمت مداهمة بيت العائلة في أوقات متأخرة من الليل وبشكل همجي، ولم أكن وقتها بالبيت ولا علم لي بما وقع لعائلتي من تخويف وترهيب واعتقال للوالد يرحمه الله وحجز الوثائق الرسمية، من دفتر الحالة المدنية وبطائق التعريف الوطنية وغيرها، كأني بهم قد أصدروا حكما بالنفاذ المعجل ضدهم لسحب المواطنة والجنسية عن العائلة لتصبح من الـ(بدون)، كل ذلك كان في غفلة مني، حيث كنت قد اخترت قبل ذلك الذهاب في رحلة استجمام لأتمتع بزرقة البحر والسماء المشمسة وجمال الطبيعة، وأخذت فترة لاستراحة المحارب في انتظار ما ستكون بلا أدنى شك ليال حالكة، جاهلا بما يسلط على عائلتي من أصناف القهر والظلم والتنكيل، كأني بهم يؤدون ثمن قناعاتي ونضالي، ولم أكن أعلم أنها المرة الأخيرة التي سأنعم فيها برؤية جمال الطبيعة ورغد الحياة وولعي بالبحر وهو جنوني اللا متناهي، كانت فرصة مواتية لأعيد ترتيب أفكاري وإعادة حساباتي للاستمرار في طريق النضال، كان المخيم عبارة عن وقفة دعيت لها وبعض الشبيبة أبناء مدينتي مع أصدقاء التقيناهم وكانوا هم أيضا قد انشقوا خلال سنوات خلت، وكانوا يوصفون بالخط الثورى المناقض للخط الانبطاحي والرافض لخط الشبيبة، فهم انشقوا بعد أن تكاثرت سقطات قيادتها التاريخية واختاروا لأنفسهم عنوانا هو “جند الإسلام”، كانوا متأثرین كثيرا بثورات أمريكا اللاتينية وبکهنوت التحرير فيها وبكنيسة الفقراء، ومتأثرین بالثورة الإسلامية في إيران، عندما كانت الثورة ترفع شعار وحدة الأمة وتحرير فلسطين، لم يكن يظهر عليهم آيّ نزوع وشرود مذهبي، خصوصا مع تبنيهم لمنظرين شيعة معتدلين من أمثال الشيخ حسين فضل الله والشيخ باقر الصدر المختطف وعلي شربعتي. وقد أعجبت كثيرا بالنقد الذي قدموه لمسار حركة الشبيبة وبالزخم الفكر الثوري الذي يحملونه، وعن النضال والاختلاف والتدافع في إطار مقارعة الرأي بالرأي، ولكني وعدتهم أن أبقي خيوط التواصل معهم دون أن أعلن انتمائي لهم، فأنا بعد هذه التجربة المريرة كنت أحتاج لفترة تأمل، ولأتأكد من تكريس الخطاب في أرض الواقع دون الاكتفاء بالأقوال والنوايا، عدت إلى بيت العائلة، وقبل أن ألجه لاحظت أن الوجوه مکفهرّة، فتبادر إلى ذهني أن خطبا شديدا أو أمرا ما حزينا ألم بالحي، قد تكون وفاة عزيز أو إفراغ لجيران لم يؤدوا واجب الكراء، أو أن مصيبة عظمى قد أحاطت بأهل الحي، أسئلة كثيرة تتناثر في ذهني، وما إن ولجت البيت حتى علمت أني مطلوب بإلحاح لدى مركز الشرطة بمدينتي، ولما علمت بهول ما تعرضت له عائلتي، قلت في نفسي: أنا المعني بالأمر وأنا المسؤول عن العمل الذي قمت به، ولا يمكن أن تؤدي عائلتي ثمن قناعاتي السياسية، أدیت صلاة الاستخارة وكنت مستعدا لأداء ضريبة ما قمت به، ولم أكن لأقبل أن أكون ذلك المتواري الذي يختبئ وراء مأساة عائلة برمتها، وهي لا ناقة لها ولا جمل في أمر خططت له مع آخرين من الأول إلى آخر نفس، فقررت تسليم نفسي، رغم أن العائلة أصرت علي أن أذهب إلى مكان مجهول، وأنها مستعدة لتتحمل كل التبعات، لكني رفضت وطلبت منهم أن يكونوا هم من يسلموني للشرطة، وكنت أعتقد أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد شبهة كما في السابق، أو في أسوأ الأحوال غرامة من أجل جنحة العبث بطلاء جدار أو مخالفة بعدم الإشعار، أو في تقديري أن يصدر حكم مخفف في حقي، لأن ما قمت به كان مجرد تعبير عن رأي، ولم يصاحبه أي عمل مقترن بجرائم الدم قولا أوفعلا، ولم يخطر ببالي أنني بعملى هذا قد أحطت رقبتي بحبل المشنقة عن اختيار وسبق إصرار.

وما أن علم المحققون بحضوري إلى المركز حتى انقضوا علي انقضاض الأكلة على فريستها، قيدوني وسط وابل من الضرب والركل وأصعدوني إلى مكتب رئيسهم العميد الممتاز الجواهري، لتبدأ جولات التحقيق المضنية، وضعوا ورقة في جيبي وسألوني عن بعض المعلومات وقالوا لي: ستجد ما ستجيبنا به متطابقا مع ما سألناك عنه في تلك الورقة، قلت في نفسي: ما داموا يعرفون، فلم يسألونني؟ فالأمر أحد اثنين، إما أنها خدعة وإما أنهم يريدون إذلالي، وأنا الذي لم أعترف أمامهم بشيء حينما تم استدعائي بمكتبهم فيما سبق، وقد أخبروني أنهم توصلوا بتوبيخ من رؤسائهم بسببي، حيث سبق لهم أن استجوبوني ولم يحرروا حتی محضر استماع لي، ولما أنكرت جملة وتفصيلا التهم المنسوبة إلي، أنزلوني إلى الطابق السفلي حيث يوجد البيت الأسود المخصص لكل صنوف التعذپب المنهجي، وقبل أن يبدؤوا جولة التعذيب عرضوا علي أحجاما مختلفة من السياط وأدوات التعذيب وأنواعا من السوائل المنظفة والقاذورات تستعمل للخنق، والقارورات المخصصة للاغتصاب وآلة الصعق الكهربائي، ولما لاحظوا أن الأمر لم يغير من نفسيتي شيئا، عمدوا إلى أول جولة من التعذيب، ستتبعها جولات أخرى، حيث أجلسوني القرفصاء وعصبوا عيني وشدوا وثاق الرجلين واليدين وعلقوني بما يسمى “الطيارة”، فكان نصف جسمي إلى الأسفل ورجلاي إلى الأعلى، وكانت السياط تنهال تباعا على بطن قدمي، وحين كنت أصرخ من شدة الألم، كانوا يقولون لي إذا کنت تريد أن تعترف ما عليك إلا أن ترفع أصبعك، ولما كان الألم يصل إلى حد لا يطاق كنت أرفع أصبعي حتى يتوقفوا، وبعد أن يسألوني أجيبهم: فقط إن سياطهم ألمتني فرفعت أصبعي، فتزداد السياط أكثر ضراوة، وبعد ذلك انتقلوا إلى طريقة الخنق بوضع قماش فوق فمي مع غلق أنفي بأيديهم، ليتم صب السوائل المنظفة كالصابون والكريزيل، والقاذورات مثل البول، ولقد أدركت حينها أني أعينهم على خنق نفسي عندما أمتنع عن بلع السوائل، لأني لحظتها أحسست أن روحي ترفرف فوق رأسي من شدة الخنق، فبدأت أبلع كل تلك العفونة التي يصبونها على القماش الذي فوق فمي، ولأن الخنق لم يعد يجدي، فقد انتقلوا إلى تعليقي بطريقة الديك، فقد ربطوا يديا وأنا منبطح على بطني، ووضعوا عصا حديدية تمر عبر اليدين والرجلين وتمرر فوق الظهر، لأكون معلقا بشكل مقوس وبطني إلى الأسفل، ووضعوا فوق ظهري جسما ثقيلا ثم ضغطوا بأرجلهم لتكسير الظهر وإيلامه، وهم يضربون بالسياط على بطن القدمين. وبعد أن أدرکوا أنهم قد أصابوني بحدة في ظهري، طرحوني أرضا وحاولوا أن يعذبوني بالصعقات الكهربائية في المواضع الحساسة من جسدي، إلا أنهم تراجعوا بعد أن علموا أني قد خارت قواي، وقد كانت تدوم الحصة الواحدة أزيد من أربع ساعات، وأذكر أنهم عند كل جولة من التعذيب كانوا يصبون على الأرض ماء ساخنا ممزوجا بالملح، ويقولون لي: ارقص برجلك في الماء، وفهمت من بعد أنهم كانوا يجبرونني على فعل ذلك حتى تختفي آثار وتعفنات التعذيب، وحتی لا تكون شاهدة على جرمهم. بعد ذلك يأخذوني إلى خارج مركز الشرطة، وكانت عائلتي ما زالت مرابطة قرب الباب ولمحت أختي تبكي لما رأتني وهم يحملونني والدماء تسيل مني من شدة التعذيب، ووضعوني في سيارة للشرطة، وقد علمت أنهم ماضون بي نحو بيت أحد أصدقائي، ليوهموه أنني أنا الذي وشيت به، وهم الذين سبق أن داهموا بيت عائلته كما باقي البيوت عندما كنا معا في رحلة الاستجمام، فدخلوا إلى بيته واعتقلوه، شعرت أن ما فعلوه بي كان أقسى علي من سياطهم، أنا الذي بقيت لساعات طوال تحت التعذيب دون أن أنبس بأي اسم، كان الألم يعتصرني بقوة، ولم أتمالك نفسي حتی جمعت كل آلامي وهمست بقوة في أذن صاحبي أني لم أقل لهم شيئا، ورغم أن أحدهم قد وجه إلي لكمة قوية فقد ارتاحت نفسي وهدأت بعد أن نبهت زميلي، وما أن حطت بنا السيارة الرحال بالمخفر، حتی انهالوا عليه بالركل والصفع، وأجلسوني إلى الجدار، وشرعوا في استنطاقه، فكان يعترف وهم يقولون لي: اسمع أيها المنحرف يا بن الـ(ق. .)، كنت أتفهم عدم قدرته على الصمود، لكن اعترافاته نزلت علي كحمام بارد، علما أن من أقسى لحظات التعذيب أن تجد زميلا لك يعترف بكل ما أنكرته؛ متيحا الفرصة لكي يشمت بك جلادوك، وقد علمت بعدها أن الاعتقالات شملت معتقلين من كل الشرائح، خصوصا التلاميذ والطلبة وبعض العمال.

يتبع…

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -